ثمة مقولة سائدة منذ شهور، في أوساط المراقبين العرب والغربيين للشأن العربي على السواء، أن تونس هي الاستثناء الوحيد في حركة الثورة والتغيير العربية. ففي تونس، فقط، وبعد أربع سنوات على انطلاق شرارة هذا الحراك الجماهيري الكبير، تعقد اليوم انتخابات ديمقراطية، تعددية، وبصورة سلمية ومقبولة من كافة الأطراف. وفي تونس، فقط، وجد حزب إسلامي سياسي لم يسع إلى التفرد والاستحواذ. وفي تونس، بدون غيرها، حافظت القوى السياسية على سلمية تدافعها. لهذه الأسباب، وأخرى، شبيهة بها، تصل تونس اليوم إلى بر الأمان، بعد أن وضعت دستوراً توافقياً وأدارت انتخابات برلمان ما بعد الثورة الأول في أجواء شفافة وبعيدة عن الصراع الوجودي الذي يكاد يسم التدافع والصراع السياسي في كافة دول الثورة الأخرى. الحكم بأن هذه المقولات كلها وبصورة كاملة غير صحيحة، ليس صحيحاً ولا منصفاً. جزئياً، على الأقل، هي صحيحة، بلا شك، ولكنها صحيحة فقط في سياقها الخاص. أما الأصح، فإن تونس تعيد، من جديد، التوكيد على الفرضيات الرئيسية لحركة الثورة العربية، وللثورة العربية المضادة.
تونس هي شرارة الثورة العربية، وهي بذلك إحدى ساحات الصراع البارزة على روح العرب ومستقبلهم، ولكنها ليست الساحة الرئيسية. وبالرغم من احتدام المعارك في سورية وليبيا واليمن، فقد كان واضحاً منذ 2011 أن مصر ستكون المحدد الرئيسي لمصير حركة الثورة والتغيير في المجال العربي. لم تعد مصر هي الدولة الأكثر تأثيراً في الثقافة العربية، كما كانت طوال معظم القرن العشرين؛ ولا هي قادرة على مواجهة حاجاتها الاقتصادية كما كانت في النصف الأول من القرن الماضي؛ ولا أن مدنها هي الأجمل والأكثر جاذبية في الشرق؛ ولم يعد نظامها التعليمي فخراً لأحد. كما إن قرار الدولة المصرية لا يجد الصدى نفسه الذي كان يجده في مصر الناصرية، أو حتى عندما حسمت مصر الملكية مستقبل الجامعة العربية، وافتتح السادات عصر السلام العربي الرسمي مع الدولة العبرية. ولكن مصر ليست أكبر دول العرب وأثقلها سكاناً، وأن أبناءها ينتشرون في كافة الدول العربية، ولا هي تحتل موقعاً مركزياً في المجال العربي، وحسب، بل ثمة رابط خفي أيضاً بين العرب ومصر، رابط لا يمكن تفسيره إلا بذلك الخيط الرفيع الذي يربط التاريخ بالمستقبل، وكأن العرب يشعرون أن صعودهم على مسرح العالم مشروط بصعود مصر. ولذا، فما إن أطلقت الثورة المصرية عملية التغيير الهائلة، حتى خرجت المدن العربية جميعها تقريباً، من بيروت وصنعاء، إلى تونس والرباط، تحتفل بما بدا أنه منعطف الخلاص العربي كله.
وهذا، أيضاً، ما جعل مصر هدف الثورة العربية المضادة الأول والأساس. وربما لم تكرس موارد مالية وسياسية في نصف القرن الأخير لإجهاض التحول الديمقراطي في بلد كما كرست في مصر. ولكن من السذاجة تصور أن نشاطات الثورة العربية المضادة اقتصرت على مصر.
كانت تونس هي الأخرى مستهدفة، وقد حاولت قوى الثورة المضادة بالفعل إجهاض عملية التحول طوال العام الماضي، 2003. وإلا فكيف تفسر حركة الاغتيالات البشعة، ذات الطابع السياسي البحت، التي شهدتها تونس خلال عامي حكومة التحالف الثلاثي، التي قادتها النهضة. كيف يمكن تفسير اضطرار التحالف الثلاثي، بقرار من النهضة، التخلي عن الحكم، بالرغم من أنه ظل يتمتع بالأغلبية النيابية في المجلس التأسيسي. وكيف يمكن تفسير الإمكانات الهائلة، بمقاييس تونس، التي وفرت لحزب نداء تونس، وقدرته الكبيرة نسبياً على الحركة والعمل وإعادة لم شتات أنصار النظام السابق، ومن اعتادوا التضحية بالحرية والكرامة الإنسانية مقابل الأمن. وحتى بعد الانتخابات البرلمانية التعددية الأولى، لم يزل المسار الديمقراطي في تونس مفتوح على الاحتمالات، بالرغم من أن المخاطر التي تحيط بهذا المسار ليست كتلك التي تعيشها دول عربية أخرى.
ثمة من يقول، بالطبع، أن حكمة النهضة وتجنبها الاستفراد هو الذي ساعد على نجاة تونس من رياح الثورة العربية المضادة. وليس ثمة شك في أن النهضة تتمتع بقيادة حكيمة، بصيرة، وشجاعة في الآن نفسه، شجاعة في مواجهة التحديات وفي اتخاذ القرارات الصعبة معاً. هذه الحكمة والشجاعة هي التي جعلت النهضة ترى أن الانسحاب من الحكم هو أحد أسلحة المواجهة، أيضاً، ضد الثورة المضادة وقواها المختلفة، سيما بعد أن أفضت إطاحة إدارة مرسي إلى تغيير ملموس في ميزان القوى الإقليمي. وقد اضطرت النهضة للتراجع عن قانون العزل، والسماح لقيادات النظام البائد، في سابقة لم تعرفها الثورات من قبل، بالمشاركة في الحياة السياسية، تجنباً لاندلاع حرب أهلية أو استمرار مناخ عدم الاستقرار. ولكن مقارنة تونس بمصر يستدعي مقارنتها باليمن وليبيا وسوريا والعراق، كذلك. ثمة لغط كبير حول تفرد الإخوان في مصر، وسعي إدارة مرسي إلى أخونة الدولة المصرية. مثل هذا اللغط، كما أشرت في هذا الموقع من قبل، لا يجب أن يرى إلا باعتباره جزءاً من المعركة الدائرة بين حركة الثورة والثورة المضادة في المجال العربي، ولا أكثر من ذلك.
توجه تهمة التسييس (والأخونة في هذا السياق) عادة لمحاولة السيطرة على جهاز الدولة، وليس لنوعية مستشاري الرئيس ومساعديه، المعينين سياسياً دائماً، ويفترض رحيلهم مع قدوم إدارة منتخبة جديدة. والمؤكد بعد إطاحة مرسي أن عدد موظفي الدولة الذين أخرجوا من مواقعهم لم يصل لعشرة. وحتى مساعدو الرئيس ومستشاروه، الذين خرج بعضهم إلى المنافي أو اعتقلوا، لم يكونوا جميعاً من الإخوان؛ وأن الوزراء من خلفية إخوانية في وزارة هشام قنديل الأخيرة كانوا قلة صغيرة، بينما لعب الوزراء الأساسيون في الوزارة أدواراً كبيرة ومتفاوتة في إطاحة الرئيس. ولأن اتهامات التفرد والأخونة كانت مجرد في معركة إطاحة الرئيس وإيقاف عملية التحول الديمقراطي، رفضت عدة قوى سياسية مصرية دعوات المشاركة في الحكم، مترقبة إطاحة الرئيس المنتخب وإدارته.
المهم، أن أحداً لم يتفرد في ليبيا واليمن وسوريا والعراق، ولا حاول طرف أسلمة أو أخونة أياً من هذه الدول. وليس فقط أن الإسلاميين لم يتفردوا في اليمن وليبيا، بل أن اليمنيين قبلوا بنائب الرئيس المطاح به رئيساً جديداً، وبأن تتشكل حكومته من كافة الأطراف، بما في ذلك الحزب الحاكم السابق. وتشكل النظام الانتقالي في ليبيا بصورة شبيهة إلى حد كبير. أما في العراق وسوريا، حيث يدور الصراع ضد الطائفية والاستبداد معاً، لم يبرز الإسلاميون، والإخوان منهم على وجه الخصوص، باعتبارهم قوة المعارضة الرئيسية، بأي صورة من الصور. بالرغم من ذلك كله، أصبحت هذه الدول جميعاً، اليمن وليبيا وسوريا والعراق، ميادين معركة بالغة الشراسة والدموية بين حركة الثورة والتغيير وقوى الثورة المضادة، في اصطفاف سافرليبيا، واصطفاف مستبطن بين الحوثيين وأنصار صالح في اليمن، واصطفاف طائفي في سوريا والعراق.
ما الذي يعنيه هذا كله، إذن؟ ثمة تطورات تاريخية متشابهة، ومترابطة بصورة ملموسة، أطلقت حراكاً ثورياً عربياً، طال بعضاً من الدول بصورة واضحة، وكاد يصل إلى دول أخرى. وكما كل الثورات الشعبية في التاريخ الحديث، ولدت حركة الثورة ثورتها المضادة، سواء من بين الشرائح التي استند إليها النظام القديم، أو من دول المحيط الإقليمي العربي التي تصورت تهديداً وشيكاً لوجودها وأسس نظامها الاستبدادي، أو حتى بين القوى الدولية المتضررة. في دول عربية، نجحت الأنظمة القائمة في عزل مجتمعاتها، ولو إلى حين، عن رياح الثورة.
في دول أخرى، قابلت الأنظمة شعوبها في منتصف الطريق. في دول ثالثة، يجري صراع محتدم وبالغ العنف بين قوى الثورة والثورة المضادة، بحيث يحرز هذا المعسكر تقدماً هنا، ويجبر الآخر على تراجع هناك. ولكن الصراع لم يزل مستمراً، والمستقبل القريب لم يزل مفتوحاً على الاحتمالات.
تونس، هي المثال الأبرز والأهم في هذه اللحظة على إمكانية انتصار عملية الثورة والتغيير، ومضيها قدماً إلى الأمام، ونحو مرحلة ضرب جذورها بعيداً في عمق الأرض.