ترجمة وتحرير: نون بوست
يُبنى الآن في مصر عاصمة إدارية ضخمة جديدة، تقع على بُعد حوالي 45 كيلومترًا شرق القاهرة على رقعة من الصحراء تعادل مساحتها دولة سنغافورة، إذا مشيت أو قدت سيارتك عبر القاهرة، ستميل للاعتقاد بأن الحكومة المصرية بدأت العمل بهذا المشروع المُكلِف عدة مليارات الدولارات لتلبية احتياج عاجل.
في الحقيقة؛ العاصمة الحالية تعمل بصعوبة، فالوزارات والسفارات المحيطة بميدان التحرير وسط القاهرة تعيق شرايين المدينة، حيث تُغلق العديد من الشوارع لضمان تأمين تلك المباني وقاطنيها، ويصبح من المستحيل أحيانًا الانتقال من مكان لآخر، والأكثر من ذلك أن العاصمة المزدحمة حاليًّا بعدد سكان يبلغ 22 مليون نسمة، من المتوقع أن يتضاعف عددهم بحلول عام 2050.
لذا من السهل أن نعتقد أن العاصمة الإدارية الجديدة أمر ضروري، حيث من المتوقّع أن تضمَّ السفارات والهيئات الحكومية والبرلمان و30 وزارة ومجمع رئاسي و6.5 مليون نسمة عند انتهائها.
يبدو كذلك أنها لن تنقل المباني الإدارية فقط خارج القاهرة، بل ستخلق المساكن التي تشتدُّ الحاجة إليها، والأكثر من ذلك أن الحكومة تعهّدت بتخصيص 15 متر مربّع من المساحات الخضراء لكل مواطن في العاصمة الجديدة.
ستضم العاصمة الجديدة “نهر أخضر” مركزي، وهو مزيج من المياه المفتوحة والمساحات الخضراء المزروعة، التي تبلغ مساحتها ضعف مساحة سنترال بارك في نيويورك، لذا يُسوَّق للمشروع على أنه جهد مبذول لمواجهة التلوث وكيف تصبح مصر أكثر اخضرارًا.
سيحصل الجيش على عائدات مالية ضخمة بمجرد انتهاء العاصمة الجديدة، والأكثر من ذلك أن هذه المكاسب لن تخضع للتفتيش من قبل السلطات المدنية.
لكن إذا نظرت تحت السطح، والأهم من ذلك تتبّعت الأموال، فسوف ترى بوضوح أن هذا المشروع أكثر بكثير من مجرد مجهود إيثاري تقوم به الحكومة لدفع الاحتقان عن القاهرة، وتحسين الظروف المعيشية لسكان المدينة.
الجيش يدفع والجيش يستفيد
من المتوقع أن تكلِّف العاصمة الإدارية الجديدة حوالي 40 مليار دولار، يملك الجيش المصري 51% من الشركة التي تشرف على مشروع “العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية” (ACUD)، بينما تملك وزارة الإسكان 49%.
إن الدور الهائل الذي يلعبه الجيش في تمويل المشروع، دليل على الخلط بين المدنيين والعسكريين في بلد يديره جنرال جيش سابق، الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي وصل إلى السلطة في أعقاب الانقلاب الذي أطاح بمحمد مرسي، الرئيس المنتخب بشكل ديمقراطي في البلاد.
والجيش لن يدفع فقط للمشروع، لكنه سيجني أرباحًا مالية هائلة من هذا السعي الطموح، فالشركة التي يملك الجيش النسبة الأكبر من أسهمها، هي المسؤولة عن بيع الوحدات السكنية في العاصمة الجديدة.
الأكثر من ذلك أن الشركة مسؤولة أيضًا عن بيع أو إدارة المباني في القاهرة، والتي سيتم إخلائها بعد نقل الهيئات والوزارات والسفارات للمواقع الجديدة، بعض هذه المباني في قلب القاهرة حيث تطلُّ على ميدان التحرير ولها قيمة كبيرة.
هذا يعني أن الجيش سيحصل على عائدات مالية ضخمة بمجرد انتهاء العاصمة الجديدة، والأكثر من ذلك أن هذه المكاسب لن تخضع للتفتيش من قبل السلطات المدنية، فالحكومة لديها رقابة ضئيلة على الأمور المالية للجيش.
يبدو أن العاصمة الإدارية الجديدة ستخدم فقط تجمع جديد محاط بسور للأغنياء، ولن تقدم الكثير لتلبية احتياجات السكن لسكّان القاهرة الفقراء المحرومين.
هذا الجهد المبذول في البناء نفسه يعدّ فرصة اقتصادية ضخمة، فلبناء مدينة جديدة لا تحتاج فقط لتمويل بل أيضًا للأسمنت والطوب والأدوات الكهربائية والنجارة ومعدات الأمن، والأهم من ذلك القوة العاملة، وهكذا هذا المشروع فرصة لخلق وظائف تشتدُّ الحاجة إليها ولتجديد الصناعات الأساسية في مصر مثل البناء.
لكن هناك مخاوف من أن المشروع لن يساعِد فقط الصناعات الأساسية في البلاد، والشركات المتعثِّرة للوقوف على قدمَيها مرة أخرى، لكن سيسمح كذلك للجيش بغرز مخالبه في الاقتصاد المصري.
فعلى سبيل المثال، يملك الجيش القدرة على توفير الحديد والأسمنت اللازمَين لإنهاء البناء في المدينة الجديدة، الأكثر من ذلك أنه يملك القدرة على الوصول إلى قوة عاملة أرخص عن طريق استخدام المجنّدين الذين يحصلون على رواتب قليلة، وهكذا يبدو أن الجيش سيحصل على غالبية المكاسب من هذا البناء غير المسبوق.
مدينة جديدة للأقلية الثريّة
لا يبدو واضحًا حتى الآن من سيكون قادرًا على العيش في العاصمة الجديدة فور انتهائها، فالوحدات السكنية هناك تُباع بأسعار عالية، حيث شقة مكوَّنة من غرفتَين في العاصمة الجديدة يبلغ ثمنها 50 ألف دولار، وهو مبلغ كبير ليس بمتناول العديد في بلاد يصل فيها نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي لحوالي 3 آلاف دولار.
لذا يبدو أن العاصمة الإدارية الجديدة ستخدم فقط تجمع جديد محاط بسور للأغنياء، ولن تقدِّم الكثير لتلبية احتياجات السكن لسكان القاهرة الفقراء المحرومين.
إذا لم تتخذ الحكومة خطوات عاجلة لضمان أن أبواب المدينة الجديدة ستكون مفتوحة للمواطنين الفقراء، فإن المشروع الجديد لن يقدِّم سوى مساعدة قليلة للمصريين المحرومين، لهذا يرى الكثيرون أن العاصمة الإدارية الجديدة إضاعة ضخمة للموارد.
إذا كان المشروع لن يساعد الشعب ولن يزيد من دعمهم للحكومة، فلماذا يتجه السيسي نحوه بذلك الجهد الهائل؟
يقول النقّاد إن المال الذي سيُنفق على بناء العاصمة الجديدة، كان من المفترض استخدامه لتحسين الظروف المعيشية للأجزاء الفقيرة التي ستُعرف قريبًا بالقاهرة القديمة، وردًّا على تلك الانتقادات قالت الحكومة إن المدينة ستضم مساكن اجتماعية، لكنها لم تقدِّم أي تفاصيل حول موعد بناء تلك الوحدات ومتى ستصبح متاحة للمحتاجين.
كل هذا يعيد إلى الأذهان نظام حسني مبارك وسقوطه، فالعقد الأخير من حُكم مبارك كان مدعومًا من زمرة من الرأسماليين الأغنياء الذين ساعدوا على نمو الاقتصاد، لكنهم في الوقت نفسه منعوا وصول فوائد ذلك النمو للقطاعات الأكثر فقرًا في المجتمع.
ومن أحد أبرز الشعارات في مظاهرات ثورة يناير 2011، التي أطاحت بنظام مبارك، كان “العدالة الاجتماعية”، لذا بهذا المشروع -الذي سيجعل الأغنياء أكثر ثراءً والجيش أقوى وسيساهم في زيادة التوزيع الخاطئ للموارد- يبدو أن السيسي يعيد الأخطاء نفسها التي تسبّبت في سقوط مبارك.
لكن إذا كان المشروع لن يساعِد الشعب ولن يزيد من دعمهم للحكومة، فلماذا يتجه السيسي نحوه بذلك الجهد الهائل؟
الاستقرار والشرعية والإرث
ربما لن تقدِّم العاصمة الإدارية الجديدة الكثير للمواطنين العاديين، لكنها ستقدِّم بعض الفوائد الرئيسية للرئيس السيسي.
أولًا؛ هذا المشروع الجديد سيساعد على جلب الشركات المصرية القوية لجانب السيسي، لقد كان للقطاع الخاص نفوذ اقتصادي وسياسي بارز في عهد مبارك، لكن بعد صعود السيسي للسلطة تعرّض للتهميش من قبل الجيش، وتراجع ليصبح لاعبًا ثانويًّا.
في الاقتصادات الليبرالية الجديدة مثل تلك التي في مصر، تحتاج السلطات الحكومية إلى دعم القطاع الخاص للحفاظ على الاستقرار، والسيسي يعلم أن مجهود البناء الضخم -مثل بناء العاصمة الجديدة- هو أفضل طريقة لكسب تلك الشركات.
هذا المشروع الجديد سيساعد السيسي على السيطرة على أي ثورة مستقبلية ضد نظامه وتعزيز سلطته.
وبينما من المرجّح أن يفوز الجيش بمعظم الفوائد من هذا البناء للعاصمة الإدارية الجديدة، فإن المشروع ضخم ومُربح للغاية حتى أنه سيخلق فرصًا للقطاع الخاص.
فعلى سبيل المثال، تولّت واحدة من أكبر شركات المقاولات المصرية -مجموعة طلعت مصطفى- تأسيس “نور سيتي”، وهو مشروع مدينة ذكية في العاصمة الإدارية الجديدة، هذه المشروعات تمنح القطاع الخاص حافزًا لدعم الحكومة كما توفِّر عائدات ضريبية كبيرة، فمن المتوقع أن تدرَّ “نور سيتي” عائدًا ضريبيًّا يقدَّر بحوالي 7 مليارات دولار.
وستمنح العاصمة الجديدة كذلك للسيسي الشرعية التي يحتاجها بشدة.
تعدّ الجماعات الشخصية مظهرًا هامًّا في السياسة المصرية، فعلى مرِّ السنين حاول حكّام مصر مرارًا وتكرارًا إثبات شرعية حُكمهم بإطلاق أسمائهم على المدن والمباني والطُّرُق والجسور، فهناك مدينة باسم رئيس مصر السابق أنور السادات وعشرات الجسور والطُّرُق التي تحمل اسم حسني مبارك.
ورغم أن المدينة الجديدة لا تحمل اسم السيسي، إلا أنها مشروعه الرئيسي وميراثه، فزياراته المنتظَمة للمدينة تغطيها وسائل الإعلام الرسمية بشكل مكثّف، تجعل من المستحيل أن تفكر في المدينة الجديدة دون أن تفكر فيه، والمسجد الرئيسي للعاصمة الإدارية الجديدة يحمل اسم “الفتاح العليم” وهما من أسماء الله الحسنى، لكن البعض يعتبرهما إشارة إلى اسم الرئيس حيث أن اسمه الأول عبد الفتاح.
وأخيرًا، وربما الأكثر أهمية، سيساعد هذا المشروع الجديد السيسي على السيطرة على أي ثورة مستقبلية ضد نظامه وتعزيز سلطته، بالعودة إلى عام 2011 كان واضحًا للجميع أن مبارك فقدَ سلطته في اللحظة التي فقد فيها السيطرة على ميدان التحرير الاستراتيجي.
سيطر المتظاهرون على ميدان التحرير في 28 يناير/ كانون الثاني 2011، وأسَّسوا ما عُرف باسم “جمهورية التحرير” وعيّنوا وزراء لحكومة رمزية، وصنعوا جهازهم الأمني الخاص، وأحرقوا مقرّات الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم المطلّ على الميدان، وفجأة فقدَ نظام مبارك شرعيته.
في يونيو/ حزيران 2012، ذهب مرسي يوم انتخابه إلى التحرير وحيّا الحشود، وفتح سترته ليرى الناس أنه لا يرتدي قميصًا واقيًّا ليظهر لهم أنه ممثِّل لهم وليس خائفًا منهم، لقد سيطر على ميدان التحرير وبالتالي على مصر.
ستساعد العاصمة الإدارية الجديدة الجيش والحكومة على تعزيز سلطتهما، وستساعد القطاع الخاص على جني المال وتقوية علاقاته مع الحكومة والولاء لها.
بعد عدة أشهر لاحقة امتلأ الميدان بمعارضي مرسي، واحتفلوا بإقالته من السلطة، خلال ذلك كله كان السيسي بلا شك يدوِّن ملاحظاته، وأصبح مدركًا أن ميدان التحرير مفتاح كسب السلطة والاحتفاظ بها في مصر.
وهكذا بعد صعوده للسلطة، عمل على تجريد الميدان من مكانته كمكانٍ لتقرير شرعية الأنظمة المصرية، وأصبح من المستحيل الآن على الشعب السيطرة على ميدان التحرير وتحدي شرعية نظام السيسي، فقد ملأت الحكومة المكان بالآثار الفرعونية وحرّاس الأمن الخاص لضمان عدم احتشاد المعارضين فيه.
والآن، للحدِّ من أهمية الميدان، سيتمّ نقل مركز ثقل البلاد ومؤسساتها الهامة ومقاعد السلطة إلى واحة اصطناعية محصّنة صحراوية، تبعد 45 كيلومترًا عن القاهرة.
في 11 فبراير/ شباط 2011، مشى شعب مصر من ميدان التحرير إلى قصر مبارك الرئاسي لإجباره على التنحّي، وبمجرد انتقال الرئيس إلى العاصمة الإدارية الجديدة، فإن مظاهرات الإرادة الشعبية تلك لن تصبح ممكنة مرة أخرى.
لقد أكدت الدولة بالفعل أن العاصمة الجديدة تكون مأمّنة جيدًا بأحدث أنظمة المراقبة الإلكترونية، والأهم من ذلك أنها ستكون بعيدة للغاية عن ميدان التحرير، وأي ميدان عامّ آخر اعتاد المصريون على التجمع فيه للتعبير عن مظالمهم مع حكّامهم.
باختصار؛ ستساعد العاصمة الإدارية الجديدة الجيش والحكومة على تعزيز سلطتهما، وستساعد القطاع الخاص على جني المال وتقوية علاقاته مع الحكومة والولاء لها، كما ستسمح للسيسي بمنح الشرعية لنظامه وبناء إرثه.
لكن ردود الحكومة على تلك الادّعاءات تحمل جانبًا من الحقيقة، فهذا المشروع سيحدث تغييرًا ملموسًا في حياة المواطنين العاديين الذين يعيشون في عاصمة البلاد المزدحمة، وهذا الجهد البنائي الضخم سيدفع بالاقتصاد الوطني إلى الأمام، لذا ماذا سنفعل بالعاصمة الإدارية الجديدة؟ بما إن المشروع سيحتاج إلى سنوات لإنهائه، فإن المحكّمين ما زالوا خارج نطاق الخدمة.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية