جاءت الزيارة السريّة لرئيس جهاز استخبارات الحرس الثوري حسين طائب للعراق، لتؤسِّس بدورها لمرحلة جديدة للدور الإيراني في العراق، خصوصًا أنها تأتي بعد أيام من فوز مرشّح التيار المحافظ إبراهيم رئيسي في الانتخابات الرئاسية الإيرانية، وتكامُل أضلاع التشدُّد في إيران، سواء على مستوى المؤسسات أو الخطاب السياسي أو الرؤية العقائدية للمواجهة مع الخارج.
أما عن رمزية هذه الزيارة؛ فإنها تحمل في طياتها العديد من المؤشرات المهمة، فهي تمثِّل أول زيارة لرئيس جهاز الاستخبارات في الحرس الثوري إلى العراق، منذ تسلُّمه للمنصب عام 2009، كما إنها تأتي في سياق تصعيد مستمرّ بدأت الفصائل المسلحة القريبة من إيران تنتهجه ضد القوات الأميركية في العراق.
والأهم من كل ما تقدّم، إنها تأتي بعد سلسلة من حلقات الفشل التي مُنيَ بها قائد فيلق القدس إسماعيل قآني في العراق، سواء عبر فشله في إخماد التمرُّدات الفصائلية، أو تسريع عملية إخراج القوات الأميركية من العراق.
ممّا لا شكّ فيه إن الزيارة الأخيرة تؤسِّس لفكرة عودة الملف العراقي للحرس الثوري، وإبعاد المؤسسات الإيرانية الأخرى، وتحديدًا الاستخبارات والخارجية الإيرانية عن المشهد العراقي، إذ عقدَ طائب سلسلة اجتماعات مع قيادات في الفصائل المسلحة، من أجل وضع خارطة طريق للمرحلة المقبلة.
وخصوصًا أن سقف طموحات إيران لم يعد يقتصر على حصر نطاق المواجهة مع الولايات المتحدة في بغداد فقط، وإنما إدخال أربيل أيضًا ضمن قواعد اللعبة الجديدة في العراق، وإفهام الولايات المتحدة بأن نقل قواتها إلى إقليم كردستان العراق، لن يجعلها بمأمن من هجمات صواريخ الكاتيوشا أو الطائرات المسيّرة.
أشارت الهجمات الثلاثة المتوالية في الأيام الماضية، التي استهدفت السفارة الأميركية ومطار أربيل وقاعدة عين الأسد، إلى أن إيران ماضية بتصعيد منضبط في الساحة العراقية، حسب تطورات الأوضاع ومستويات العلاقة مع الولايات المتحدة، خصوصًا أن الجولة السابعة من مفاوضات فيينا ما زالت في قيد المجهول على مستوى النتائج.
إذ تشير الأخبار القادمة من الداخل الإيراني، إلى أن المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي اتخذ قرارًا بنقل الملف النووي من الخارجية الإيرانية إلى المجلس الأعلى للأمن القومي، حسب ما أشار إلى ذلك الدبلوماسي الإيراني السابق جاويد أوغلو علي في مقابلة مع صحيفة “اعتماد” الإيرانية.
وأضاف جاويد أن رئيس الوفد التفاوضي الإيراني في فيينا عباس عراقجي، يتعرّض لضغوط كبيرة من قبل الفريق السياسي الجديد في إيران، في إشارة لكلِّ من إبراهيم رئيسي ومحمد باقر قاليباف، وأن هناك صدامًا كبيرًا في المواقف يحصل حاليًّا في الداخل الإيراني، بين فريق يرى ضرورة التهدئة لإنجاح المفاوضات، وفريق آخر يرى ضرورة التصعيد والتشدُّد لإنجاح هذه المفاوضات.
استراتيجية جديدة لخلايا إيران في العراق
هناك تحول مهم بدأ يطرأ على استراتيجية عمل الخلايا المهاجمة، التي تتبع تنظيميًّا للفصائل المسلحة القريبة من إيران في العراق، عبر اعتماد نهج الهجمات المزدوجة (صواريخ/ طائرات مسيّرة) في آن واحد، من أجل شلِّ قُدرة المنظومة الدفاعية الأميركية المتواجدة في المقرّات والقواعد العسكرية، عبر خلق حالة إعماء استراتيجي وتشويش على فعالية مواجهة الهجمات، ما يشير إلى أن القوات الأميركية أصبحت أمام تحدٍّ جديد في العراق، وإن لم تكن الهجمات مميتة، وهو ما أوضحته الهجمات الأخيرة في السفارة الأميركية ومطار أربيل.
فإلى جانب منظومات الدفاع الجوي C-RAM التي أدخلتها الإدارة الأميركية للخدمة، لمواجهة عمليات القصف الصاروخي التي تستهدف المقرّات الأميركية في العراق، تشير عملية إسقاط طائرة مسيّرة، وإنزال طائرتَين أخريين، إلى بدء استخدام القوات الأميركية لمنظومة Dedrone لإسقاط الطائرات المسيّرة، وهي منظومة دخلت حديثًا للخدمة، حيث إن نظام عمل هذه المنظومة يتمثل باختراق العقل الإلكتروني للطائرة المسيّرة، وإنزالها دون أن تنفجر، خصوصًا إذا كانت الطائرة انتحارية، إلى جانب تعطيل نظام إطلاق الصواريخ فيها.
يبدو واضحًا، وعبر سلسلة الهجمات المتكرِّرة، أن إيران مثلما هي حريصة على استمرار التصعيد ضد القوات الأميركية في العراق، فهي حريصة بالوقت ذاته على عدم شنّ هجمات مميتة، وجعل جميع هذه الهجمات ذات مضامين سياسية، منها ما يرتبط بالداخل العراقي، ومنها ما يتعلق بتطورات الأوضاع التفاوضية في فيينا.
كما تحاول إبقاء جميع هذه الهجمات دون عتبة الانتقام الأميركي، خصوصًا أن الهدف الاستراتيجي الإيراني في العراق، يتمثل في تسريع عملية إخراج القوات الأميركية، وهي أولوية ستحظى بدعم واهتمام رئيسي المدعوم من الحرس الثوري، إذ سيحاول الحرس الثوري إنهاء اللعبة المزدَوِجة مع الولايات المتحدة في العراق، عبر الضغط السياسي والعسكري، من أجل إنجاز هذه الأولوية الاستراتيجية بأقرب وقت.
وفي هذا الإطار؛ إن تردُّد حكومة مصطفى الكاظمي في ضبط حركة الفصائل المسلحة القريبة من إيران، سيشجِّع الحرس الثوري أيضًا على المضي قدمًا في ترسيخ نفوذ هذه الفصائل، ودعم عمليات الهجوم التي تتعرّض لها القوات الأميركية، ما يُنبئ بتداعيات خطيرة قد يشهدها الواقع العراقي في الأيام المقبلة.