غادرت سفينة الحاويات العملاقة “إيفر غيفن”، التي أغلقت قناة السويس قرابة 6 أيام كاملة خلال مارس/ آذار الماضي، السواحل المصرية، بعد 100 يوم من الاحتجاز، إثر اتفاق وتسوية تمَّا بين هيئة القناة والشركة اليابانية المالكة للسفينة “شوي كيسن”.
وأقيمت احتفالية شاركَ فيها سفير اليابان في القاهرة، بمناسبة مغادرة الحاوية، فيما قال رئيس هيئة قناة السويس، أسامة ربيع، خلال مؤتمر صحفي عقده أمس، إن إدارة الهيئة توصّلت إلى اتفاق مع مالكي السفينة، وأن التعويض الذي حصلت عليه مصر مرضٍ لها بنسبة كبيرة، دون الإفصاح عن تفاصيل قيمة التعويض.
غياب الشفافية في الكشف عن بنود هذا الاتِّفاق، فتح الباب أمام التكهُّنات الكثيرة والاجتهادات المتنوِّعة بشأن قيمة المبلغ الذي حصلت عليه الهيئة، في ظلِّ تبايُن الأرقام التي تناقلتها العديد من وسائل الإعلام، والتي تتراوح بين المبلغ الذي طلبته القاهرة بداية الأمر، والذي يتجاوز 900 مليون دولار، والمبلغ الذي تمّ التسوية به، والذي يتأرجَحُ بين 200 إلى 250 مليون دولار.
تساؤلات حول غياب التفاصيل
في الأول من مايو/ أيار الماضي، أصدرت هيئة قناة السويس بيانًا قالت فيه إنها ليست مسؤولة عن جنوح “إيفر غيفن”، محمِّلة المسؤولية كاملةً إلى ربّان السفينة، وعليه طالبت بتعويض قدره 916 مليون دولار، شامل تكاليف تعويم السفينة ومكافأة الإنقاذ للعاملين المنصوص عليها في القانون البحري، هذا بخلاف تعويض الخسائر البشرية الناجمة عن عملية الإنقاذ.
غير أن الهيئة في الـ 23 من الشهر ذاته، تراجعت خطوة للوراء في ظلِّ عدم مرونة الشركة اليابانية المالكة للحاوية مع هذا الرقم المبالَغ فيه من قبلها، ليعلِن رئيس الهيئة عن تخفيض قيمة التعويض إلى 550 مليون دولار مقابل تسوية خارج القضاء.
وفي اليوم ذاته كانت هناك جلسة أمام محكمة الإسماعيلية الاقتصادية، لنظر التظلُّم المقدَّم من شركة “شوي كيسن” على احتجاز “إيفر غيفن”، غير أن المحكمة رفضت التظلُّم لتعود المفاوضات حول قيمة التعويض مرة أخرى، بعد الوصول إلى طريق مسدود في المسار القضائي بالنسبة إلى الشركة اليابانية.
رفضت إدارة القناة الإفصاح عن أي تفاصيل بشأن قيمة التسوية التي تمّت، رغم أن القناة ملك الشعب المصري، وإيرادتها معلومة للجميع ويفترض أنها تصبّ لصالح مشروعات تنموية وخدمية للمواطن، وإن لم يكن على دراية كاملة بخارطة التوزيع واستراتيجياته، فيما اكتفى ربيع بقول إن التعويض مرضٍ، بجانب منح الشركة المالكة للهيئة قاطرة بحريّة بقوة شدّ تبلغ 75 طنًا، لافتًا إلى مفاوضات حول تعويض أُسرة أحد عمّال الهيئة الذي توفيَ أثناء عملية تعويم السفينة، وتابع: “لقد حافظنا على حقوقنا، وحافظنا على علاقات جيدة مع عملائنا”.
خلفية الأزمة
في الـ 23 من مارس/ آذار الماضي، جنحت السفينة العملاقة البالغ طولها 400 متر، وعرضها 59 مترًا، وحمولتها الإجمالية 224 ألف طن، وكانت تقوم برحلة من الصين إلى روتردام في هولندا، في عرض مجرى قناة السويس، الأمر الذي أدّى إلى تعطيل المِلاحة في المجرى.
استمرَّ الجنوح قرابة 6 أيام كاملة، وسط فشل المحاولات الأولية للتعويم، فيما تكدّست السفن العالقة في المجرى بسبب هذا الجنوح، ما أدّى إلى وجود قائمة انتظار طويلة، زادت عن 420 سفينة، الأمر الذي تسبّب في خسائر فادحة، سواء للجانب المصري أو مالكي السُّفن العالقة.
طالبت هيئة القناة الشركة اليابانية بدفع كافة تكاليف عملية الإنقاذ، والأضرار التي لحقت برصيف القناة، بجانب التعويض عن الخسائر التي تكبّدتها بسبب توقُّف حركة المِلاحة وانتظار السُّفن طيلة أسبوع كامل، ورفضت السلطات المصرية الإفراج عن الحاوية قبل التوصُّل إلى اتفاق.
وبعد عدة مشاورات ومحاولات بين القناة والشركة المالية، ومناظرات قانونية وقضائية مستمرّة، أعلن رئيس الهيئة أواخر يونيو/ حزيران الماضي، التوصُّل إلى اتِّفاق مبدئي حول التعويضات، وانتظر المصريون بيانًا عامًّا تفصيليًّا يتطرّق إلى بنود الاتفاق وملامح تلك التسوية، ومبلغ التعويض المفترض أن يغطي الخسائر التي تكبّدتها الهيئة.
لكن جاء الإعلان مخيّبًا للآمال، عبارة عن عبارات فضفاضة خاوية من التفاصيل والأرقام، وخالية من الدسم المعلوماتي، لتظهر على الملأ حزمة من التساؤلات حول هذا الغموض ودوافعه، على شاكلة: لماذا لم تفصح الهيئة عن الرقم المتّفق عليه؟ وهل يعني ذلك أن مبلغ التعويض أقل من المفترض وهناك تخوُّف من ردة فعل الشارع؟ أم أن ضغوطًا مُورِست على الجانب المصري لقبول التسوية بأقل مبلغ ممكن؟ وهل فضّلت الهيئة الحفاظ على عملائها حتى لو كان ذلك عبر ابتلاع الخسائر التي تحمّلتها بسبب جنوح السفينة؟
أزمة الشفافية في مصر
تعكس إدارة أزمة السفينة الجانحة حالة غياب الشفافية وندرة المعلومات التي تتعامل بها السلطات المصرية مع الشعب، إذ ينصِّب النظام نفسه وصيًّا على وعي وإدارك وعقل مواطنيه، يمنحهم ما يراه هو صالحًا، ويمنع عنهم ما يتوجّس منه خيفة، رغم مخالفة هذا التوجُّه للدساتير والقوانين، المحلية والدولية.
وكان نتيجة لتلك السياسات أن تراجعت مصر للمركز 117 بين 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد العالمي لعام 2020، الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، وذلك بعدما كانت في المركز 106 عام 2019، والمركز 105 عام 2018.
وقد حصلت القاهرة على 33 درجة العام الماضي، مقابل 35 درجة في 2019، في المؤشر الذي يصنِّف 180 دولة وإقليمًا حسب المستويات المدرَكة لفساد القطاع العام فيها، والمقياس من صفر إلى 100، حيث يكون الصفر الأكثر فسادًا و100 الأكثر نزاهة.
ورغم ريادة مصر العربية تاريخيًّا في مجال المعلومات والإعلام، إلا إنها جاءت في المرتبة الـ 11 في مؤشر الشفافية، الأمر الذي يكشف حجم ومستوى التراجع الكبير في مجال تداول المعلومات والشفافية في التعاطي معها، لا سيما المعلومات العامة التي تهمُّ المواطن في الدرجة الأولى بحسب الدستور.
مع بداية ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، استبشرَ المصريون خيرًا بتعزيز مستويات الشفافية وحرّية المعلومات والرأي والتعبير، وعليه كان الظهور الأول لمبدأ “الحق في تداول المعلومات” في مصر في دستور عام 2012، وهو أول دستور وُضع وأُقرّ بعد الثورة، والذي نصَّ على أن “الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق، والإفصاح عنها، وتداولها، حقّ تكفله الدولة لكل مواطن…”.
لكن سرعان ما تبخّر هذا الحلم مع انطلاق دولة الثالث من يوليو/حزيران، إذ لم يعد لهذا الحق أي أثر في دستور 2014 وتعديله في 2019، حيث اكتفيا بمسؤولية الدولة في الإفصاح عن المعلومات دون أن تكون حقًّا كما كانت في دستور 2012، وذلك وفق المادة 68 التي تقول إن “المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة، حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية وفقًا للقانون”.
لم تكن أزمة السفينة الجانحة هي الحالة الوحيدة التي عانى فيها المصريون من ندرة المعلومات، بل إن معظم الملفّات الحساسة التي تمسّ المواطن من الدرجة الأولى كانت تفتقد للحد الأدنى من حقوق الشعب في المعرفة بها، وعلى رأسها ملف سدّ النهضة، وجائحة كورونا، وكان نتاجًا لذلك أنْ فُتح باب التكهُّنات والاجتهادات التي ربما تضرّ بالموقف المصري أكثر ممّا تفيده.
وعلى ذلك، وبينما كان رئيس هيئة قناة السويس في وادٍ، متباهيًا بالتوصُّل إلى اتفاق مرضٍ، وأن مصر حصلت على كافة حقوقها والتعويض المناسب لها، كان الشارع في وادٍ آخر، مستفهِمًا عن غياب التفاصيل، مشكّكًا في لغة الاحتفاء الفضفاضة، متسائلًا عن موعد فطامه وخروجه من عباءة الوصاية المفروضة عليه، وعن حقوقه من قبل السلطات.