جبهة جديدة تنتظر تركيا في الأيام المقبلة. ربما لن تكون هذه المرة بسخونة ما حصل من معارك -في سوريا وليبيا وأذربيجان- خلال السنوات الماضية القليلة، ومع ذلك فهي اختبار حقيقي لثقل أنقرة الإقليمي وحضورها الدولي، في ظل تحديات اقتصادية وسياسية تمر بها، سواء داخليًا فيما يتعلق بحراك المعارضة المستمرّ لإجراء انتخابات مبكِّرة، أو ما يجري خارجيًا بشأن صفقات الأسلحة بينها وبين أميركا من جهة وروسيا من جهة أخرى.
لا تُعتبر أفغانستان وجهة جديدة لأنقرة، إذ إن القوات التركية دخلت إليها منذ ما يقارب 20 عامًا، وبينهما علاقات دبلوماسية تمتد إلى أكثر من 100 عام، لكنَّ المعطيات والوقائع والمستجدات تشير إلى أن أنقرة أمام مهمة ليست سهلة في خضمّ التوتر الذي تعيشه عموم الأراضي الأفغانية هذه الأيام، خاصة بعد بدء انسحاب القوات الأجنبية من البلاد واندلاع معارك بين قوات الحكومة الأفغانية وقوات حركة طالبان، التي باتت تسيطر على مساحات شاسعة، وتحاول إطباق السيطرة على المعابر الحدودية.
ومع سير الأحداث في أفغانستان، تُسارع واشنطن وأنقرة إلى حلّ ملف حماية مطار كابل، حيث بحثَ وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، ونظيره الأميركي لويد أوستن، ملفَّ تشغيل مطار حامد كرزاي في العاصمة الأفغانية كابل.
وأشارت وزارة الدفاع التركية في بيان لها: “قواتنا تواصل أعمال توفير الدعم اللازم من أجل تشغيل مطار حامد كرزاي، بعد انتهاء مهمة بعثة الدعم الحازم التابعة للناتو”.
ويعدّ الاتصال بين آكار وأوستن هو الثاني في يومَين، حيث قالت وزارة الدفاع التركية إن الوزيرَين أجريا اتصالًا هاتفيًّا تناولا خلاله تطورات الاجتماعات الجارية بين البلدَين، حول التشغيل الآمن لمطار العاصمة الأفغانية كابل، واصفةً الاتصال بالإيجابي والبنّاء.
وكانت وزارة الدفاع التركية قد بحثت مع وفد أميركي، مجالات التعاون بخصوص تشغيل مطار حامد كرزاي الدولي بالعاصمة الأفغانية.
شروط أنقرة للبقاء في أفغانستان
قال وزير الدفاع التركي خلوصي آكار في تصريحات سابقة: “نعتزم البقاء في أفغانستان بحسب الظروف. ما هي شروطنا؟ الدعم السياسي والمالي واللوجستي”، وأكمل: “إذا لُبّيَت هذه الأمور يمكننا البقاء في مطار حامد كرزاي الدولي”.
كما ألمح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عقب اجتماعه مع الرئيس الأميركي جو بايدن على هامش قمة الناتو خلال الشهر الماضي، إلى أن “باكستان والمجر قد يكون لهما دورٌ في تأمين المطار ذي الأهمية الاستراتيجية”، في إشارة إلى الموافقة التركية.
وقد أشار بيان قمة الناتو في 14 يونيو/ حزيران الماضي، إلى إمكانية تسليم الأمر لتركيا، حين أشار إلى أنه سيتم توفير التمويل لهذا الغرض. والجدير بالذكر أن تركيا تملك أكثر من 500 عنصر من قوّاتها المتمركزة في أفغانستان، في إطار مهمة قوات الناتو في البلاد، منذ أعوام طويلة.
لماذا تركيا؟
اعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال تصريحات سابقة، إن بلاده ستكون “البلد الوحيد الموثوق به” الذي يحتفظ بقوات في أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي والأطلسي، حيث قال: “تستعد أميركا لمغادرة أفغانستان قريبًا، وعندما ترحل فإن البلد الوحيد الموثوق به، والذي سيبقى لمواصلة العملية هناك بالطبع سيكون تركيا”.
كما قال إنه “يمكن لتركيا أن تتحمّل مزيدًا من المسؤولية في أفغانستان، بعد قرار الولايات المتحدة الانسحاب منها”.
في حديثه لـ”نون بوست”، قال الدكتور علي باكير، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة قطر، إن الجانب التركي لديه “خبرة بتشغيل مطار كابل وحمايته وتأمينه، وذلك ضمن مهمة تابعة لقوات الناتو في أفغانستان في السنوات الماضية، بالإضافة إلى دول أخرى مثل المجر وفرنسا ودول أخرى”.
ويضيف باكير أن تركيا ستكون الأكثر ملاءمةً للبقاء في هذه المهمة، كونها “دولة مسلمة وقواتها منخرطة في أفغانستان بمهام غير قتالية، حيث كانت تركّز على المهام الأمنية وتدريب القوات الأفغانية وتقديم المساعدات الإنسانية، ولم يتم استهدافها من أي طرف من الأطراف”.
يشير الدكتور باكير أيضًا إلى أن أنقرة لديها “سمعة طيبة ومكانة وقوة ناعمة، لكنَّ بقاءها في أفغانستان مرتبط ضمن معايير وشروط يجري مناقشتها الآن مع عدة دول، منها الولايات المتحدة وباكستان والمجر”.
بدوره قال الدكتور كورشاد زورلو، عميد جامعة بوزوك، والكاتب في صحيفة “خبر” التركية: “إن تركيا لها مكانة خاصة في أفغانستان في 3 جوانب. الأول يتعلق بالروابط التاريخية العميقة بين الطرفين، وهي الأسس التي تكونت خلال عهد أتاتورك الذي حاول آنذاك تبني سياسة الانفتاح على العالم، دعمًا لرؤيته في السلام والحداثة”.
ويضيف الدكتور زورلو في حديثه لـ”نون بوست”، أن الجانب الثاني هو “بقاء تركيا دائمًا بعيدة عن الصراع الداخلي في أفغانستان، أي أنها بقيت كقوة غير قتالية (غير مستعمرة)، وهو ما أكسبها احترامًا من جميع الأطراف”.
ويشير الدكتور زورلو في الجانب الثالث إلى “أن الروابط الثقافية عميقة بين تركيا والسكّان الناطقين باللغة التركية في أفغانستان”، لافتًا إلى أنه “إذا تمكنت تركيا من استخدام هذا الاتجاه في موازين القوى داخل البلاد، فيمكن أن تكون جسرًا للسلام والاستقرار هناك”.
ما العقبات أمام تركيا؟
لم تستطع قوات الناتو فرض إرادتها خلال السنوات الماضية على كامل التراب الأفغاني، بل تكبّدت خسائر فادحة وتعرّضت لكثير من الهجمات الموجعة، ولم تستطع تذليل العقبات أمام وجودها هناك، وهو ما يدفع بتركيا للتفكير بالعقبات التي ستواجهها في حال البقاء في أفغانستان.
وبهذا الصدد يقول الدكتور علي باكير: “بقاء تركيا في أفغانستان يرتبط بشروط موضوعية وبالتزامات إقليمية ودولية وبحاجات لوجستية، فإذا ما تم الاتفاق على هذه الأمور من قبل كل الأطراف، بما في ذلك أميركا والناتو وباكستان وأفغانستان بشقَّيها، عندها لا أعتقد أنه سيكون هناك مخاطر بالتواجد التركي وإدارة أمن المطار”.
مضيفًا: “لكن إن لم يتم إيفاء هذه الشروط سيكون هناك مخاطر كبيرة على الجانب التركي، لذلك لن يقوم بهذه المهمة ما لم يتم تأمين المتطلّبات المالية والأمنية واللوجستية التي تحتاجها هذه المهمة، لإنجاح دوره في أفغانستان”.
من جانبه، يقول روح الله عمر الأفغاني، المحلِّل والخبير في الشؤون الأفغانية، في حديثه لـ”نون بوست”، إن العقبات التي ستواجه تركيا في حال بقائها كثيرة جدًّا، منها أنها “لن تبقى آمنة كما كانت عليه الحال خلال السنوات الماضية، إذ لم يهاجم أحد السفارة التركية أو القواعد التركية”.
كما أشار إلى أن عدم استهداف تركيا كان بغية إيجاد علاقات طيبة معها، لكن في حال بقائها ستكون موقع استهداف من حركة طالبان، كونها القوة الأجنبية الوحيدة التي ستبقى في البلاد.
وفي تصريحات له، قال سهيل شاهين المتحدث باسم حركة طالبان: “إن القوات التركية في أفغانستان هي جزء من قوات حلف شمال الأطلسي المتواجدة في البلاد، ولذلك فإنه ينبغي لتركيا سحب قواتها من أفغانستان بموجب الاتفاق الذي تم مع الولايات المتحدة في 29 شباط/ فبراير 2020”.
مضيفًا أنه “بخلاف ذلك، فإن تركيا دولة إسلامية، وأفغانستان لها علاقات تاريخية معها، ونأمل في أن تربطنا بها علاقات وثيقة وطيبة مع تأسيس حكومة إسلامية جديدة في البلاد في المستقبل”.
ويكمل روح الله عمر حديثه عن العقبات التي ستواجه تركيا، مشيرًا إلى أن الدُّول المجاورة لأفغانستان مثل إيران وروسيا والصين لن ترضى بالحضور التركي في البلاد، وربما تعمل هذه الدول على تمويل حركة طالبان لإخراج أنقرة بالقوة، مضيفًا أن “أيًّا من هذه الدول خاصة روسيا لن يرضى ببقاء دولة عضو في حلف الناتو في دولة جوار”.
كما يقول وزير الخارجية التركي الأسبق، والذي كان ممثِّلًا للناتو في أفغانستان، إن “بقاء القوات التركية في أفغانستان مرهون بموافقة طالبان، ومخاطر البقاء من دون ذلك ستخلق مشاكل كثيرة”، موضحًا أنه يمكن الذهاب إلى أفغانستان باتفاق ثنائي، وبعيدًا عن الهوية الدولية، بعد انسحاب جميع القوات الأجنبية.
وشدَّد على أن “أي اتفاق من دون موافقة طالبان سيعرّض تركيا لمخاطر أمنية كبيرة هي في غنى عنها، والمطلوب من مؤسسات مثل حلف الناتو والأمم المتحدة دعم تركيا”.
يُذكر أن مؤتمرًا للسلام الأفغاني كان سيقام في تركيا، قد تأجَّل عقده بسبب عدم موافقة حركة طالبان على المشاركة فيه، وكان من المقرَّر عقد المؤتمر في 24 أبريل/ نيسان لتسريع جهود التوصُّل إلى اتفاق بين طالبان والحكومة الأفغانية، في ضوء إعلان واشنطن أن القوات الأجنبية ستغادر أفغانستان بحلول 11 سبتمبر/ أيلول.
وكانت طالبان قد رفضت من قبل حضور أي اجتماعات قمة، إلى أن تنسحب كل القوات الأجنبية من أفغانستان.
تركيا والخوف من موجة لجوء
ترى تركيا أن بقاءها في أفغانستان يمكن أن يساهم في حلّ العديد من المشكلات التي تعاني منها المنطقة، ولعلّ أهمها مشكلة اللجوء الأفغاني المستمرّ، والتي من الممكن أن تزداد مع الأيام القادمة، خاصة أن الجمهورية التركية تستقبل آلاف من اللاجئين الأفغان الذين يأتون من بلادهم عبر إيران، ومنهم من يستقر ومنهم من يكمل طريقه إلى أوروبا.
وبهذا الصدد دعا وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، إلى تعاون دولي لمعالجة المخاوف بشأن موجة محتملة لتدفُّق المهاجرين من أفغانستان.
وقال إن “هناك تقارير عن تدفُّق محتمَل للمهاجرين من أفغانستان، نتيجة للتطورات المحتملة في بلادهم، ونحن نسعى لتأسيس تعاون مع دول المنطقة التي لديها مخاوف جدّية حول الموضوع”.
وأضاف أن “تركيا والاتحاد الأوروبي والعديد من الدول تشكو من تدفق المهاجرين، والجميع يعاني من الأزمة سواء كانت دول عبور أو دول مقصد”.
وشدَّد على الحاجة إلى تعاون أفضل لمعالجة “التحدي المشترك”، لا سيما مع الاتحاد الأوروبي، وقال إنه “من الناحية المثالية، ينبغي أن نكون قادرين على حل هذه المشكلة في بلد المنشأ. ماذا يمكننا أن نفعل في أفغانستان؟ على الأقل يمكننا دعم تنميتها الاقتصادية”.
بدوره يقول الدكتور كورشاد زورلو لـ”نون بوست”، إن “إقامة علاقات جيدة وقوية مع أفغانستان هدف لا غنى عنه لتركيا، كما ينبغي لتركيا أن تواصل دعمها للسلام والهدوء للشعب الأفغاني”، مضيفًا أنه ومن ناحية أخرى، فإن اتفاقًا محتملًا هناك سيريح تركيا، حيث إن عدم الاستقرار في البلاد قد يفجِّر أزمة لاجئين جديدة.
وإضافة إلى ذلك، فإن أكثر المتضررين من تقدُّم طالبان في الشمال هم المجتمعات التي ترتبط بها تركيا تاريخيًّا وثقافيًّا، حيث يعدّ استمرار وجودهم جانبًا مهمًّا من جوانب التأثير الثقافي لتركيا في المنطقة.
هذا هو حجم أفغانستان، التي ستصبح منطقة حيوية جديدة للتعاون مع دول آسيا الوسطى، ما يفسّر مهمة تركيا وأهميتها بشكل أفضل فيما يتعلق بالولايات المتحدة الأميركية وحلف شمال الأطلسي.
وممّا سبق، إن العلاقات التركية الأفغانية قديمة وقوية، وقد احتفل الطرفان قبل فترة وجيزة بمرور 100 عام على إقامة العلاقات بينهما وفقًا لما قاله باكير، وتركيا كونها بلدًا مسلمًا كبيرًا لديها سمعة طيبة في أفغانستان، وبالتالي من الممكن أن تحظى بدور في الملف الأفغاني.
لكنَّ “الملف الأفغاني ملف شائك جدًّا، وهناك عدة دول مهتمة به إقليميًّا ودوليًّا، إضافة إلى تناقض المصالح المحلية الأفغانية، وبالتالي تركيا ليست الأقدر على إدارة الملف الأفغاني لكن لديها ما يؤهّلها لذلك، بموافقة من دول أخرى مثل باكستان على سبيل المثال، وإذا ما نجح هذا الأمر سيكون لها دور كبير”.