راهنَ النظام السوري على العشائر العربية، لتعزيز نفوذه على حساب قوات سوريا الديموقراطية “قسد” في منطقة منبج بريف حلب الشمالي الشرقي، وحاول من خلال بعض الشخصيات المحلية والعشائرية المتنفّذة دعم الاحتجاجات التي اندلعت ضدّ “قسد” أواخر مايو/ أيار الماضي، بهدف الإبقاء على حالة التصعيد في الشارع وإجبار “قسد” على القبول بالمطالب التي قدّمها عبر الوسيط الروسي، مقابل ضمان خفض التصعيد العشائري ضدّها.
يبدو أن “قسد” قد أدركت مبكِّرًا خطورة الموقف في منبج، بعد أن اتّضحت مساعي النظام، وهو ما دفعها إلى اتِّخاذ إجراءات مستعجلة لإنهاء التوتر، مستعينةً بوجهاء وشخصيات عشائرية مقرّبة منها في المنطقة.
ففي يونيو/ حزيران أوقفت “قسد”، ممثّلةً بالإدارة المدنية وقوى الأمن الداخلي ومجلس منبج العسكري، الحملة الأمنية وأطلقت سراح المعتقلين وأوقفت قرار التجنيد الإجباري ورفعته للدراسة والتشاور.
وفي يوليو/ تموز عقدت صلحًا مع عائلات الضحايا الذين سقطوا في الأيام الأولى من الاحتجاجات، وتعهّد ممثِّلوها أمام حشد واسع من العشائر بدفع “ديات” القتلى، وجالت وفودها على الأحياء والقرى التي احتضنت الحراك منذ بدايته (الهدهود والمشرفة والحجر الأبيض والمعدسة والعزر).
وقد قال الباحث السوري المعارض حسن النيفي لـ”نون بوست”، إن “نظام الأسد حاول استغلال الحراك الشعبي ضد سلطة “قسد” في منبج، ودفع عددًا من شبّيحته ومواليه للدفع باتجاه التصعيد سعيًا إلى إشاعة الفوضى في المدينة ومن ثم ليساوم “قسد” على الدخول إلى المدينة وإخضاعها لسيطرته”.
يكمل الباحث: “ولكن كان الكثير من رموز وقادة الحراك في منبج يدركون مدى خطورة التصعيد، فضلًا عن إدراكهم نوايا النظام ورغبته بدخول المدينة، ما دفعهم الى مفاوضة “قسد” والوصول الى اتِّفاق يلبّي مطالب المواطنين، وكان هدف أهالي منبج من وراء هذا الاتفاق هو قطع الطريق أمام النظام وتحييد شبّيحته”.
جلسة صلح إدارة “قسد” مع عائلات ضحايا الاحتجاجات في منبج.
إغلاق ملف الاحتجاجات
في 5 تموز/ يوليو احتضن أحد مقرّات مجلس منبج العسكري التابع لـ”قسد” تجمُّعًا عشائريًّا كبيرًا، ضمَّ وجهاء وشيوخ عشائر وأفرادًا من أقارب ضحايا الاحتجاجات، إلى جانب أعضاء لجان التفاوض، وقد تُليَ خلال الجلسة بيان الصلح الذي من المفترض أن يغلقَ ملفّ الاحتجاجات بالكامل، بضمانة لجان التفاوض من الطرفَين.
تضمّن بيان الصلح 3 بنود رئيسية، وقد جاء فيه: “نتيجة الأحداث المؤسفة التي مرّت بها مدينة منبج وريفها، والتي نجم عنها وقوع 5 ضحايا وجرح عدد آخر من المواطنين، فإن الإدارة المدنية في مدينة منبج بادرت إلى معالجة الوضع، وعليه تم تشكيل لجنة من قبل عشائر منبج وذوي الضحايا وكذلك تشكيل لجنة أخرى من قبل الإدارة”.
ويضيف البيان: “وقد تم التوصُّل إلى الحل التالي، أن تدفع الإدارة مبلغًا قدره 30 مليون ليرة سورية دِيَة عن كل قتيل، وتدفع الإدارة مبلغًا قدره 225 مليون ليرة سورية للجنة العشائر وأولياء الدم، ليتمَّ توزيعها على ذوي الضحايا كهدية من الإدارة، واتّفقت اللجنة على تشكيل لجنة طبية للوقوف على أوضاع الجرحى والمصابين كل إصابة على حدة وتقييمها، ويتم التعويض لاحقًا طبقًا لتقرير اللجنة الطبية”.
العشائر و”قسد” في منبج – تعويض عائلات ضحايا الاحتجاجات في منبج.
مصادر عشائرية متطابقة في منبج، قالت لـ”نون بوست” إن “”قسد” ضغطت على العشائر لإتمام المصالحة وإغلاق ملف الاحتجاجات في أسرع وقت ممكن، لإسكات الأصوات المناهضة لها وبالأخص تلك التي تدعوا إلى مواصلة التصعيد، والنزول مجدّدًا إلى الشارع وهي على ارتباط علني مع النظام”.
وأضافت المصادر: “بعد أن كان هاجس تمدُّد النظام إلى منبج يؤرقها، أصبحت “قسد” تهدِّد الرافضين للمصالحة بالسماح للنظام بالدخول إلى منبج، وكان للتهديد أثر فعلي في الدفع باتجاه الحل واستعجال المصالحة لقطع الطريق على النظام وإفشال مساعيه”.
النظام يحشد العشائر
رغم إغلاق “قسد” لملف الاحتجاجات في منبج، وعقدها مصالحة مكلِفة مع العشائر المتضرِّرة، إلا إن النظام لا يزال يعمل على عودة التوتر إلى المنطقة، ويواصل دعمه للحراك العشائري في مناطق سيطرته المتاخمة لمنطقة منبج بريف حلب.
وفي أحدث تحرك عشائري، شهدَ ريف ناحية دير حافر المتاخم لمنطقة منبج وقفة تضامنية مع الحراك في منبج، اشترك فيها أعضاء عاملون ومسؤولون في الفِرَق الحزبية وشعبة منبج لحزب البعث، وشخصيات عشائرية مقرّبة من “لواء الباقر” المدعوم من إيران، وغيرها من الميليشيات المحلية التابعة لقوات النظام.
حاول نظام الأسد في وقت مبكِّر، وبالاعتماد على العشائر العربية الموالية له، دعم الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في 31 مايو/ أيار ضد “قسد” في منبج، ونقلت وكالة “سانا” في 6 يونيو/ حزيران عن القبائل والعشائر في محافظة حلب “تأكيدهم على دعم انتفاضة أهالي مدينة منبج ضد ممارسات ميليشيا “قسد” الإجرامية بحقهم، ورفضًا للاحتلال الأميركي”، وذلك خلال تجمُّع أقامته العشائر في مناطق سيطرة النظام بالقرب من معبر التايهة، والذي يصل مناطق النظام في حلب بمناطق “قسد” في منبج.
وجاء في بيان العشائر أن “العشائر ستدخل إلى منبج إذا لم تخرج ميليشيا “قسد” وملحقاتها من المدينة، للوقوف إلى جانب أهلنا فيها”، مؤكدة أنه “لا تفاوض ولا تصالُح مع القتلة المأجورين، وأن دماء الشهداء الزكية ستؤدي حتمًا إلى خروج “قسد” وملحقاتها من منبج”.
ودعت العشائر في بيانها إلى دعم المحتجّين في منبج والوقوف معهم يدًا بيد وكتفًا بكتف، مؤكدة أن “منبج عربية سورية شاء من شاء وأبى من أبى”، وختمت القبائل والعشائر بيانها بالتأكيد على أن السوريين الأكراد في منبج “هم أهلنا وجزء منا وما يصيبهم يصيبنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا”.
دير حافر، أطراف منبج – مؤيّدون للنظام السوري يطالبون بطرد ميليشيا “قسد” من منبج.
فيصل الرمضان، وهو من وجهاء عشيرة الحديديين، ومنسِّق التجمع، قال إن “تجمع عشائر وقبائل حلب هو للتعبير عن كلمتها بأن سوريا واحدة لا تقبل التجزئة”، وقال الشيخ عبد الله الحسين من عشيرة الحديديين أيضًا: “إننا نقف صفًّا مع أهلنا الصامدين في منبج لتعود إلى حضن الوطن”.
قال القاضي إبراهيم الحاجي في حديث لـ”نون بوست”، إن “القوات الروسية عرضت على “قسد” تدخل النظام في منبج والسماح له بافتتاح الدوائر الرسمية وشعبة التجنيد وتسهيل حركته في المنطقة، مقابل ضمان تهدئة الشارع العشائري الغاضب”.
وأضاف أن “اللواء المتقاعد نصر العلي هو الذي نسّق للاجتماع بين ممثلين عن القوات الروسية والنظام من جهة، وممثلين عن “قسد” من جهة ثانية، في منبج بداية الاحتجاجات، ونصر العلي هو أحد وجهاء عشيرة الحديديين التي يعوِّل النظام عليها في دعم الاحتجاجات والإبقاء على حالة التوتر والفوضى في منبج”.
وأشار الحاجي إلى أن “أهم الشخصيات التي دعمت توجهات النظام في منبج، المهندس شيخ البكوري، وعضو مجلس الشعب مجيب الدندن، وعضو مجلس الشعب محمد خير الماشي، وماهر الجيسي، ومحمد دريعي، طبعًا هؤلاء يتواجدون في أرياف منبج، منهم بشكل علني ومنهم من كان يحضر بشكل سرّي، إضافة إلى أشخاص كثر ممّن كانوا يحرّكون الناس وهم خارج منبج، مثل اللواء ناصر العلي حديدي، وعبد الله الوردي الجعبري، وأولاد الدشو”.
قال مصدر عشائري في ريف حلب الشرقي (شريطة عدم الكشف عن هويته) لـ”نون بوست”، إن “الأجهزة الأمنية التابعة للنظام أبلغت في 1 يونيو/ حزيران شيوخ العشائر في مناطق سيطرتها في محافظة حلب بضرورة إبداء التضامن مع المحتجين ضد الإدارة الذاتية في مدينة منبج وريفها، وطلبت منهم إصدار بيانات وحشد أبناء العشائر في تجمعات احتفالية بالقرب من معبر التايهة، الذي يصل مناطق النظام والإدارة الذاتية شرقي حلب”.
وأضاف المصدر أن “الأجهزة الأمنية التابعة للنظام في حلب وقيادة فرع الحزب بحلب، طلبوا أيضًا من شيوخ العشائر الموالين للنظام أن يجروا اتصالات بشيوخ العشائر المتواجدين في منبج التي تسيطر عليها “قسد”، وأن يطلبوا منهم التصعيد والاستمرار في الاحتجاجات، وأن يرفضوا أي مبادرة تقدِّمها الإدارة بهدف فرض التهدئة”.
وفي 3 يونيو/ حزيران أصدرت القبائل والعشائر الموالية للنظام في حلب بيانًا، أكدت فيه “وقوفها وتضامنها مع صمود أهالي منبج في وجه الإجراءات العدوانية والممارسات القمعية التي تقوم بها ميليشيا “قسد” المدعومة أميركيًّا”.
وأضاف البيان الذي نقلته صحيفة “الثورة” التابعة للنظام: “عشر سنوات وعدونا يتربّص بنا الدوائر من أجل تقسيم أرضنا ونزع هويتنا العربية السورية لنكون أُجَراء مرتهنين له”.
وأضاف البيان: “يا أهلنا الأوفياء في منبج العطاء، آن الأوان أن تعبّروا عن آرائكم ومواقفكم من الحركات الانفصالية التي لا ترقى إلى الإنسانية بصلة، هي دعوة لأن تستمروا بهذه الثورة ومعكم كل القبائل والعشائر العربية السورية، ونحن جاهزون لدعمكم والوقوف معكم بكل ما يلزم”.
اللافت في بيان العشائر الموالية للنظام في حلب، الذي صدر في 3 يونيو/ حزيران، أن من تلاه هو عضو مجلس الشعب عمر الحسن، أحد وجهاء قبيلة البكارة الموالية للنظام في حلب، وهو ذاته يشغل منصب الممثّل السياسي لـ”لواء الباقر” وأحد مؤسِّسي هذه الميليشيا الرديفة لقوات النظام، والتي تحصل على دعمها من إيران منذ تأسيسها.
لم تكتفِ ميليشيا “لواء الباقر” بدعم تحركات العشائر ضد “قسد” على تخوم منبج، بل ضغطت عبر ذراعها العسكرية على أحياء الأشرفية والشيخ مقصود وبني زيد بحلب، التي يتمركز فيها تنظيم “وحدات حماية الشعب الكردية”، الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي يهيمن على تحالف “قسد”.
واعتقلت في بداية شهر يونيو/ حزيران عددًا من المقرّبين من الحزب على حواجزها التي انتشرت في محيط الأحياء، كما التقى القنصل الإيراني في حلب المسؤولين في قيادة “لواء الباقر”، وعددًا من مشايخ قبيلة البكارة المقرّبين من النظام، بهدف تنسيق ودعم تحركات اللواء.