رغم التوتر الذي شابها في بعض مراحلها، إلا إن العلاقات الأميركية-التركية، في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب، تميّزت بشكل عام بالتقارب والتفاهم، إلى حد ذهاب الأخير إلى إعلان أنه “من كبار المعجبين” بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان.
مع وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، ظهر وكأن العلاقات الثنائية بين البلدَين مرجّحة لأن تأخذ مسارًا مختلفًا أقل سلاسة، لكن تقادم الأيام أوحى بأن الطرفَين سيدخلان مسار تعاون استراتيجي في عدد من الملفات، لكن سيكون بينهم خلافات نسبية في ملفات أخرى.
في طور هذا التوجُّه، تميل تركيا إلى اتِّباع تكتيك الصراع التوافقي في سياساتها الخارجية لتقليل حجم الصدام مع إدارة بايدن، ذات التوجُّهات المؤسسية الدبلوماسية في السياسة الخارجية.
نقاط التعاون بين أنقرة وواشنطن
على الرغم من أن تركيا اتّبعت سياسة أكثر حزمًا في السنوات الأخيرة تحت قيادة أردوغان، إلا إن ذلك انعكس سلبًا عليها، وجعل نطاق مشاركتها محدودًا، لذلك تهدف أنقرة اليوم إلى تحسين موقفها ونفوذها في النزاعات والخلافات القائمة، بدلًا من خلق نزاعات جديدة، أو حلّ القضايا العالقة.
والحقيقة أن تركيا وأميركا لهما مصالح مشتركة في المنطقة، ويمكن أن تكون أنقرة تحديدًا شريكًا قيّمًا لبايدن.
أولًا، بينما تتطلع الإدارة الأميركية إلى استعادة الاتفاق النووي مع إيران، ستحتاج الولايات المتحدة إلى كل الدعم الذي يمكن حشده. وفي ضوء المعارضة المحتملة من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة و”إسرائيل” للاتفاق النووي، فإنَّ تحسين العلاقة بين تركيا وأميركا سيكون أمرًا هامًّا لواشنطن أكثر منه لأنقرة، لا سيّما أنها جارة لإيران، حيث تسعى تركيا إلى الحفاظ على علاقات اقتصادية قوية مع طهران، وهو حافز قوي في حد ذاته لتركيا لدعم مثل هذه الصفقة.
ثانيًا، تتطلب أية منافسة أميركية محتملة مع الصين أو روسيا إبعاد تركيا عن علاقاتها المتنامية مع كلا البلدَين. ربما كانت علاقات تركيا مع الصين وروسيا نقطة خلاف في علاقاتها مع الولايات المتحدة، إلا إن توجُّه الإدارة الأميركية الجديدة يحمل بين طياته تحولًا نحو الانعزالية النسبية، وإيكال أطراف إقليمية لرفع الراية التحالفية المُشتركة -ولو رمزيًّا- ضدّ الخصوم، روسيا والصين، وتركيا أحد أهم الأطراف الإقليمية بالنسبة إلى واشنطن.
ثالثًا، توفير الحماية لمطار كابول وعدد من المقرّات الحكومية في أفغانستان. اتجهت أنقرة في الأيام الماضية لفتح مسار آخر من شأنه أن يخفِّف حدة التوتر مع واشنطن ولو بجزء بسيط، حيث استعدت تركيا للقيام بحراسة وتشغيل مطار كابول بعد انسحاب القوات الأميركية والناتو من أفغانستان.
تركيا من التصادم إلى الصراع التوافقي
بحجم نقاط التعاون المشترك وعددها، يقلّ الضغط الأميركي على أنقرة، وتزداد مساحة تركيا في السياسات الخارجية المستقلة، وستسعى أنقرة للحفاظ على هذه المساحة بالابتعاد عن الاشتباك مع واشنطن وحلفائها، من خلال توسيع مستوى التواصل الدبلوماسي مع أغلب الدول التي تربطها بها نقاط أو مصالح مشتركة.
هذا يعني أن تركيا سترجِّح مسار الصراع التوافقي لتحقيق مصالحها، في ظل إدارة أميركية تدعم التكتيك الدبلوماسي المكثّف. وسينعكس ذلك على النحو التالي:
– الملف السوري
التنسيق التركي-الروسي في الملف السوري من خلف الكواليس مستمرّ، لكن يشوبه تصعيد روسي عالي المستوى، هدفه تجاوز تركيا وإرسال رسائل إلى واشنطن.
تسعى كلٌّ من روسيا وتركيا إلى البحث عن مسارات في الحرب تتناسب مع مصالحهم الخاصة، ومن ناحية أخرى أصبحت روسيا الطرف الأكثر تأثيرًا في الساحة السورية، وتبتغي ضمان مصالحها العسكرية وتواجدها في المنطقة واستمرار فعاليتها في الملف السوري واستثماره في قضايا المنطقة.
بيمنا ترى تركيا أن حل الأزمة يكون من خلال إقامة منطقة آمنة يكون لحلفائها دور مؤثّر فيها، مع الحيلولة دون قيام فيدرالية في سوريا للأكراد من الممكن أن تنعكس على الوضع الداخلي التركي، وعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم والقضاء على الإرهاب.
التخوف الروسي من التنسيق الأميركي-التركي حيال شمال سوريا، دفع موسكو لاستهداف إدلب بشكلٍ عنيف غير مسبوق، طال عدة منشآت حيوية ومدنيين، ودفع تركيا للردّ بقصف مدفعي. كذلك حدثت بعض مناوشات الاستطلاع الناري في شمال شرق سوريا.
يحمل الاستهداف الروسي الرسائل التالية لأنقرة وواشنطن معًا:
– التنسيق التركي-الأميركي في سوريا لن يُسمح له أن يكون على حساب مصالحنا وتوجهاتنا، خاصة في ملف المساعدات الإنسانية التي تريده روسيا عبر النظام السوري أو بعد تحقيق مصالحها، وفي ملف التعاون الأميركي-التركي لإقامة منطقة آمنة شمال شرق سوريا.
– محاولة لفت الانتباه الأميركي-التركي لملف إدلب كأولوية عن ملف شمال شرق سوريا، إذ تريد موسكو تطبيق حلًّا استراتيجيًّا يتضمن نشر تركي-روسي مشترك في نقاط التماس، إطلاق حركة التجارة والتنقل، رفع أو تخفيف مفاعيل قانون قيصر.
في نهاية المطاف، تسعى موسكو من خلال هذه الرسائل ذات صبغة سياسة الضغط القصوى، إلى إبقاء توجُّهات تركيا في إطار التنسيق معها.
تعي أنقرة هذه الرسالة، وتدرك أنها لن تؤدّي إلى عملية عسكرية واسعة النطاق، لكن هذه المرة ستلعب على تناقضات توازن القوى الروسية-الأميركية لصالح التنسيق مع واشنطن، خاصةً فيما يتعلق بملف المساعدات الإنسانية، للاستمرار في إمساك ورقة ضغط على روسيا لتحقيق مصالحها في شرق الفرات تحديدًا.
– أفغانستان
عرضت تركيا إبقاء قواتها العسكرية في أفغانستان، بعد انسحاب قوات حلف الناتو في سبتمبر/ أيلول المقبل، واقترحت أنقرة مواصلة أعمالها في حماية وإدارة مطار العاصمة كابول في حال حصولها على دعم دبلوماسي ولوجستي أميركي.
وعلى الرغم من أن تركيا جزء أساسي من قوات حلف الناتو في أفغانستان منذ قرابة 19 عامًا، فإنها لم تشارك مطلقًا في العمليات العسكرية القتالية التي نفّذها الحلف، واقتصر دور القوات التركية على تقديم خدمات حماية مطار كابول وإدارته، وتدريب قوى الأمن والشرطة الأفغانية، بالإضافة إلى تقديم الخدمات الإنسانية للشعب الأفغاني.
– باكستان
ستعمل على تأسيس تحالف عسكري ولوجستي يُفضي إلى انتشار مشترَك، الهدف منه ضمّ باكستان، صاحبة العلاقات الجيدة مع حركة طالبان ووضعها في الإقليم كعنصر قوة موازن للنفوذ الإيراني.
ترى تركيا ضرورة تحسين العلاقات مع باكستان، خصوصًا بعد الانسحاب العسكري الأميركي المرتقب من أفغانستان، لذلك تسعى أنقرة إلى ترتيب الأوضاع قبل حدوث الانسحاب، خصوصًا أن إسلام آباد تعتبر نفسها لاعبًا رئيسيًّا في كابول ووسيطًا مع إيران، فضلًا عن أنها شريك استراتيجي، ما يعنى أنها ستساعد تركيا على الحفاظ على التوازن بين الشرق والغرب.
تُعتبر باكستان ممرًّا حيويًّا لـ”طريق الحرير” الصيني -وتركيا أيضًا من خلال نفق مرمرة وكونها جسرًا أوراسيًّا-، عبر ممر غوادار الواقع على المحيط الهندي؛ بالتالي، قد يبدو من المهم لتركيا تعزيز علاقاتها مع إسلام آباد.
– أوزبكستان
الجارة لأفغانستان، وتمّت زيارتها على مستوى نائب الرئيس، بهدف النظر في مشروع مد خط برّي من أفغانستان يمرُّ بها وبكزاخستان، ومن ثم أذربيجان، ووصله بالخط الذي يمرّ عبر الإقليم التركي المستقل ذاتيًّا في أرمينيا، وصولًا إلى تركيا.
لذلك ترى أنقرة أن الإمكانات الاقتصادية أحد الأولويات الرئيسية لاستراتيجية أنقرة في المحافظة على علاقة مستقرة مع أوزبكستان، وتحديدًا فيما يتعلق بالطاقة.
أيضًا رفع مستوى التنسيق مع بريطانيا وألمانيا على حساب فرنسا، توافقًا مع استراتيجية واشنطن في توكيل بريطانيا وألمانيا بإدارة ملف بحرَي المتوسط والأحمر وليبيا وعدة مناطق أفريقية، حيث اتخذت تركيا مسارًا يرفع من مستوى العلاقات مع لندن وبرلين عبر زيارات دبلوماسية رفيعة المستوى، ومن خلال تصريحات إيجابية متبادلة.
تعبير أنقرة وبرلين عن رغبتهما في تجديد اتفاقية إعادة اللاجئين إلى تركيا، ومشاركة أنقرة في مؤتمر برلين، وإعلان برلين ولندن دعمهما القوي لدور تركيا في أفغانستان والبحر الأسود؛ هي مؤشرات تحمل التوجُّه التركي-البريطاني-الألماني المُتبادل على رفع مستوى التنسيق.
سيكون هذا التنسيق على حساب فرنسا التي سُحب منها التوكيل الأميركي بالمنطقة، وسيؤسِّس قاعدة توافق مشتركة، تُبقي على النفوذ التركي في ليبيا، وتعزّزه في أفريقيا والبحر الأسود، كما ستوفِّر هذه القاعدة أرضية لتجاوز بعض الخلافات التقنية.
سياسة نشطة حيال دول البلقان
تكتسب منطقة البلقان أهمية بالنسبة إلى تركيا من الناحية الجغرافية والسياسية والاقتصادية، والروابط التاريخية والثقافية والإنسانية.
كما تكتسب منطقة البلقان، التي تشكل من الناحية الجغرافية امتدادًا لتركيا في القارة الأوربية، أهمية كبيرة بالنسبة إلى تركيا بسبب موقعها الخاص في العملية التاريخية لتكوين الأمة التركية، والتكامُل الإقليمي، وفي سياق القدرات التي تملكها والتي ستنعكس مستقبلًا على الهدف التركي في الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، والذي تتشاطره تركيا مع كافة دول المنطقة.
وعملت تركيا على مبادرات دبلوماسية في دول البلقان، كما أنشأت أنقرة شراكة هامة مع مقدونيا، لأن تركيا كانت ترى مقدونيا في القلب الجغرافي للبلقان.
كما شملت أيضًا الجبل الأسود ومولدوفا وألبانيا والبوسنة والهرسك، بغية رفع مستوى العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية، وفي الوقت ذاته الوقوف على آلية للتصدي لتهريب المخدرات والأسلحة عبر هذه الدول باتجاه سوريا والعراق.
تأتي هذه السياسة النشطة في ظلّ التوجه الدولي العام نحو اتّباع مسار دبلوماسية نشطة، لتوطيد العلاقات الدبلوماسية المتوازنة مع معظم اللاعبين.
– البحر المتوسط
تنحية الخلافات جانبًا، والسعي لتغليب المصالحة مع مصر واليونان وفرنسا، لعدم تعكير خلاف المتوسط على صفو توجُّهها في المناطق الأخرى.
في الختام؛ يأتي التحرك التركي في هذا الاتجاه تماشيًا مع التوجه الأميركي الحالي، نحو ترجيح مسار الدبلوماسية المكثفة على الصراع والخلافات بين الحلفاء.
لا يعني ذلك عدم حدوث خلافات بين تركيا وبعض الدول، لكنها ستعمل على تخفيف حدة هذا الصراع لتجنب الضغوطات الأميركية، كما لا يعني ذلك تخليها عن العلاقات مع الصين وروسيا، لكن ستعمل على تخفيف علانية علاقاتها كي لا تظهر على أنها تتحدى الغرب.