أثارت التطورات الميدانية التي تشهدها الساحة الأفغانية، على إثر الصعود الكبير لحركة طالبان، عبر سيطرتها على العديد من المدن والمقاطعات الأفغانية، بعد انسحابات متتالية للقوات الأميركية والدولية، وعجز الحكومة الأفغانية عن صدّ تقدم الحركة، الكثير من التساؤلات في الشارع العراقي، حول إمكانية أن يتكرر هذا السيناريو في العراق أيضًا، خصوصًا إن هناك مطالبات متكرِّرة لانسحاب القوات الأميركية من العراق، إلى جانب تصعيد عسكري مستمرّ ضد المقرّات والقواعد التي تتواجد فيها القوات الأميركية في العراق.
إن المتغيّر الرئيسي في المعادلة الأفغانية، هو إن الرئيس الأميركي جو بايدن رغم إعلانه في فترة سابقة إن القوات الأميركية ستنسحب من أفغانستان بحلول 11 سبتمبر/ أيلول 2021، إلّا إن انسحابها قبل هذا الموعد أثار الكثير من التساؤلات، في ضوء حالة ارتباك واضح بدأت تسود المواقف الدولية والإقليمية المعنية بالشأن الأفغاني.
ويبدو أن الولايات المتحدة بدأت تدرك أخيرًا إن عملية خوض حروب مع الجماعات المسلحة في مناطقها وعمقها الاستراتيجي، أشبه ما تكون بعملية انتحارية إلى ما لا نهاية، هذا إلى جانب أنها تريد توريط العديد من القوى الدولية في الشأن الأفغاني.
فالصين بدأت تعي إن تطور الأوضاع في أفغانستان نحو حرب أهلية، يعني تعطيل مشروع الحزام والطريق الذي يستهدف احتواء الدور الأميركي في الشرق الأوسط، وتعطيل عملية الاستدارة الأميركية نحو الشرق.
أما روسيا فهي الأخرى لا تريد تكرار سيناريو الانسحاب السوفيتي من أفغانستان عام 1979، كما إنها تنظر إلى أنَّ تفجُّر الأوضاع في عمقها الجنوبي، يعني مزيدًا من حالة عدم الاستقرار، وتحديدًا بعد سيطرة الحركة على معابر حدودية مع طاجيكستان.
أما إيران فهي ورغم علاقاتها الجيدة مع الحركة، إلّا إن هذه العلاقات تكتنفها حالة عدم الثقة، وتخشى من أن تستغلَّ جماعات بلوشية مسلحة، وتحديدًا جيش العدل، الانتصارات العسكرية التي حقّقتها الحركة، والبدء بعمليات مسلحة في الداخل الإيراني، هذا فضلًا عن مشكلة اللجوء والنزوح التي قد تواجه إيران أيضًا.
تشير عملية الاستعارة المستمرة من قبل قيادات الفصائل المسلحة للنموذج الأفغاني، إلى إنها تريد أن تتصدّر هي العملية التفاوضية مع الولايات المتحدة.
ومن ثم يمكن القول إن الواقع المعقّد الذي تشهده الأزمة الأفغانية، أصبح بمثابة ثقب أسود من الممكن أن يجرَّ جميع القوى إليه، ولكُلٍّ من هذه القوى أسبابه السياسية والاستراتيجية التي تدفعه لممارسة دور الإطفائي في الشأن الأفغاني، خوفًا من أن تتحول هذه الأزمة إلى عنصر عدم استقرار أمني في منطقة جنوب ووسط آسيا، مع الإشارة هنا إلى إن الدورَين التركي والباكستاني الوحيدَين اللذين يتحرّكان خرج الحسابات المعقدة.
أين يقف الوضع في العراق؟
لم يكن الواقع الأفغاني من جهة، والصعود الكبير لحركة طالبان من جهة أخرى، وتحديدًا بعد توقيع اتفاق الدوحة للسلام بين الحركة والإدارة الأميركية في 29 فبراير/ شباط 2020 برعاية قطرية، والذي نصَّ على وضع جدول زمني لانسحاب القوات الأميركية من أفغانستان بغضون 14 شهرًا بصورة تدريجية من تاريخ توقيع الاتفاق، وشطب أسماء قادتها من القائمة السوداء؛ ببعيد عن خطابات قيادات العديد من الفصائل المسلحة القريبة من إيران في العراق.
وذلك ما عبّر عنه زعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي في 24 أبريل/ نيسان 2021، بأن “الطريقة الأفغانية” هي الكفيلة بإخراج القوات الأميركية من العراق، وحظيت دعوة الخزعلي بدعم وتأييد من قيادات الحرس الثوري، التي رأت في هذه الدعوة سبيلًا لتسريع عملية إخراج القوات الأميركية من العراق، وتعظيمًا للأوراق التفاوضية الإيرانية في المفاوضات النووية الجارية في فيينا.
تشير عملية الاستعارة المستمرّة من قبل قيادات الفصائل المسلحة للنموذج الأفغاني، إلى أنها تريد أن تتصدّر هي العملية التفاوضية مع الولايات المتحدة، والحديث هنا عن جولات الحوار الاستراتيجي الجارية بين بغداد وواشنطن، حيث إنها عادةً ما شكّكت بقدرات المفاوض العراقي، واتهمته مرارًا وتكرارًا بالتردُّد في طرح مسألة الانسحاب الأميركي من العراق، ومشدّدًا بالوقت ذاته على ضرورة أن يكون هناك من يمثلها في العملية التفاوضية مع الولايات المتحدة.
تؤشر السلوكيات الأخيرة للحرس الثوري في العراق نحو مزيد من التصعيد، وإجمالًا يمكن القول إن الساحة العراقية ستواجه مزيدًا من التحديات الأمنية والسياسية.
إلا إنه من جهة أخرى لا بدَّ من الإشارة إلى إن الوضع في أفغانستان يختلف عن العراق، لكُلِّ وضع منهما حساباته الخاصة، قد تكون الولايات المتحدة مضطرة للانسحاب من هناك، لكنها تجد نفسها مضطرة للبقاء في العراق، فالعراق أهم لها من أفغانستان، والذي يراهن على تكرار سيناريو طالبان في العراق، يبدو أنه لم يدرك بعد طبيعة التطورات المحيطة بالعراق.
حيث إن تمسُّك الولايات المتحدة ببقائها في العراق، يشير إلى مدى الأهمية التي توليها إدارة بايدن لنفوذها ومصالحها في العراق، لأن الجبهة الغربية للولايات المتحدة أكثر أهمية من الشرقية، والوضع في أفغانستان متشعّب وفيه أكثر من فاعل، ليس كالوضع في العراق، ثم إن حركة القوات الأميركية من قطر نحو الأردن، إلى جانب التصاق الجغرافيا العراقية بالسورية ثم الإسرائيلية، واستدارتها نحو الجنوب حيث الخليج العربي واليمن، تفرض عليها أهمية العراق.
وما يدلِّل على ذلك هو ما أشارت إليه قناة “فوكس نيوز” الأميركية في 7 يوليو/ تموز 2021، عن موافقة إدارة بايدن على إرسال الفرقة العسكرية “فورد كارسون” المختصة بملاحقة الجماعات المسلحة والأفراد المطلوبين للولايات المتحدة، والمكوَّنة من 4 آلاف مقاتل، إلى العراق، ما يعدّ تحوّلًا هامًّا في نوع الصدام ما بين إيران ووكلائها وبين الولايات المتحدة في العراق، ما يدلِّل في الوقت ذاته على أن لا نية للإدارة الأميركية بسحب قواتها من العراق في المستقبل القريب.
تؤشر السلوكيات الأخيرة للحرس الثوري في العراق نحو مزيد من التصعيد، وإجمالًا يمكن القول إن الساحة العراقية ستواجه مزيدًا من التحديات الأمنية والسياسية.
هذه التحديات مرتبطة بطبيعة الأدوار المقلقة لفيلق القدس عبر الفصائل والخلايا التابعة له، والتي استنزفت جهود الحكومة العراقية في استعادة الأمن والاستقرار، خصوصًا إن الفصائل المرتبطة بفيلق القدس لم تعد قادرة اليوم على الانسجام مع هيكل النظام السياسي العراقي، أو تتقبّل مزيدًا من الخسائر جراء الإجراءات الحكومية المستمرة ضدها، والتي حجّمت الكثير من تأثيرها وقوتها.
ومن ثم إن تأكيدها على النموذج الأفغاني يوحي برسائل مبطنة للداخل العراقي (الرسمي والشعبي)، بأن النية متوفِّرة لذلك، لكن ساعة الصفر لم تحن بعد، وكل ذلك يتوقف على طبيعة التجاذب الأميركي الإيراني في العراق، في ظل غياب الخيار الوطني العراقي عن المشهد.