تزداد الأوضاع اللبنانية تعقيدًا على كافة المسارات، يومًا تلو الآخر، فالشعب الذي ما انفكَّ أن يخرج من أزمة إذ به يجد نفسه في خضمّ أزمات جديدة، وهكذا تدور الحياة بعجلات حديدية مهشّمة، تترك خلفها آثارها الكارثية التي حوّلت حياة الملايين من اللبنانيين إلى معاناة شبه يومية.
تلك الوضعية الممتدة منذ أكثر من 5 سنوات تقريبًا، وكانت سببًا رئيسيًّا في الحراك الشعبي المندلع نهاية 2019 والمستمر حتى كتابة هذه السطور؛ فرضت حالة من اليأس لتخيِّم على الأجواء في البلد الذي طالما عُرف عن شعبه خفّة الظل والإقبال على الحياة، بل كان قِبلة الباحثين عن السعادة وراحة البال قبل أن يتحول إلى طارد لأبنائه في ظلّ الظروف الحالكة التي يمرُّ بها.
وقد بلغت الأمور بهذه البقعة الساحرة من العالم لأن تصبح أسيرة تحركات وأجندات إقليمية عديدة، ولعلّ توبيخ السفيرة الفرنسية في بيروت لرئيس حكومة تصريف الأعمال اللبناني، أول أمس، وتوجُّهها برفقة نظيرتها الأميركية للرياض لمناقشة الأزمة اللبنانية، أكبر دليل على أزمة السيادة والاستقلالية لهذا البلد الذي حذّر البعض من عودة “زمن الوصاية والانتداب” مرة أخرى.
العودة لعصور الظلام
يتّجه لبنان، ذلك البلد الذي عرف الكهرباء مبكّرًا عن طريق شركة الترامواي والتنوير العثمانية، التي أُنشئت في بيروت عام 1906؛ إلى العودة لعصور الظلام الحالك، في ظلّ حالة التدهور التي لحقت بمنظومة البنية التحتية في مجال الطاقة والكهرباء.
وقد أعلنت “مؤسسة كهرباء لبنان” عن أعطال بالجملة في عدد من المعامل والمحطات، لافتة في بيان لها عن توقف معملَي الزهراني ودير عمار لتوليد الكهرباء (أكبر معملَي إنتاج للطاقة الكهربائية في البلاد) بسبب نفاد مخزونهما من مادة الغاز أويل.
أرجعت المؤسسة في بيانها هذا العطل إلى “تعذُّر تفريغ ناقلتَين بحريتَين محمّلتَين بمادة الغاز أويل، بانتظار استكمال الإجراءات المصرفية لدى المصارف الأجنبية”، وأفادت بـ”توقف خدمة معملَين لتوليد الكهرباء، وهما الزهراني (جنوب)، ودير عمار (شمال)، نتيجة نفاد خزينتهما من مادة الغاز أويل”.
وأضافت أنه “إزاء استمرار هذا الوضع الخارج عن إرادة مؤسسة كهرباء لبنان، ستستمر المؤسسة في اتخاذ الإجراءات الاحترازية اللازمة بشكل متواصل، للحفاظ على أكبر قدر ممكن من الحد الأدنى في الاستقرار بالتغذية بالتيار الكهربائي لأطول فترة ممكنة، بما يتجانس مع خزين المحروقات المتبقي لديها”.

أعلنت شركة “كهرباء زحلة” هي الأخرى في بيان، أنه “من أجل الحفاظ على استمرارية الكهرباء لأكثر من 300 ألف شخص في مدينة زحلة، و16 بلدة بقاعية، وبعد صفر تغذية من مؤسسة كهرباء لبنان، لجأنا مكرهين إلى قطع التيار عن الإنارة العامة منذ أسبوع، وعن أصحاب المصانع والمحطات الخاصة، الجمعة، وحتى إشعار آخر”، داعيةً “جميع المشتركين للتخفيف من استهلاك الطاقة كي لا نضطر إلى اللجوء للتقنين”.
وقد تسبّبت تلك الأعطال التي شملت الجزء الأكبر من المحطات في تخفيض ساعات التغذية في غالبية المناطق، ما أجبر أصحاب المولدات الخاصة على زيادة ساعات التقنين، تزامنًا مع أزمة شحِّ الوقود، الأمر الذي أقبع آلاف اللبنانيين في عدة مناطق تحت ظلام دامس.
هذا الوضع المأساوي دفع الكثير من اللبنانيين إلى البحث عن الحلول الفردية -بعد فقدان الأمل في الحلول الحكومية- للبقاء على قيد الحياة، حيث مبدأ “الحاجة أُمّ الاختراع” فكان التفكير في الاعتماد على الطاقة الشمسية.
يذكر أن البنية التحتية للكهرباء في لبنان قد دُمِّر عصبها الأساسي خلال فترة الحرب الأهلية (1975-1990) وما بعدها، ثم أجهزت الغارات الجوية الإسرائيلية، وما رافقها من اجتياحات بين الحين والآخر، على ما تبقى منها.
ورغم التسوية السياسية التي تلت الحرب وجهود إعادة الإعمار، إلا إنهما فشلتا في علاج ما تم تدميره بشكل كامل، لتبقى الكهرباء إحدى أبرز معضلات الدولة اللبنانية على مدار نصف قرن تقريبًا.
المياه.. انقطاع بالتبعية
تداعيات انقطاع الكهرباء لا تنحصر فقط في حالة الظلام الذي سيخيّم على الأجواء، بل تمتدّ إلى قطع المورد الحياتي الأكثر خطورة، وهو المياه، والتي تعتمد محطاتها في أساس عملها على الطاقة، من كهرباء وقود، وفي ظل شحّ كليهما، فإن مضخّات المياه لن تعمل.
مؤسسة مياه لبنان الجنوبي في بيان لها أمس الجمعة، أوضحت تداعيات أزمة الكهرباء على منظومة المياه، حين قالت إنه “وبعدما تم قطع الكهرباء عن منشآتنا كافة ومحطات إنتاج وتوزيع المياه الكبرى، وعدم تأمين التيار الكهربائي حتى عبر خطوط الخدمات العامة، وبسبب قلة مخزون المازوت المتوافر لديها، فإنها ستبدأ بتقنين توزيع المياه إلى الحدود الدنيا، علمًا أن هذه الكميات المتوافرة لا تكفي إلا لفترة قصيرة جدًّا، ستتوقف بعدها كل منشآتها ومحطاتها عن ضخّ وتوزيع المياه”.
ومن الجنوب للشمال، حيث أعلنت مؤسسة لبنان الشمالي في بيان، أنها “ستضطر آسفةً إلى إعلان حالة الطوارئ القصوى وتطبيق برامج تقنين تطاول عملية ضخّ وتوزيع المياه في المناطق السكنية في محافظتَي الشمال وعكار”، علاوة على ذلك فإن الانقطاع طالَ كذلك محطات الصرف الصحي التي تديرها المؤسسة.

هذا الوضع المأساوي دفع الكثير من اللبنانيين إلى البحث عن الحلول الفردية -بعد فقدان الأمل في الحلول الحكومية- للبقاء على قيد الحياة، حيث مبدأ “الحاجة أُمّ الاختراع”، فكان التفكير في الاعتماد على الطاقة الشمسية كبديل لتوليد الكهرباء والمياه معًا، خاصة في ظل ما يثار باستمرار من قطع المرافق لأوقات طويلة، ما سيكون له تداعياته الكارثية على الحياة في الداخل اللبناني بصورة كبيرة.
تعدّ بلدية العباسية (جنوب لبنان) النموذج الأبرز حضورًا في هذا المسار الجديد، أي الحلول البديلة، حيث بدأت في تنفيذ مشروع لضخّ المياه إلى المنازل عن طريق الطاقة الشمسية، ومن المقرَّر له أن يدخل حيّز التنفيذ خلال 15 يومًا.
وأوضح رئيس البلدية علي موسى عز الدين، أن البلدية فكرت بالاستفادة من الطاقة الشمسية ضمن الإمكانات المتوفِّرة لديها، وأنها “تهدف فقط إلى تشغيل محطات ضخ المياه في البلدة، بعدما كادت تتوقف بسبب انقطاع الكهرباء وعدم وجود مادة المازوت لتشغيل المولدات التي تؤمن تغذية بديلة”.
العلاج.. صيدليات بلا دواء
الأوضاع تتأزّم أكثر بغياب الأدوية من على أرفف الصيدليات، وفشل المرضى في العثور على العلاج المناسب كما حدّده الأطباء، حيث حذّرت نقابة مستوردي الأدوية من نفاد مخزون مئات الأدوية، لتوقُّف استيرادها منذ أكثر من شهر، وذلك رغم تعهُّد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بتسديد الاعتمادات والفواتير التي تتعلق بالأدوية المستورَدة من الخارج، خاصة أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية.
عادةً يؤمِّن المصرف المركزي الاعتمادات المالية اللازمة لاستيراد الدواء من الخارج، خاصة إن معظم الأدوية المباعة في الصيدليات مستورَدة، لكن في ظلّ الأزمة النقدية الأخيرة، وتراجُع الاحتياطي من النقد الأجنبي (من متوسط 38 مليار دولار عام 2019، إلى أقل من 16 مليار دولار حاليًّا)، وجدَ المصرف صعوبة في توفير العملة الصعبة المخصَّصة للاستيراد، ما انعكس على مستوى الوفاء بالالتزامات في هذا الملف.
“قطاع الصيدلة شارف على النهاية بسبب الأزمة التي بدأت منذ سنتَين، إلى أن وصلت إلى ذروتها اليوم”.. هكذا علّق الصيدلاني سامر سوبرة -صاحب واحدة من كبرى الصيدليات في العاصمة بيروت- على الأزمة، مضيفًا: “الصيدليات وصلت إلى مرحلة الخطر والناس تخشى تفاقمًا أكبر في الأزمة، لم يعد لدينا الدواء بسبب عدم تلبية حاجاتنا من المستوردين، فهم يدّعون أنهم يموِّلون الصيدلية بحاجاتها، لكن عمليًّا لا نحصل إلّا على 5% منها”، حسبما نقلت وكالة “الأناضول“.

أما خلود العياص (27 عامًا)، وهي تعمل في إحدى الصيدليات، فعلّقت بقولها: “كصيدلانيين نواجه أزمة فقدان الدواء منذ أشهر والشركات لا تلبي كما كانت في السابق، وهذا الشيء يخلق أزمة مع المرضى”، ولفتت إلى أن “حوالي 600 صيدلية أقفلت بالفترة الأخيرة جراء هذه الأزمة الاقتصادية”.
وعلى مستوى معاناة المواطنين، فقد نقلَ مراسل الوكالة عن اللبنانية فاطمة يوسف (83 عامًا)، قولها أثناء خروجها من إحدى الصيدليات في بيروت: “لم أجد دوائي في الصيدلية وبحثت عن دواء بديل، لكنه أيضًا غير متوفر، لقد بحثت في 7 صيدليات، وأنا كبيرة في السنّ ولم أجد أيًّا من الأدوية التي أحتاجها، خاصة أني أعاني عدة أمراض، كالسكّري والضغط والقلب والدهنيات والغدة”.
إن كان هناك مسمّى من الممكن أن يطلق على لبنان اليوم، فالأصح أن يكون بلد “اللاءات الثلاث” حيث لا كهرباء ولا مياه ولا أدوية.
رئيس لجنة الصحّة النيابية، النائب عاصم عراجي، كشف أن قطاع الأدوية “وصل إلى ما هو عليه اليوم بسبب انهيار الليرة، وعندما انتُهجت سياسة الدعم من مصرف لبنان، باتت الأدوية تهرّب للخارج”، مضيفًا أن “المشكلة تتمثل في تراجع كميات الواردات الدوائية لنقص الدولار والتهريب الحاصل، والأدوية المقطوعة يتم تهريبها إلى الدول المجاورة”.
ولفت إلى أنه “لا حلول من دون توقف التهريب إلى الخارج.. أما إن كانت المشكلة في موضوع الترشيد بشكل عام، فلم تتخذ الحكومة الحالية القرار بشأنه وتركته للحكومة المقبلة”.
إن كان هناك مسمّى من الممكن أن يطلق على لبنان اليوم، فالأصحّ أن يكون بلد “اللاءات الثلاث” حيث لا كهرباء ولا مياه ولا أدوية، ومع ذلك فإن الشخصية اللبنانية، مؤسساتيًّا أو مجتمعيًّا، تملك من مقومات النهوض والتنمية الكثير، فقط تنقصها الإرادة الحقيقية والتخلي عن شخصنة الوضع وتغليب مصالح البلاد العليا لعبور تلك المرحلة الحرجة في تاريخ الدولة، التي كانت بالأمس منارة الفن والحضارة والرقي.
ما يشهده لبنان اليوم لم يكن مستغربًا ولا مفاجئًا للكثير من المراقبين، فما يحدث نتيجة منطقية وطبيعية للفشل السياسي داخليًّا، والسقوط في براثن الاستعمار الإقليمي والدولي خارجيًّا، ليدفع اللبنانيون ثمن النزاع السياسي، والطائفية المقيتة التي تنهش جسد البلد الواقف على شفا الانهيار.. فهل تُحرِّك الأزمة الراهنة مِن ساكن لدى الحكّام، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان؟