في الأعوام القليلة الماضية، شاع استخدام الفن المرئي، من الدراما والسينما، كأداة سياسية لترويج مقولاتٍ قومية أو للحط من سرديات مناوئة في منطقة الشرق الأوسط، بالأخص بعد ثورات الربيع العربي بموجتيه الأولى والثانية ومعاينة تجارب استخدام هذا النمط من الفن (فنون المشاهدة) للتأثير على شرائح واسعة من المجتمعات، لا سيما بعد تنامي الصراعات السياسية بين عدد من الدول في الإقليم.
لا بد أنك تذكرت عملًا واحدًا على الأقل من الأعمال الفنية التي تتبناها دولة معينة من أجل الترويج لأيديولوچيا سياسية أو النيل من أيديولوچيا أخرى، لكن إحدى السمات التي ميزت هذه الأعمال جميعًا، هي القطرية، بمعنى أنها لم تخرج عن سياقها المحلي أو الإقليمي من حيث طبيعة الجمهور المستهدف.
أما العمل الذي نتناوله بالتحليل في هذه المادة، فقد شذ عن هذا الخط بتحويله إلى ما يشبه أدوات الترويج “اللوپي” والعلاقات العامة في الخارج.. ولم لا؟ فقد أنفقت دولة الإمارات ميزانيةً مبدئية تشبه إلى حد كبير مستوى الأرقام المدفوعة في حملات الدعاية الخارجية (15 مليون دولار على الأقل) من أجل النيل من خصومها السياسيين، داخليًا وإقليميًا، تحالفات ودول، من خلال هذا الفيلم الذي يحمل اسم “المنحرفين: Misfits”.
قصة العمل
تعتمد الحبكة الأساسية في الفيلم غير الطويل على “معضلة” (Paradox) مستعارة من حقل “فلسفة الأخلاق” تحاول الإجابة عن سؤال: هل تجوز السرقة من الأغنياء، مع الجزم بأن السرقة عملٌ غير أخلاقي، وذلك من أجل القيام بعمل آخر أخلاقي، وهو مساعدة الفقراء؟!
من المفترض في الفيلم، أن المنحرفين الأربع كرسوا حياتهم من أجل هذا المهمة، السرقة من الأغنياء من أجل إعطاء الفقراء، وهو تطويرٌ للثيمة التقليدية المعروفة في أدبيات الأدب الغربي، بل والشرقي أيضًا مع اختلاف الأسماء، عن “روبن هود” الذي يذكر الفيلم اسمه مباشرةً أو مثلًا عن “علي الزيبق” (كما يوجد في الفن الشعبي المصري).
يتكون هذا الفريق من 4 أفراد، جندريًا هم عبارة عن 3 ذكور وفتاة واحدة، يؤدي كلٌ منهم مهمة محددة يمثلون بشكل من الأشكال “الخير العالمي” في مواجهة شر عالمي أيضًا، فالآسيوي الوسيم يجيد استخدام العبوات المتفجرة من أجل تسهيل الخير، والشاب الأسمر يجيد الاحتيال الخيري أيضًا، والأمير العربي يجيد توظيف علاقاته ونفوذه في الأعمال المستحسنة، غير أن الفتاة الرقيقة الجميلة شكلًا، في مفارقةٍ جذابة، يسند إليها مهمة الأعمال القتالية ضد الأشرار.
تتوافر هذه السمات المطلوبة في شخصٍ خامس، طالما تمكن من الهروب من السجون بسهولةٍ كبيرة
وبشكلٍ ضمني، ينحاز الفيلم لإجابةٍ معينة عن السؤال المعضل: هل يمكن القيام بعمل غير أخلاقي ظاهرًا من أجل غايةٍ نبيلة؟ إذ يوافق الفيلم على هذه الصيغة، خاصةً إذا كان المسروق “ذهبًا” سيستخدم في تمويل جماعات إرهابية تخطط لقتل الأبرياء في الشرق الأوسط.
هذا الفريق الرباعي المتكامل ليس متكاملًا، إذ ينقصه حلقةٌ مفقودة، هو العقل المدبر والمنفذ الموهوب، فـ”رينجو” الفتى الأسمر سارقٌ محترف، إلا أنه لا يستطيع تنفيذ عملية ضخمة، على مستوى سرقة سجن شديد الحراسة، يحتوي على كميات ضخمة من الذهب.
وبالفعل تتوافر هذه السمات المطلوبة في شخصٍ خامس، طالما تمكن من الهروب من السجون بسهولةٍ كبيرة، وسرقة أي شخص يرصد فيه علامات الثراء، لكن التحدي: كيف يمكن إقناع هذا المجرم المتمرس في الإجرام أن يؤدي مهمة خطيرة كتلك، دون مقابل مادي، فـ”المنحرفون الأربع” يخططون لهذه العملية الكبرى من إنقاذ الشرق الأوسط من موجة جرائم إرهابية.
يبذل “المنحرفون” جهودًا حثيثةً من أجل إقناع الحلقة المفقودة بالانضمام إلى فريقهم على شروطهم التي لم يعتدها، فيساعدونه على الهروب من أحد السجون التي كان محتجزًا بداخلها إشباعًا لشهوته في الهروب وتحدي السلطات، وذلك قبل يوم واحد فقط من الإفراج عنه.
ويحدثونه عن الذهب الذي طالما أسر قلبه، حتى إن كان لن يحصل عليه، ثم يستخدمون الورقة الأخيرة، ابنته، التي تعمل في منظمة خيرية تابعة للأمم المتحدة، وتعاني من مشاكل ثقة في الرجال بسبب سوابق والدها غير الأخلاقية وتعليمه إياها حيل السرقة في سن مبكرة، فتبدي الشقراء الحسناء تجاهه بعضًا من مشاعر السخط بسبب اختيار القدر إياه، دون غيره، والدًا لها، ما يثير مشاعره هو الآخر نحو ضرورة التغيير، فيوافق صاغرًا على الانضمام للفريق، وتبدأ دراما محاولة اقتحام السجن والاستيلاء على الذهب من أجل منع وصوله للإرهابيين.
ما علاقة الإمارات؟
فضلًا عن تمويل الفيلم بآلاف الدولارات، فقد أشرفت شركةٌ إماراتيةٌ تدعى “فيلم جيت” على إنتاج الفيلم وتنفيذه، مستعينةً بـ4 شركات كبرى لتوزيعه عالميًا، مثل باراماونت بيكتشرز وذا أڤنيوز وهايلاند فيلم، بالإضافة إلى فوكس سينما لتوزيعه في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
واستعانت الشركة الإماراتية بكوكبةٍ من ألمع النجوم العالميين للتخديم على العمل في كل مراحل تجهيزه، بدايةً من الكتابة التي قام بها روبرت هوني، والتمثيل الذي شارك فيه تيم روث ونيك كانون، إلى جانب بطل الفيلم الذي أدى دور البطولة قبل ذلك في أحد أفلام سلسلة “چيمس بوند”: بيرس بروسنان، وهو ما يرجح أن ميزانية الفيلم قد تكون أعلى إلى حد كبير من الرقم المعلن، لتنفيذ مشاهد الأكشن وتجهيز المواقع ودفع أجور الممثلين والسفر إلى الخارج.
الفيلم يقدم الإمارات، ممثلة في العاصمة أبو ظبي، واحةً للاستقرار والرفاهية
ولهذا السبب تحديدًا، التمويل الإماراتي السخي، يرجح أن الفيلم جرى تصويره في مواقع إماراتية عدة، مثل مدينة مصدر وجزيرة السعديات وكورنيش أبو ظبي ومتحف اللوڤر، وأماكن أخرى في دبي والعين، بعد أن كان مقررًا تصويره في بورتريكو، وجرى الاستعانة في فريق التمثيل ببعض الممثلين من جذور عربية، بل وإماراتية، مثل سامر المصري، الممثل السوري الذي شارك في عدد من أعمال تلميع النظام المصري، مثل فيلم “الخلية” الذي عرف بمواقفه الجدلية مثل ترشحه إلى الرئاسة السورية أمام الرئيس بشار الأسد عام 2014، إلى جانب الممثل الإماراتي منصور الفيلي والفلسطيني رامي جابر.
يروج الفيلم لـ5 سردياتٍ أساسية لا تنفك عن قوام المقولات المؤسسة للسياسة الخارجية الإماراتية خلال الأعوام الأخيرة، وهي أن جماعة الإخوان المسلمين ترتبط عضويًا وتاريخيًا بالتنظيمات الإسلامية المسلحة التي تحمل مسميات مختلفة مثل تنظيم القاعدة، وأن إقليم الشرق الأوسط، باستثناء بقاع قليلة، يعد مأوى للإرهابيين والمتشددين، وأن الجهاديين لجأوا إلى التشدد باعتباره شكلًا من أشكال الجريمة المشروعة، لا من أجل دوافع ذاتية، وذلك ضمن سلسلة متصلة من الأعمال غير المشروعة مثل تجارة المخدرات والأسلحة وغسيل الأموال، وأن هذا الفريق الذي يمثل جهود دولة الإمارات بشكل ما، يسعى إلى كبح شرور الإخوان المسلمين وروافدهم، أو كما ورد نصًا في الحوار أنه: “قد لا يمكننا إيقاف الإخوان المسلمين، لكن يمكننا منع قنبلة واحدة”.
رغم أن المكان الذي يوجد فيه السجن “جزرستان” يوحي بأنه يشير إلى إحدى الدول الآسيوية التي عرفت بالتنظيمات الإسلامية المسلحة مثل أفغانستان وباكستان، إلا أنه يتضح أنه يشير إلى دولة “قطر” التي تعتبرها الإمارات أبرز خصومها في الإقليم، وذلك من خلال الإشارة إلى قاعدة العديد الأمريكية، واستخدام اللون “العنابي” الذي يرمز إلى الهوية القطرية، والتأكيد أن هذه الدولة لا تبعد كثيرًا عن الإمارات، كما أنها مدعومة من الولايات المتحدة، وهي السردية التي طالما روجتها الإمارات عن دعم القوى الكبرى للإسلام السياسي.
في المقابل من هذه الصور المقبضة عن خصوم الإمارات، فإن الفيلم يقدم الإمارات، ممثلة في العاصمة أبو ظبي، واحةً للاستقرار والرفاهية، فالسيارات فارهة والطرق ممهدة والفنادق خمس نجوم وسائق الأجرة يرتدي بذلة كالأثرياء والشوارع متسعة والشواطئ لا تخلو من تحرر نسائي وإباحة للخمور، فضلًا عن إمكان ممارسة الجنس دون قيود، كما ظهر البطل في أحد المشاهد بجواره فتاة غير معروفة شبه متعرية في الفندق صباحًا.
سرديتان
روج الإماراتيون، وبالأخص ممولو الفيلم لنجاحه معتبرين أنه “سيسجل نقلةً نوعية مختلفة في مجال الإنتاج العالمي الذي تتولاه شركاتٌ إماراتية بمشاركة نخبة من النجوم العالميين، ضمن سعي متواصل لتقديم أعمال فنية نوعية إلى العالمية”.
اختيار الكثير من المواقع كان يعتمد على عدة عوامل
ووصف منصور البيهوني الظاهري الرئيس التنفيذي للشركة المنتجة نجاح الفيلم إلى حد أنه “تصدر منصات العرض في الولايات المتحدة للأسبوع الثاني على التوالي، وروسيا بعد أقل من أسبوع على عرضه، كما تصدر جميع الأفلام التي عرضت خلال عام 2021 في العديد من الدول”.
السر في هذا النجاح وفقًا للممول الإماراتي أن الفيلم “مختلف في القصة والمضمون وبه جرعةٌ زائدة من مشاهد الأكشن والحركة التي نفذها باحترافيةٍ النجم العالمي بروس بروسنان وصورها المخرج المبدع ريني هارلن”.
وعن أسباب اختيار مواقع محددة لتصوير المشاهد، قال الظاهري إن اختيار الكثير من المواقع كان يعتمد على عدة عوامل منها: “إظهار ما تمتلكه أبو ظبي من مقومات وأسس وركائز تؤهلها للريادة العالمية في مجال الإخراج والإنتاج، إلى جانب إبراز المواقع الخلابة التي لم تستهلك سينمائيًا في عمليات التصوير التي ستظهر عبر شاشات السينما في الفيلم”.
الواقع
بعد مراجعة عددٍ من المواد النقدية التي تجنبت الحديث عن الحمولة السياسية الموجودة في الفيلم، وجدنا ما يشبه الإجماع على كون الفيلم أصاب عشاق الفنانين المشاركين فيه بالإحباط، يقول عبيد التميمي:”حينما تقرر صناعة فيلم يندرج تحت ثيمة تحول جذري في حياة البطل، وتستطيع أن توظف نجومًا سينمائيين مثل بيرس بروسنان وتيم روث، يجب على أقل تقدير ألا تكون حبكة الفيلم مليئةً بالثغرات والعيوب، ويجب قطعًا الاهتمام بتطوير شخصيات مثيرة للاهتمام تلفت النظر وتجعل المشاهد يتغاضى عن أي عيوب سردية”.
رصد التميمي ما أسماه: “اعتمادًا على المونتاج منذ بداية الفيلم للتسريع من النسق وتشتيت الانتباه عن الضعف الواضح في الحوارات”، منتقدًا بناء الشخصيات: “أغلب الشخصيات كانت سطحية وهزلية، شخصيات دون دوافع حقيقية ولا صراعات داخلية تبرر هذه الدوافع، طوال الفيلم لم أجد فهمًا لسبب رغبة الأبطال في القيام بهذه الأعمال الخيرية المتكررة، ولم أفهم كيف يحصلون على قوت يومهم، إذا كان كل ما يقومون بسرقته يعود إلى الفقراء”.
بعد حصول المقطع التشويقي للفيلم على أكثر من مليون مشاهدة على يوتيوب، فإن الفيلم لم يتمكن بعد من الحصول على أكثر من مليون دولار إيرادات
أما مراجع قناة “استنى بس” على يوتيوب، فقد رأى أنه باستثناء مشاهد التصوير، فإن “كل شيء في الفيلم كان سيئًا جدًا، الأكشن والخطة والإخراج والتصوير والسيناريو والحوار، كل التوقعات كانت خاطئة، الفيلم عبارة عن مجموعة من الحاجات “أي كلام” المجموعة في ساعة ونصف، لم أتمكن حتى من تصنيف الفيلم، كوميدي هو أم تشويقي، لذلك، أعطيه تقييمًا نهائيًا 3/10″.
بعد حصول المقطع التشويقي للفيلم (تريلر) على أكثر من مليون مشاهدة على “يوتيوب”، فإن الفيلم لم يتمكن بعد من الحصول على أكثر من مليون دولار إيرادات، ونحو 20% تقييمًا على موقع Rotten Tomatoes النقدي، وما يقارب من 25% على موقع Metacritic، وذلك رغم كوكبة النجوم المشاركة في الفيلم والتصوير المبهر والدعاية الكبيرة.
يلخص المراجع اليوتيوبي رأيه في الفيلم قائلًا: “إذا كنت مقبلًا على الفيلم من أجل مشاهدة نسخة محسنة بمعايير العصر من فيلم Italian job، فلتراجع نفسك، وتعود لمشاهدة الفيلم القديم، لأنه لا مجال لأي مقارنة بين الفيلمين”.