تشهد المؤسسة العسكرية السودانية، الأيام الأخيرة، سخونة نسبية في الأجواء، في ظل تصاعد مطالب الإصلاح، وتوحيد كل القوات في كيان واحد، ودعوات إعادة الهيكلة بما يتماشى والمستجدات السياسية التي تشهدها البلاد منذ إسقاط نظام الإنقاذ في أبريل/نيسان 2019.
المطالب أثارت حفيظة الجيش الذي أصدر بيانًا شديد اللهجة انتقد فيه المطالبين بالإصلاح معتبرًا أن الهدف من وراء مثل تلك التحركات “إضعاف أكبر مؤسسة وطنية”، متهمًا جهات سودانية في الداخل والخارج بالسعي لإثارة الفتنة وبث روح الفرقة داخل المؤسسة العسكرية، متوعدًا بمحاسبتهم والتصدي لهم.
البيان جاء ردًا على تصريحات المستشار السابق لرئيس الوزراء السوداني، أمجد فريد، الذي انتقد فيها تحركات الجيش السوداني لاسترداد أراضي الفشقة الحدودية مع إثيوبيا، مصوّرًا هذه الخطوة بأنها “غدر بدولة جارة وهي منشغلة بحربها في إقليم التيغراي”، متهمًا المؤسسة العسكرية بالتحرك منفردة دون قرار سياسي.
الحديث عن إصلاحات داخل الجيش السوداني ليس حديثًا جديدًا، فمنذ الإطاحة بنظام البشير تعالت أصوات عدة للمطالبة بإجراء بعض الإصلاحات العسكرية في إطار سياسة “تفكيك الإنقاذ” كمنهجية ثورية لبناء دولة ديمقراطية مدنية جديدة، باعتبار أن المؤسسة بكيانها الحاليّ امتداد لهذا النظام وأحد صنائعه، لا سيما أن بعض أضلاع تلك المؤسسة، من المشاركين في المشهد الراهن، كانوا الساعد الأيمن للرئيس المعزول في سنوات حكمه الأخيرة.
الجيش يشكك في النوايا
الجيش في بيانه الذي حذفه لاحقًا بعد نشره على صفحته على فيسبوك وصف المطالبات الداعية إلى إصلاحات جوهرية في المؤسسة العسكرية بأنها محاولة “لإظهار الجيش أنه غير قادر على التصدي للتحديات”، مضيفًا “من يقول أن المؤسسة العسكرية تحتاج لإصلاحات جوهرية كأنّما يريدُ أن يُظهر للعامة أن أكبر مؤسسة قومية وطنية قد تهاوت أركانها.. كما يريد أن يظهر أيضًا ضعفها وعدم مقدرتها على التصدي لكافة أشكال التحديات داخليًا وخارجيًا”.
المؤسسة العسكرية دعت الشعب ردًا على من وصفتهم بـ”عملاء الخارج في الخرطوم وجهات داخلية مغرضة وموتورة لا تريد لهذا الشعب سوى الذل والاستعمار”، إلى “وعي أهمية دور الجيش وضرورة الالتفاف حوله وعدم الاستسلام للإشاعات المغرضة”.
وعن الاتهامات بوجود تعقيدات تحول دون إتمام عملية السلام، ودمج الحركات بالمؤسسة العسكرية، وصف الجيش من يروج هذا الكلام بأنه “يريد زرع الفتنة وزعزعة الاستقرار، وبأنه “عميل عديم الوطنية”، مؤكدةً أن حراسة الحدود والدفاع عن السودان هي “من واجبات القوات المسلحة الرئيسية ومن يشكك في مقدرتها على ذلك إنما يسعى للإساءة الواضحة وغير المقبولة” مهددة بمحاسبته الفورية.
واختتم البيان بالتأكيد على تجنب الاستماع لما أسماها “الشائعات المغرضة”، ناصحًا الشعب السوداني بأن “يفيق ويعيَ جيدًا أنَّ وطنًا بلا جيش يحميه هو صيد سهل الاقتناص ومطمع مؤكد لكل طامع، وهدف تصوب عليه كل القوى الإقليمية والدولية ما تملك من أسلحة سياسية وعسكرية”.
تصاعد مطالب الإصلاح
منذ الإطاحة بالبشير كان إصلاح المؤسسة العسكرية وتنقيتها من شوائب الإنقاذ وإبعادها عن الحياة السياسية التي كانت مسيطرة عليها تمامًا أحد أبرز المطالب الثورية، غير أن الظروف حينها والمواءمات التي جرت أجبرت الجميع على إرجاء هذا المطلب لحين استتباب الأمر وترسيخ أركان الدولة الثورية الجديدة.
وبعد النجاح النسبي في عبور شوط كبير من المسار المنشود فيما يتعلق بحزمة الإصلاحات المطلوبة، بدأ الحديث عن الإصلاحات داخل الجيش يفرض نفسه مجددًا على الشارع السوداني وساحات الأضواء والتناول الإعلامي، خاصة بعد التوغل الكبير لجنرالات المؤسسة العسكرية في مفاصل الحياة السياسية والعامة.
في منتصف يونيو/حزيران الماضي أعلن رئيس الحكومة الانتقالية عبد الله حمدوك، عن مبادرة جديدة مكونة من 7 محاور عامة و9 نقاط تفصيلية لتحصين المسار الانتقالي الذي يشهد تعثرًا كبيرًا في الآونة الأخيرة، وكان على رأسها إصلاح الجيش ودمج جميع القوات في كيان وطني محترف واحد.
المبادرة لاقت ترحيبًا كبيرًا من الولايات المتحدة التي أعربت من خلال بيان لوزارة خارجيتها دعمها الكامل لتلك الخطوة ومساندة السلطات السودانية في ترجمتها على أرض الواقع، كأحد الخطوات التي يرجى أن يكون لها دور في علاج التدهور الأمني والاقتصادي الذي تشهده البلاد، إضافة إلى الخلافات الواضحة بين القوى السياسية بسبب تغول المكون العسكري على المشهد السياسي.
ويواجه السودان ضغوطًا شعبية ودولية من أجل توحيد قواته المسلحة ودمج كل الفصائل في كيان واحد قوي، وهو ما ألمح إليه رئيس بعثة الأمم المتحدة للسودان، بيرتس فولكر، بقوله: “لا يمكن حدوث استقرار وتقدم في السودان في ظل وجود عدد من القوات”، خلال مؤتمر صحفي له الثلاثاء الماضي.
يذكر أن الجيش السوداني لم يكن المؤسسة العسكرية المسلحة الوحيدة الموجودة داخل البلاد، فهناك كيانات موازية لا تقل قوة ولا عتادًا عنه، على رأسها قوات الدعم السريع التي يرأسها محمد حمدان دقلو “حميدتي”، هذا بجانب قرابة 11 فصيلًا آخر من القوات، بعضه يتبع اتفاقية السلام الموقعة مؤخرًا مع الحكومة السودانية، والبعض الآخر لا يزال خارج العملية السلمية، وهو ما يثير الكثير من المخاوف جراء المخاطر الناجمة عن هذه السيولة العسكرية في السودان.
صراع رغم الإنكار
تعاني المؤسسة العسكرية السودانية من خلافات بين القوات المسلحة بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، وهي الخلافات التي تطفو على السطح بين الحين والآخر رغم محاولات الإنكار والإيهام بأن “كل شيء تمام وتحت السيطرة.
الصراع على النفوذ بين الجنرالين وصل إلى حد رفع قوات الدعم درجة الاستعداد القصوى داخل الخرطوم، قابله استعداد القوات المسلحة لاشتباك محتمل، وبناء سواتر ترابية حول القيادة العامة للجيش السوداني بالخرطوم، كما نقلت تقارير صحفية الشهر الماضي.
قبل ذلك بشهر كان البرهان، وهو رئيس المجلس السيادي والقائد العام للقوات المسلحة، في مؤتمر لدعم السودان في العاصمة الفرنسية، باريس، وبينما هو هناك اتخذ حميدتي نائبه في المجلس، حزمة قرارات أثارت حفيظة البرهان، أبرزها قبول استقالة النائب العام وإقالة رئيسة القضاء.
وعقب عودة رئيس المجلس السيادي بدأ دخان النار الكامن تحت الرماد يتصاعد رويدًا رويدًا، وبات الحديث عن دمج قوات الدعم في المؤسسة العسكرية يفرض نفسه، الأمر الذي قوبل برفض حاسم من حميدتي ورفاقه، ما أثار المخاوف بشأن نشوب مواجهات عسكرية بين القوتين المتكافئتين نسبيًا في القوة ودرجة التسليح.
ورغم تصريح البرهان في 25 من يونيو/حزيران بأن الجيش وقوات الدعم على قلب رجل واحد، ويعملان معًا على حماية أمن المواطن والفترة الانتقالية في السودان، فإن الشارع السوداني كان على دراية تامة بحقيقة الجفاء بين الرجلين، وهو ما كشفه المتحدث السابق باسم رئيس الحكومة، فايز السليك، في تصريحات لموقع قناة “الحرة” بأن “الجميع في الخرطوم صار على يقين بوجود جفاء وعدم تصالح بين قائدي الدعم السريع والقوات المسلحة”، مستندًا إلى تصريحات حمدوك التي تحذر من تشظي الجيش.
وكان رئيس الوزراء قد حذر من “تشظ” داخل المؤسسات العسكرية، واصفًا ذلك بأنه “أمر مقلق جدا”، لافتًا في بيان له أن “جميع التحديات التي نواجهها، في رأيي، هي مظهر من مظاهر أزمة أعمق هي في الأساس وبامتياز أزمة سياسية”، وأضاف “التشظي العسكري داخل المؤسسة العسكرية أمر مقلق جدًا”.
لماذا يرفض الجنرالات الإصلاح؟
منذ استعلائهم لسدة الحكم بعد عزل البشير، حرص جنرالات السودان على التمسك بتلابيب السلطة بأي ثمن، والإبقاء على وضعية المؤسسة العسكرية في صورتها الحاليّة مهما كانت الضغوط، يقينًا منهم أن أي تغيرات ستحدث ستكون مسمارًا في نعش الإطاحة بهم، خاصة أن الثورة قامت على شعارات مدنية في المقام الأول.
وفي هذا المسعى للحفاظ على مكتسبات ثورة ديسمبر/كانون الأول أنجز العسكر صفقتهم المشبوهة مع إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، التي كان بمقتضاها، أن يخرج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وأن تدعم واشنطن المكون العسكري في خريطة الحكم الجديدة في مقابل التطبيع مع دولة الاحتلال.
الجناح العسكري داخل السلطة الانتقالية تمسك بإبرام تلك الصفقة رغم معارضة غالبية المكون المدني في السلطة، فضلًا عن مخالفتها لإرادة الشارع السوداني، لكن البرهان وحميدتي وجدا في حكومة نتنياهو واحتضان ترامب “الضامن الأكبر” لهما في حكم البلاد خلال المرحلة المقبلة.
نجح الجنرالان في تكوين شبكة أمان لهما على المستوى الخارجي، لكن ظلت الجبهة الداخلية العقبة الأساسية أمامهما، فكانت حملات التجييش والتحريض المستمرة ضد الحكومة المدنية وتشويه صورتها لدى الشارع في محاولة لتعجيزها ومن ثم خضوعها لقرار المكون العسكري الذي سيضمن لها البقاء في السلطة وقتها.
وعلى الفور بدأت معركة التسويق لعسكرة الحكم على أطلال فشل النظام المدني في تحقيق أهداف ومطالب السودانيين، ساعد على ذلك الدعم الكبير الذي حصل عليه العسكر – وما زالوا – من بعض القوى والعواصم الإقليمية التي لها أجندات في السودان والقارة الإفريقية.
وعليه فإن أي حديث عن إصلاح داخل المؤسسة العسكرية من شأنه أن يجهض كل تلك المحاولات للبقاء في الحكم، ومن ثم ستقابل تلك المطالب بالوأد المبكر والتصدي السريع أيًا كانت العقبات والتبعات، فالدفاع هنا لم يكن على منصب أو كرسي قدر ما هو على حياة من يجلسون فوق الكراسي الآن، في ظل الاتهامات الموجهة لهم بالمشاركة في قتل المتظاهرين والمعتصمين وتهم الفساد واستغلال المناصب.
قد يقول البعض إن مطالب إصلاح المؤسسة العسكرية ربما يقف خلفها تيارات وقوى تستهدف استقرار السودان، كما ذكر بيان الجيش، لكن السؤال هنا: هل المنظومة العسكرية السودانية بحاجة إلى إصلاحات فعلًا؟ بحسب رئيس الحكومة والتيارات السياسية الداخلية وبعض القوى الدولية المشرفة على الانتقال الديمقراطي في البلاد تؤكد حاجة تلك المؤسسة لإصلاحات جذرية في أسرع وقت، قبل أن تصل الأمور إلى حافة الهاوية.
رفض الجيش لمناشدات الإصلاح والإبقاء على الوضع الحاليّ رغم التحفظات بشأنه، والاستمرار في سياسة التوغل داخل مفاصل الدولة، والتسويق لفشل المكون المدني في تحقيق المطلوب، وبث الفتنة بين الشعب والحكومة، يثير الشكوك في نوايا العسكر بشأن الانتقال الديمقراطي والتنازل عن السلطة عقب انتهاء الفترة الانتقالية.. فهل يعيد الجنرالات نظام الإنقاذ مرة أخرى بوجوه وأسماء مختلفة؟