الوجه المشرق للمنطقة العربية

عُدت بذاكرتي إلى أيام للتسعينيات، حين تشكّلت ثلاث أطروحات رئيسة عن النظام العالمي آنذاك: 1) أن اليابان قد حققت الفوز الأكبر؛ 2) وأن الصين لن تتمكن أبدًا من النمو الاقتصادي دون الديمقراطية الجِفرسونية؛ 3) وأن الهند ستظل مهمّشة لعقود.
بالطبع، وبعد سنوات قليلة، توقف الجميع عن التغنّي بهذا الكلام. أستطيع أن أؤكد لكم أن حتى من قبلوا بفكرة تبدُّل هذه الأطروحات، لم يتصوّروا حينها أن أكبر عرض بيع عام لأسهم شركة في تاريخ السوق المالية سيكون لشركة تجارة إلكترونية (eCommerce) من الصين — وأن خلق معظم قيمتها المالية لن يعتمد بأي شكل على الاقتصادات الغربية، ناهيك عن الولايات المتحدة.
تبادر كل ذلك إلى ذهني بعد أن ألقيت كلمة أمام مائتين أو يزيد من المهتمين بشؤون السياسية الخارجية في واشنطن — بما فيهم الجيل الجديد — والتي سألت أثناءها عن عدد الحاضرين الذين يعرفون جاك ما (مؤسس علي بابا، شركة التجارة الإلكترونية الصينية المذكورة أنفًا). لم ترتفع سوى أربعة أيدي مشيرة بالإيجاب.
تتغير سرديات الأشخاص ببطء، هذا إن تغيّرت على الإطلاق، غير أن الأبطأ هو تغيّر سرديات المؤسسات. لذا، لم أتعجب كثيرًا حين فشلت في الحصول على إجابة عندما طلبت من الحضور أن يخمنّوا المنطقة من العالم التي وصفتها أمامهم للتو: منطقة يسكنها 400 مليون شخص يشتركون بنفس اللغة وتتقاطع ثقافاتهم بشكل كبير، ويرتفع متوسط دخل الفرد فيها عن نظيره الهندي والصيني، وتملك واحدة من أسرع معدلات التحصّل على خدمات الإنترنت وانتشار الهواتف الذكية (بما يتجاوز 50٪)، وتعد نقطة جذب سياحية، ولديها قاعدة وليدة من المستهلكين في مجال التجارة الإلكترونية، ويبحث 7٪ من سكان العالم عن محتوى بلغتها على الإنترنت، رُغم أن هذا المحتوى لا يتجاوز 1٪ من المحتوى المتاح عالميًا على الإنترنت، وتعج بجيل جديد متعطش للفرص الاقتصادية.
ذُهِل الحضور حين علموا أنني أتحدث عن منطقة الشرق الأوسط.
ذُهِلوا لأن ما ذكرته يتعارض تمامًا مع سرديات الاضطراب السياسي وعدم الاستقرار والعنف المتفشية بيننا، ولأنهم يسمعون يوميًا فيضًا من التقارير المُفزِعة عن داعش، جماعة الإثنى عشر ألف مقاتل — المسلحين والممولين ربما بشكل جيد، ولكنهم بالقطع شديدو الوحشية — دون التفكير فيما يفعله ويفكر به سكان المنطقة البالغ عددهم 400 مليون شخص. ذُهِلوا، ليس لأن المنطقة العربية تمر بفترة عصيبة — وهي حقيقة بالفعل هذه الأيام — ولكن لأنه من الصعب أن يكون لدى المرء فكرتين متناقضتين.
يمكن لرجال داعش الإثني عشر ألف أن يصبحوا في المستقبل أشد سوءًا وأكثر انتشارًا بالطبع، ولكنني منذ 18 شهرًا شاركت في التحكيم بمسابقة لريادة المشاريع في بيروت بلبنان، ضمت أكثر من 14 ألف شاب من شتى أنحاء العالم العربي ممن قرروا تشكيل مستقبلهم الاقتصادي بأيديهم.
أحد أصدقائي كان حاضرًا بلقاء تِيدِكس (Tedx) في القاهرة في ديسمبر الماضي، وفي خضم الاضطراب السياسي الشديد الذي تشهده البلاد، رأي بأم عينه خمسة آلاف طفل تجمّعوا ليحلوا بعض مشكلاتهم، وهو حدث تابعه عبر الإنترنت مباشرة أكثر من ٥٠ ألف مصري من كل أنحاء مصر ليتعلموا المزيد.
الأسبوع الماضي، حضرت لتوي لقاء “رايز أب إيجِبت” 2014 (RiseUp Egypt 2014). على مدار يومين، تجمع حوالي أربعة آلاف مصري في الحرم اليوناني، الذي كان تابعًا في السابق للجامعة الأمريكية ويبعد بضعة أمتار عن ميدان التحرير. يُجري رائد المشاريع الرأسمالي، أحمد الألفي، عملية تحوّل للحرم اليوناني ليكون أكبر مساحة عمل مشتركة بالشرق الأوسط، وهي واحدة من ضمن عشرات من المشاريع المشابهة في المنطقة. حضر أكثر من أربعين صحافيًا لتغطية هذا الحدث المُذهِل، ولك أن تتخيل أنه لم يكن أي منهم صحافيًا غربيًا.
سيكون من الساذج، بل من غير الأخلاقي، ألا ننقل صورة العنف الموجودة بالمنطقة. ولكن ألا ينطبق ذلك أيضًا على تجاهلنا لفهم الفرص والأدوات الجديدة المتاحة هناك، وعدم تبنينا للأفق المستقبلية التي سيتيحها كل ذلك؟
هناك أمر تعلمناه كلنا في الماضي: حين تولد الشعوب والأسواق والطبقات الوسطى من رحم مراحل تاريخية عصيبة وعنيفة، لا يكون التحوّل الجاري هيّنًا؛ ولا يناسب ضعاف القلوب. التحوّلات الكبرى تصاحبها دومًا آلام كبرى، والنظم الاستبدادية لا ترحل بسلاسة وهدوء في يوم وليلة تاركة هوسها بالتحكّم الرأسي، حتى حين يبدأ مواطنوها في استخدام الأساليب الأفقية والأدوات التكنولوجية لحل مشاكلهم واقتناص الفرص الكامنة في محيطهم. لم يعد كل هؤلاء الناس في حاجة للاستئذان للمباردة.
يجري الآن شيء آخر كذلك على قدم وساق.
لأول مرة في التاريخ، يتحصّل الشرق الأوسط — وكل العالم النامي الصاعد — على حرية الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة بشكل مُتاح للجميع، وهذا ليس مجرد ولع بيوتوبيا التكنولوجيا. بل هو واقع يؤكد حقيقة امتلاك ثلثي البشر خلال هذا العقد لقوة تكنولوجية شخصية في جيوبهم تعادل حاسوبًا عملاقًا — من النوع الذي أدى في الستينيات إلى صعود الإنسان على القمر.
بتحريك أصابعهم، سيكون لهؤلاء قدرة غير مسبوقة على الوصول لبعضهم البعض، وللأفكار المطروحة في شتى أنحاء العالم والتي يمكن أن تفيدهم، ولكل المعارف الإنسانية. الأكثر من ذلك، أنهم سيستخدمون تكنولوجيا عادية جدًا — كالهواتف النقالة الكلاسيكية — لنقل الأموال والحرف البسيطة لأسواق مختلفة لم يكن في وسعهم الوصول لها أبدًا. سيكون لديهم وصول مفتوح لتعليم إضافي بديل لنظم التعليم المتهالك في بلادهم بطرق لم تكن متاحة من قبل سوى للأغنياء، وسيجدون طرقًا بديعة لمعالجة مشاكلهم فقط لأن الملايين ممن يملكون الموهبة والعبقرية — وقد كانوا دومًا موجودين — سيُتاح لهم التفاعل بشكل واسع.
لا أستطيع أن أجزم بما سيؤول له الوضع في سوريا أو العراق خلال سنة أو أكثر من الآن، ولكن يمكنني أن أؤكد لكم بثقة تامة بأن ما كتبته للتو أمر واقع، وأنه نمط سيتسع وينتشر في الأعوام المقبلة.
كيف، وما إذا كنا، سنختار إدراك هذه السردية الجديدة عن المنطقة العربية، هو أمر يعود لرغبتنا في فعل ذلك من عدمها، لكنه سيكون مفيدًا لنا أن نتفاعل مع هذا العالم كما هو، بدلًا من التخوّف من وضع نعتقد أنه سيبقى.