يماطل الاحتلال الإسرائيلي في التخفيف من القيود المفروضة على قطاع غزة المحاصر منذ عام 2006، رغم مرور قرابة شهرين على انتهاء معركة سيف القدس التي خاضتها المقاومة الفلسطينية، فما زالت القيود مفروضة على حركة البضائع عبر معبر كرم أبو سالم التجاري ويتحفظ على آلية إدخال أموال المنحة القطرية ويبحث إدخالها بآلية جديدة تحت ذريعة إبعادها عن يد حركة حماس.
وترفض الحكومة الحاليّة الائتلافية “نفتالي بنيت – يائير لابيد” العودة إلى التفاهمات التي أبرمت بوساطات عربية ودولية منذ عام 2018، تحت ادعاء تبني سياسة جديدة في التعامل مع القطاع على قاعدة “ما كان لن يكون” في إشارة للواقع الذي كان في عهد رئيس وزراء الاحتلال السابق وزعيم المعارضة الحاليّ بنيامين نتنياهو.
ويقترن السلوك الإسرائيلي حاليًّا بحالة من الغضب والاختناق تبدو واضحة في الأوساط الفلسطينية في القطاع نظرًا لندرة الكثير من المواد الخام وتعطل مئات الأيدي عن العمل وارتفاع أسعار الكثير من السلع بفعل عدم وجودها أو وجود كميات محدودة منها في المخازن.
ويحذر سياسيون من خطر استمرار القيود الإسرائيلية الحاصلة على واقع الحياة المعيشية وخشية وصول الأمور إلى انفجار شعبي واسع النطاق، في الوقت الذي تبدو فيه المقاومة مراقبة لسياسات الاحتلال وتبعث برسائل عبر الوسطاء لاحتواء المشهد قبل عودة التصعيد.
يؤكد عضو المكتب السياسي لحركة حماس سهيل الهندي أن حركته تراقب عن كثب السلوك الإسرائيلي الحاصل والقيود المفروضة على القطاع
وشهد الشهر الأخير تبادلًا للرسائل بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي سواء عبر العمل الميداني من خلال إطلاق البالونات الحارقة والقصف الإسرائيلي لبعض مواقع المقاومة أم عبر الوسيط المصري الذي يحاول نزع فتيل الأزمة ومنع عودة التصعيد من جديد.
مطالبات للوسطاء والمجتمع الدولي
يؤكد عضو المكتب السياسي لحركة حماس سهيل الهندي أن حركته تراقب عن كثب السلوك الإسرائيلي الحاصل والقيود المفروضة على القطاع ومحاولة خنق السكان معيشيًا واقتصاديًا لتغيير المعادلة التي رسختها المقاومة بعد معركة سيف القدس.
يقول الهندي لـ”نون بوست”: “المقاومة الفلسطينية لن تسمح ولن تقبل بأن يعاني الشعب الفلسطيني وسكان القطاع كثيرًا وستعمل بكل الطرق والوسائل لإنهاء هذا السلوك الإسرائيلي، وهو الأمر الذي يتطلب عملًا من الوسطاء لإرغام الاحتلال على تنفيذ التفاهمات”.
ويتفق القيادي في الحركة وعضو مكتب العلاقات الدولية باسم نعيم مع الهندي، إذ يتحدث نعيم لـ”نون بوست” عن متابعة حركته بغضب شديد التطورات الحاصلة ميدانيًا فيما يخص رفع القيود المفروضة على القطاع، فلا يوجد حراك جدي في التخفيف من الحصار.
ويوضح نعيم أن الاحتلال يريد في كل مرة إعادة القطاع إلى نقطة الصفر فيما يخص الأمور المعيشية والحياتية المتعلقة في إطار ابتزازه السياسي للشعب الفلسطيني، فالاحتلال يشل الحياة سواء على المستوى الاقتصادي أم الاجتماعي والحياتي اليومي.
ويشير القيادي في حماس إلى أن نسب البطالة تتصاعد بشكل كبير عدا عن الفقر المدقع، إذ إن هناك أكثر من 80% يعيشون حالة فقر و85% من الأسر في القطاع المحاصر تعتمد على الدعم الدولي لتوفير احتياجاتها اليومية بالإضافة لأزمة انقطاع التيار الكهربائي.
وبحسب نعيم فإن الحراكات والوساطات الموجودة ما زالت بطيئة ولا تعكس حجم المأساة في غزة، فهذه الجهود محدودة ولم تحدث اختراقًا في الواقع المعيشي، تزامنًا مع عرقلة إسرائيلية في إدخال المنحة القطرية المخصصة للأسر الفقيرة ولدعم محطة توليد الكهرباء والموظفين في القطاع، وربط إدخالها بآلية جديدة تشرف عليها الأمم المتحدة.
ويؤكد القيادي في حركة حماس أن المشكلة الأساسية في تعنت الاحتلال وتصوره أنه يمكن الضغط على الفلسطينيين لإجبارهم على التراجع عن دعم المقاومة، عدا عن القصور الدولي في ممارسة الضغط الكافي على الاحتلال لإلزامه بدوره كسلطة احتلال.
وبالتزامن مع حديث حركة حماس فإن الفصائل والقوى الوطنية ترى أنه يجب أن يمارس ضغط على الاحتلال شعبيًا عبر الأدوات التي ظهرت عقب مسيرات العودة سواء باستخدام البالونات الحارقة وإطلاقها تجاه مستوطنات غلاف غزة أم فعاليات الإرباك الليلي قرب الحدود.
إفراغ النصر العسكري من مضمونه
يرى مختصون في الشأن السياسي والإسرائيلي أن هناك سلوكًا إسرائيليًا معتادًا منذ سنوات يتمثل في محاولة إفراغ أي أداء عسكري فلسطيني أو مقاوم من مضمونه عبر اللجوء لبعض القيود والتنغيص بالأدوات الحياتية والمعيشية لكي الوعي الفلسطيني.
الحكومة الحاليّة لا تمتلك القدرة على اتخاذ قرارات مصيرية وحاسمة نظرًا لكونها لا تمثل أغلبية سياسية من ذات الاتجاهات السياسية
وفي هذا الإطار، يؤكد المختص في الشأن الإسرائيلي حسن لافي أن السلوك الإسرائيلي ليس جديدًا ويتزامن مع وجود حكومة إسرائيلية يتزعمها شخصية كبنيت المنتمي لليمين المتطرف “الصهيونية الدينية”، إذ يسعى عبر سلوكه مع المقاومة لإثبات قدرته على حساب منافسيه السياسيين.
يقول لافي لـ”نون بوست”: “الحكومة الحاليّة لا تمتلك القدرة على اتخاذ قرارات مصيرية وحاسمة نظرًا لكونها لا تمثل أغلبية سياسية من ذات الاتجاهات السياسية، وتبحث عن خلق أزمات تمكنها من البقاء أطول فترة ممكنة دون اتخاذ قرارات تؤثر على مستقبلها”.
ويرجح المختص في الشأن الإسرائيلي أن يبقى الواقع المعيشي والحياتي في غزة يراوح مكانه بالتزامن مع استبعاد التصعيد، عبر تقديم بعض التسهيلات المحدودة دون الوصول إلى تنازلات أو اتفاق سياسي شامل مع فصائل المقاومة الفلسطينية.
المقاومة بين الصبر والضغط
بدوره، يقول الباحث والمختص في الشأن السياسي حسن عبدو إن المقاومة الفلسطينية تراقب بصبر السلوك والقيود الإسرائيلية المفروضة على القطاع في أعقاب معركة “سيف القدس” إلا أنها ستضطر لاستخدام أدوات الضغط إذا استمر السلوك الإسرائيلي الحاليّ.
ويوضح عبدو لـ”نون بوست” أن هناك رأيًا عامًا إسرائيليًا يرى أن الحرب الأخيرة على غزة من أفشل الحروب التي خاضها جيشهم، وبالتالي يتم اللجوء إلى سلوك سياسي يهدف لتفريغ النصر العسكري للمقاومة والضغط على الحاضنة الشعبية.
ويعتقد الباحث والمختص في الشأن السياسي أن السلوك الإسرائيلي الحاليّ يهدف لإشعار الفلسطينيين في غزة أن المقاومة لم تحقق أي مكاسب سياسية وهذا الهدف مكشوف وواضح، إلى جانب أن الأطراف الوسيطة لا تدعم المقاومة ولا توفر الظهير السياسي لها وتكتفي بلعب دور الوساطة فقط.
ويرى أن هذا السلوك الإسرائيلي سيذهب باتجاه توليد رأي عام انفجاري ضد الاحتلال من الفلسطينيين في القطاع، وليس الوصول إلى حالة الاستسلام، كما حصل في معركة “سيف القدس” حينما ذهبت المقاومة للمواجهة بسبب السلوك الإسرائيلي والتعنت في الاستجابة لمطالبة سكان القدس المحتلة.
ما بين المراوحة في المكان والتصعيد المحدود
بالتوازي مع ذلك فإن السلوك الإسرائيلي الحاصل وتقديم تسهيلات محدودة للغاية سيجعل الواقع الميداني في القطاع يسير بين المراوحة في المكان وبقاء الحالة المعيشية في أسوأ أحوالها مع بعض التحسينات، وهو ما قد يدفع المقاومة متمثلة بفصائلها السياسية لاعتماد وسائل ضغط ذات طابع شعبي لتلافي الوصول إلى الحرب العسكرية الشاملة ولمحاولة انتزاع بعض التحسينات في واقع الحياة المعيشية.
السلوك الإسرائيلي ليس جديدًا ويتزامن مع وجود حكومة إسرائيلية يتزعمها شخصية كبنيت المنتمي لليمين المتطرف
ومع وجود موافقة إسرائيلية على إدخال المنحة القطرية لكن بآلية جديدة فإن هذا القرار سيدعم هذا السيناريو لكنه لا ينفي إمكانية انفجار الأوضاع مجددًا في القطاع بالتزامن مع استمرار أزمة حي الشيخ جراح وبطن الهوى والبستان في القدس المحتلة، وموقف المقاومة الواضح أنها باتت جزءًا من معادلة الردع.