يحمل الدبلوماسي هانز جروندبرج مبعوث الأمم المتحدة الجديد إلى اليمن مبررات نجاحه، فهو يملك خبرة طويلة، ولديه أطروحات مختلفة للحل منذ أن كان سفيرًا للاتحاد الأوروبي في صنعاء قبل سنوات، نجح خلالها في بناء إجماع داخل الكتلة الأوروبية تجاه الملف اليمني وتسوية الخلافات بشأنه.
لكن الخبرة والمسار المدني السلمي كان أيضًا طريق كل من سبقوه إلى المنصب.. فما الذي يجعل الخليج إذًا يثق في قدرة جروندبرج دون غيره على حل الأزمة؟ وما أدواته لاستمرار هذه الثقة من كل الأطراف وليس الخليج وحده؟
سيرة ذاتية
دبلوماسي سويدي ورابع مبعوث خاص للأمم المتحدة إلى اليمن، كان يعمل سفيرًا للاتحاد الأوروبي، ويصفه الخبراء بأنه محترف في شؤون الشرق الأوسط وحل النزاعات، إذ شغل سابقًا منصب رئيس بعثات السويد والاتحاد الأوروبي في القاهرة والقدس وتل أبيب.
كما ترأس إدارة الخليج بوزارة الخارجية السويدية في ستوكهولم، والمنصب الأخير بالطبع أظهر قدراته الاستثنائية في التعامل مع الثقافة العربية والخليجية بشكل خاص، ما زاد من الترابط والثقة مع رؤوس الحكم في الجزيرة العربية.
ربما تكمن أبرز إنجازاته التي تبهر الخليج، نجاحه دون غيره في بناء إجماع داخل الكتلة الأوروبية بما يتماشى مع الإجماع العالمي والتوافق على أهمية نبذ التصعيد العسكري والسعي لعمل مصالحة بين كل الأطراف في الأزمة اليمنية، إذ يؤمن جروندبرج بالحلول التفاوضية وتقريب وجهات النظر على التصعيد العسكري.
على هذه الأسس، قاد الدبلوماسي السويدي مفاوضات شاملة لإيجاد حلول سياسية للأزمة ونسق بطريقة مميزة مع مبعوثي الأمم المتحدة والولايات المتحدة، وعقد لقاءات مع مسؤولين وممثلين من جميع الأطراف الرئيسية في اليمن، من الحكومة للمجلس الانتقالي الجنوبي وكذلك قادة الحوثيين.
مكاسب تعيين جروندبرج
يرى الخليج في تعيين جروندبرج مبعوثًا أمميًا إلى اليمن مجموعة مكاسب، إذ تقربهم شخصية تتمتع بالرومانسية السياسية في حل الخلافات إلى الإدارة الأمريكية الحاليّة التي ترتاح أكثر للحوار على حساب تصعيد النزاعات، وكان الاستقبال الحافل للرجل بمثابة إعلان ضمني من الخليج أنه لفظ الحلول العسكرية رسميًا وأصبح يدعم الجهود الدبلوماسية الدولية لحل الأزمة اليمنية المعقدة.
كما يعول الخليج على تعيين جروندبرج في جر الاتحاد الأوروبي إلى ساحة النزاع اليمني ما يزيد الضغط على الحوثيين الذين أفشلوا الدور البريطاني والأمريكي برفضهم وقف الحرب والهجمات الصاروخية على السعودية، ما جعل بعض الدوائر الأمريكية والبريطانية تدرس التدخل عسكريًا في اليمن خاصة بعد فقدان ناقلة نفط تقطعت بها السبل قبالة الساحل اليمني.
سبب التفكير في الحلول العسكرية قبل تعيين الدبلوماسي السويدي ظهور دراسات وتقارير تؤكد أن هناك احتمالية لسكب 1.1 مليون برميل نفط في البحر الأحمر بأي لحظة، وضخ فوضى بأحد أهم ممرات الشحن الحيوي في العالم فضلًا عن إلحاق الضرر بالمدن الساحلية.
خلطة الاتحاد الأوربي
ترتاح أطراف النزاعات في كثير من بلدان العالم، خاصة دول الشرق الأوسط بعد تعقد أزماتها بفعل الصراع الخشن لنمط الاتحاد الأوروبي في الحل، إذ يحافظ على قدر كبير من المرونة والانفتاح على جميع أطراف الصراع، مع إعطاء أولوية للجانب الإنساني، وهي خلطة قد يكون لها أثر مختلف على الحوثيين خلال التفاوض معهم.
تعني عملية اختيار مسؤول رفيع من هذه المدرسة إلى المنطقة، إشراك فاعلين آخرين في المفاوضات لحل الأزمة وإيجاد مخرج سياسي لإحلال السلام، فالنهج مختلف هذه المرة ويناسب جميع الأكواد المطلوبة لتفكيك صراع معقد مختلف تمامًا عن باقي الأزمات في منطقة الشرق الأوسط.
وتكمن خصوصية المشكلة اليمنية أن مفتاح حلها يحتاج إلى تفكيك تاريخ طويل من أزمات سابقة تشكلت وتراكمت منذ توقيع اتفاقية الوحدة السياسية بين دول جنوب وشمال اليمن، ما يعني أن الصراع يحمل في داخله أزمات محورية تعود إلى ما قبل أحداث ثورات الربيع العربي وينبغي التوقف عندها.
القضية الجنوبية
دون الإبحار في التاريخ للتنقيب عن الكثير من الأزمات التي تلقي ظلالها على ما يحدث الآن، يمكن القول إن القضية الجنوبية من أهم محركات الصراع في اليمن الآن بما لها من تداعيات سياسية واقتصادية منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 1994، وتسرب إحساس عام بين الجنوبيين بعدم المساواة والشعور بالتمييز، ما أضعف النسيج الاجتماعي وعزز الحركات الانفصالية القائمة على الهوية في البلاد.
بدلًا من بحث الأزمات وإيجاد الحلول اللازمة على طريق الاندماج والمواطنة، أهمل نظام الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح جنوب اليمن وتفنن في تهميشه سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ليندلع الغضب مرة أخرى فوق السطح عام 2007.
نظم الجنوبيون ما عرف باسم الحراك الجنوبي وعمل تعبئة سياسية للمطالبة بالمساواة في الوصول إلى الوظائف والخدمات الحكومية والحكم الذاتي، ليرد علي عبد الله صالح بالعنف المفرط وإعطاء الأمر لقوات الأمن لارتكاب انتهاكات موسعة بالجنوب، منها القتل غير القانوني والاحتجاز التعسفي وقمع حريات التجمع والتعبير واعتقال الصحفيين والسياسيين.
أدت الانتهاكات لزيادة عوامل الثورة بين الجنوبيين، فالشمال من وجهة نظرهم يستغلهم اقتصاديًا ويهمشهم سياسيًا، ولا يحاسب أحد على الانتهاكات بحقهم، كما أن المسار القانوني لا يفلح في جلب حقوقهم في ظل نجاح القيادات الأمنية بالإفلات من العقاب والمحاسبة على الهجمات غير القانونية ضدهم، ما زاد من مشاعر العزلة والانفصالية في الجنوب وألقى بالبلاد في دوامة من الغضب أدت بدورها إلى المزيد من القمع.
جاء الربيع العربي لينقذ الجنوب من قبضة علي عبد الله صالح، فأجبر عن التنحي عن السلطة عام 2012، لكنه رغم محاولات إنقاذه من المحاكمة وضمان خروج آمن بضمانات خليجية، لم يقنع بانتهاء دوره، فحاول الالتفاف والعودة مرة أخرى، لتنتهي به الأكروبات السياسية التي نصبها للجميع إلى القتل والتمثيل بجثته في 4 من ديسمبر/كانون الأول عام 2017، ونشر الحوثيون مقطع فيديو لمجموعة من مقاتليهم وهم يعبثون بجثة صالح بعد إصابته بطلقة نافذة في الرأس.
الفرصة الأخيرة
يعرف المبعوث الأممي الجديد تعقيدات الأزمة اليمنية وتجذرها الداخلي العميق وانعكاستها على الأرض، كما يعرف أن تفكيك هذه الأزمة يكمن في إيجاد أدوار مختلفة لحكومة هادي والحوثيين وقضية الانقلاب على الشرعية، ويعتبر حشد أدوات الدعم لإنجاز مهمته بمثابة فرصة أخيرة لإنهاء هذا الصراع المزعج.
درس هانز جروندبرج أخطاء وثغرات سلفه البريطاني مارتن غريفيث، الذي تصور أن حل الأزمة اليمنية يكمن في تلاقي المصالح بين حكومة هادي والحوثيين، فأهمل دور الجهات الفاعلة الأخرى، خاصة المجلس الانتقالي، القوة الرئيسية والأبرز في جنوب اليمن.
اصطدم سعي جريفيث لإتمام اتفاق دون البحث بعمق في الأزمات التاريخية بجدار صلب من عناد الحوثيين، عززه ضعف وهشاشة حكومة هادي، كما تسبب إظهار الدبلوماسي البريطاني بعض التحيز للسعودية في حالة من النفور من الحوثيين، الذين اتهموه بين السطور بدعم الرياض في حصارها لليمن.
أوراق جروندبرج
يلعب جروندبرج على هامش المعاناة الإنسانية، بل تعتبر هي ورقته الأولى لإيجاد مساحة من التفاهم بين الجميع، فالوضع الإنساني غير المستقر في اليمن يجعل من الضروري إصلاح هذا الملف بعدم عرقلة أو تحويل مسار المساعدات ووقف مضايقات عمال الإغاثة ونهب الإمدادات أو تخزينها حتى تتعفن في المستودعات كما كان يحدث في السابق، وعدم التسامح نهائيًا مع استخدام المساعدات الإنسانية كأداة للمساومة السياسية.
يتحصن المبعوث الجديد بأوراق ضغط لم تكن بحوزة أحد في السابق، وهي مبادرة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان لإنهاء الحرب وتشمل وقف إطلاق النار تحت إشراف الأمم المتحدة واستئناف المحادثات السياسية وتخفيف القيود على الواردات عبر الحديدة وإعادة فتح مطار صنعاء، وهو موقف يصلح للبناء عليه.
كما يستند جروندبرج على جهود الدبلوماسي المخضرم تيموثي ليندركينغ، المبعوث الأمريكي لليمن، الذي عمل هو الآخر مع الأمم المتحدة والحكومة اليمنية والجهات الفاعلة الإقليمية وله تواصل مميز مع الحوثيين، ومؤمن بالحلول السياسية ولا ينحاز لطرف على حساب آخر.
ميدانيًا، تدعم الخبرة الدولية المبعوث الجديد في إيجاد حلول للتعامل مع الإشكالية اليمنية، حيث فشلت المحاولات السابقة لتنفيذ وقف إطلاق النار المستدام بسبب عدم وجود مراقبين للأمم المتحدة على الأرض للإبلاغ عن الانتهاكات، ما يعني أن جروندبرج قد يلجأ إلى إنشاء بعثة سلام في اليمن بدءًا من مراقبي وقف إطلاق النار، مرورًا بتدشين قوات حفظ سلام كما فعلت الأمم المتحدة في مناطق ساخنة أخرى حول العالم وفي أماكن أقل خطورة من اليمن.
هذه الإصلاحات في الملف، ستؤدي بأسرع وقت إلى استئناف البحث عن حل سياسي فورًا وفقًا لرغبات اليمنيين، لا سيما أن مؤتمر الحوار الوطني عام 2013-2014 وضع خطوطًا عريضةً يمكن إعادة استدعائها مرة أخرى، ومشاركة الجميع في رسم المستقبل الذي يناسبهم، سواء كان يضمن سيادة مدنية أم عشائرية ودينية، على أن يتم فصل الصراع اليمني عن المحادثات الدولية مع إيران بشأن برنامجها النووي لتجنب تعقيد الموقف أكثر وأكثر.