عندما انتفض الثوار في 19 من ديسمبر/كانون الأول 2018 ضد نظام الإنقاذ، كان على رأس محركات الشارع حينها سرطان الفساد الذي نخر في عظم الدولة طيلة 30 عامًا هي فترة حكم عمر البشير، فأصابها بالشلل التام، وقوض إمكاناتها وأهدر مواردها لصالح حفنة من الفاسدين.
وكان القضاء على هذا الفساد الذي دفع بالاقتصاد السوداني إلى الهاوية أحد أبرز أهداف الثورة، التي وضعت على قائمة أولوياتها تحسين المستوى المعيشي للمواطن من خلال القضاء على كل الثقوب التي تسببت في هوة طبقية سحيقة في البلاد التي تعاني من فوضى سياسية وأمنية لعقود طويلة.
ومع الإطاحة برأس النظام في أبريل/نيسان 2019 استبشر الشارع السوداني خيرًا في استئصال هذا الداء العضال والقضاء عليه بالكلية، ممنيًا نفسه بحياة كريمة، غير أنه وبعد مرور أكثر من عامين على إزاحة البشير ونخبته لم يتلمس السودانيون حصاد ثورتهم رغم الجهود المبذولة في مجال الإصلاح المؤسسي.
وكان نتاجًا لتلك الوضعية أن استمر السودان في تذيله لدول العالم في مؤشر مدركات الفساد الذي أصدرته منظمة الشفافية العالمية، يناير/كانون الثاني الماضي، فقد حل البلد الإفريقي كسادس أكثر بلدان العالم فسادًا، إذ حل في المركز الـ174 في القائمة التي ضمت 180 بلدًا.
5.4 مليار دولار خسائر سنوية
كشف تقرير حديث صادر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لإفريقيا بالتعاون مع فريق متخصص من الاتحاد الإفريقي استمرار منابع الفساد في السودان، وإن كان بصورة أكثر فجاجة، مركزًا على مسألة واحدة من تلك المنابع وهي المتعلقة بالتدفقات المالية غير المشروعة.
وتتخذ تلك التدفقات العديد من الصور أبرزها غسيل الأموال والتهرب من الجمارك والضرائب والتلاعب بالأسعار في النشاط الاقتصادي وبفواتير عمليات الصادر والوارد، فقد أشار التقرير إلى أن تلك التدفقات غير المشروعة تكلف السودان سنويًا خسائر قدرها 5.4 مليار دولار.
واستعرض التقرير أبرز ملامح هذه التدفقات الكارثية على الاقتصاد السوداني، منوهًا أن “فجوة المعاملات التجارية العالمية للسودان خلال الأعوام 2012 -2018 بلغت 30.9 مليار دولار”، بما يعادل 50% من إجمالي تجارة السودان خلال هذه السنوات، هذا بجانب خسارة فادحة تكبدتها الحكومة جراء عدم تحصيلها إيرادات الضرائب والرسوم وبلغت قرابة 5.7 مليار دولار.
التقرير كشف كذلك مفارقة كبيرة بين قيمة صادرات النفط ووارداته، ففي الوقت الذي قالت فيه الحكومة السودانية إنها حصلت على 4.8 مليار دولار من صادرات النفط، أعلن الشركاء التجاريون أنهم دفعوا 8.9 مليار دولار مقابل وارداتهم النفطية، ما يعني فارق قدره 5.1 مليار دولار لم تدخل خزينة الدولة.
وخلصت تلك الورقة التقييمية إلى “وجود الفساد والتدفقات المالية غير المشروعة في جميع قطاعات الاقتصاد وعلى كل المستويات”، مرجعة ذلك للافتقار للشفافية، خاصة في القطاعات ذات العوائد الكبيرة، على رأسها الذهب والتجارة الخارجية “يبلغ جحم إنتاج النفط والذهب ما يقارب ضعف ما أعلنته الحكومة رسميًا، ما يشي بتهرب هائل ونقص في التبليغ وتهرب من دفع الجمارك والضرائب”.
رغم فض غبار الماضي عبر تنحية البشير وتغير الأوضاع السياسية التي كانت سائدة في البلاد طيلة عقود طويلة، فإن المعاناة اليومية للمواطن السوداني ما زالت مستمرة وفي تزايد يومًا عن الآخر، فلم تتحسن معيشته، ولم ينعم بالجنة التي كان يمني نفسه بها قبل عامين ونصف
جهود حكومية ولكن
بعد أشهر قليلة من أداء الحكومة الانتقالية السودانية للقسم في سبتمبر/أيلول 2019 استُحدثت لجنة متخصصة لتفكيك نظام البشير واسترداد الأصول والأراضي والأموال التي استولى عليها عناصر النظام السابق – على مدار سنوات حكمه – للدولة مرة أخرى.
تزامن هذا التحرك مع خطوات مماثلة تستهدف العمل في مجال البناء المؤسسي وتعزيز أنظمة الشفافية والحوكمة، لاستعادة ثروات الدولة المنهوبة وإنعاش الاقتصاد المترهل الذي انعكس على الحياة المعيشية للمواطنين فأودى بالملايين منهم إلى ما دون خط الفقر.
وفي أبريل/نيسان الماضي مرر المجلس التشريعي المؤقت (البرلمان) قانون “مفوضية مكافحة الفساد” الذي جاء تدعيمًا للجنة التفكيك لاستكمال مهامها الدستورية في استرداد ممتلكات الشعب السوداني، فيما أكدت السلطة الجديدة أهمية مكافحة الفساد عبر التطبيق الصارم للقوانين عبر سلطات قضائية مستقلة.
وبدأت معظم الهيئات الحكومية في ترجمة تلك التوجيهات والتحركات لممارسات وإجراءات، فشرعت في وضع الأسس اللازمة للالتزام بالشفافية وتطبيق معاييرها بشكل كامل، لا سيما فيما يتعلق بإجراءات وعطاءات تنفيذ المشروعات التي كانت الباب الأكبر للفساد في السابق.
استمرار المعاناة
رغم فض غبار الماضي عبر تنحية البشير وتغير الأوضاع السياسية التي كانت سائدة في البلاد طيلة عقود طويلة، فإن المعاناة اليومية للمواطن السوداني ما زالت مستمرة وفي تزايد يومًا عن الآخر، فلم تتحسن معيشته ولم ينعم بالجنة التي كان يمني نفسه بها قبل عامين ونصف حين خرج مطالبًا باسقاط النظام.
كان يفترض أن يحصد السودان نتاج الخطوات الإيجابية التي شهدها خلال الأشهر الأخيرة كرفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب وقانون الحصانة وغيرها من الأشياء الأخرى، لكن هذا لم يحدث، وذلك لاعتبارات عدة بحسب الخبير الاقتصادي السوداني الدكتور محمد الناير، أبرزها تحرير سعر الصرف التي وصفها بـ”الخطوة الانتحارية”.
الحديث عن قضاء كامل على الفساد في بلد مزقته كلاليب هذا السرطان طيلة 3 عقود وأكثر، خلال تلك الفترة الوجيزة منذ تولي السلطة الانتقالية الحكم، درب من الخيال
وأضاف الخبير السوداني أن هذه الخطوة ما كان ينبغي الإقدام عليها “إلا إذا توافر لها احتياطي نقدي لا يقل عن 4-5 مليارات دولار، وهذا غير متاح الآن لأن المجتمع الدولي لم يف بالتزاماته، فصندوق النقد والبنك الدولي لم يضخا مبالغ مقدرة في الاقتصاد، الأمر الذي سيجعل تحرير سعر الصرف عبئًا ثقيلًا على الاقتصاد وحياة المواطن” بحسب تصريحاته لـ”سبوتنيك“.
ورجح الناير استمرار معاناة الاقتصاد السوداني، متوقعًا أن يصل التضخم إلى 300% نهاية هذا العام مقارنة بـ250% خلال نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لافتًا إلى أن السودان يذهب إلى “أسوأ مؤشرات الاقتصاد في العالم بسبب التراجع المستمر لقيمة العملة الوطنية، وغياب الرؤية والمعالجة الاقتصادية الصحيحة”، وتابع “حتى الآن تعمل الدولة بكل جهدها لإرضاء المجتمع الدولي وصندوق النقد والبنك الدوليين، دون أن تبذل أي جهد لإرضاء المواطن أو معالجة قضاياه المعيشية بصورة أساسية”.
وفي الناحية الأخرى أكد عضو تجمع الكفاءات السودانية بالخارج، عبد العظيم عبد المطلب، أن السودان ليس بلدًا فقيرًا، لافتًا إلى امتلاكه ثروات طبيعية لا تقدر بثمن، كالبترول والذهب، فضلًا عن الأراضي الزراعية الخصبة التي لا تتوافر في الكثير من البلدان المجاورة وموارد المياه المتعددة، علاوة على ثروة حيوانية تتجاوز الـ150 مليون رأس.
وأرجع عبد المطلب الانهيار الاقتصادي الذي تشهده بلاده رغم كل تلك الثروات إلى عدة أسباب أبرزها، بحسب تصريحات صحفية له، “الأزمة السياسية التي أدت إلى فشل كل الحكومات على مدى 63 عامًا، بجانب توهان العقل السياسي السوداني، وانتهاج سياسة تحرير الاقتصاد، بالإضافة إلى التضخم الذي لم تتم معالجته في البداية، ما أدى إلى فجوة كبيرة في ميزان المدفوعات”.
وفي الأخير فإن الحديث عن قضاء كامل على الفساد في بلد مزقته كلاليب هذا السرطان طيلة 3 عقود وأكثر، خلال تلك الفترة الوجيزة منذ تولي السلطة الانتقالية الحكم، درب من الخيال، لكن أي خطوة تُتخذ في هذا الاتجاه تعد هزيمة قوية لهذا الجدار الصلب الذي حرم البلاد من مواردها وأفرغها من ثرواتها وأسقط أبناءها صرعى في براثن الفقر والعوز.
وبعيدًا عن أي تحديات أخرى، داخلية كانت أو خارجية، يظل الفساد هو حجر العثرة الأكثر خطورة وتهديدًا للسودان في مسيرته القادمة، كما يعد الترمومتر الحقيقي لقياس مؤشر الأداء والإنجاز لمرحلة ما بعد الثورة، فهل ينجح السودانيون في زحزحة هذا الحجر؟