أثار موقف روسيا إزاء ملف سد النهضة خلال الجلسة التي عقدها مجلس الأمن الدولي لمناقشة هذه القضية في الثامن من يوليو/تموز الحاليّ غضب الشارع المصري، فارضًا العديد من التساؤلات عن غياب الدعم الروسي للقاهرة رغم العلاقات القوية التي تربط بين رئيسي البلدين، فلاديمير بوتين وعبد الفتاح السيسي، فقد تبنت موسكو بشكل واضح رؤية أديس أبابا على حساب القاهرة.
كلمة المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، حملت رفضًا قاطعًا لخطاب التهديد المصري والسوداني بشأن التحذير من اللجوء للخيار العسكري بسبب التعنت الإثيوبي، في مقابل تبني وجهة النظر الإثيوبية بشأن عودة الملف لطاولة الاتحاد الإفريقي بعيدًا عن أروقة المجتمع الدولي، وهو ما يتعارض مع المطالب المصرية.
الجلسة جاءت كاشفة بشكل واضح للمواقف الدولية على أرض الواقع بعيدًا عن المجاملات الدبلوماسية التي تخيم على أجواء اللقاءات والاجتماعات العامة الرسمية، وهو ما دفع الكثير من الأصوات للمطالبة بإعادة النظر في العلاقات مع موسكو التي كان يعول عليها البعض لدعم الموقف المصري دوليًا في ضوء العلاقات القوية التي تجمع بين البلدين منذ أول زيارة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لموسكو عام 2015.
وهنا يتوجب السؤال: لماذا تخلت موسكو عن القاهرة في هذا الملف الوجودي بالنسبة لها؟ وما تداعيات ذلك على مستقبل العلاقات بين البلدين؟
تعاون عسكري في توقيت مثير للجدل
قبل أن يستفيق المصريون من صدمة الموقف الروسي داخل مجلس الأمن، وفي الوقت الذي بدأ يعزف فيه البعض على أوتار التبرير لموسكو، عبر قراءات مغايرة لكلمة مندوبها الأممي، ومحاولة تبريدها بما يخفف من درجة سخونتها، إذ بالإعلان عن تحالف عسكري بين روسيا وإثيوبيا جديد يقلب الطاولة على الجميع.
أمس الإثنين، وقع البلدان اتفاقية تعاون عسكري في ختام منتدى التعاون العسكري الإثيوبي الروسي في دورته الـ11 الذي يهدف إلى نقل المهارات وتبادل الخبرات في مجال العلوم العسكرية والتقنية، بجانب تقوية القدرات الدفاعية للجيش الإثيوبي في التصدي للمخاطر المحتملة.
المرتكزات التي تستند إليها الدولة الروسية في تعاطيها مع مسار السد تميل بصورة واضحة للجانب الإثيوبي على حساب المصري
مسؤولة قسم التمويل بوزارة الدفاع الإثيوبية، مارتا لويجي، خلال كلمتها بافتتاح المنتدى، قالت “العلاقات بين روسيا وأديس أبابا شهدت تطورًا كبيرًا منذ أن التقى رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أكتوبر/تشرين الأول 2019 على هامش القمة الإفريقية الروسية بمنتجع سوتشي الروسي”.
وأعربت عن تقديرها لـ”الموقف المشرف لروسيا في دعمها لإثيوبيا في عملية إنفاذ القانون في إقليم تجراي الذي اعتبرته موسكو شأنًا داخليًا”، مضيفة أن موسكو ساندت بلادها في الانتخابات العامة السادسة التي شهدتها أديس أبابا الشهر الماضي، بجانب دعمها الكبير في ملف سد النهضة، والقضايا الوطنية الأخرى التي أبدت فيها موسكو صداقتها لإثيوبيا.
وفي المقابل أكد نائب مدير التعاون الفني العسكري في روسيا، على عمق العلاقات التاريخية بين البلدين، لافتًا إلى أن المنتدى سيعزز هذه العلاقات في مختلف المجالات خاصة العسكرية، منوهًا أن العديد من أفراد قوات الدفاع الإثيوبية تلقوا تدريبات في روسيا، فيما أشارت وزارة الدفاع الإثيوبية على موقعها الإلكتروني إلى استفادة مؤسسة صناعة الدفاع وشركة دجن للطيران الإثيوبيتين من الخبرات الروسية لتعزيز القدرة التكنولوجية.
حيادية لصالح إثيوبيا
بعض الأصوات حاولت قراءة الموقف الروسي من زاوية مغايرة نسبيًا، واصفة إياه بـ”المحايد تجاه الأزمة” كما ذهب مركز الدراسات العربية الأوراسية في دراسته التي أعدها خصيصًا لاستشراف موقف روسيا من أزمة السد، لافتًا إلى أن موسكو لا تفضِّل اللجوء لوساطة غير مقبولة من كلا الطرفين.
الدراسة أشارت إلى أن الروس يرون أن لا حل عسكري لهذا الخلاف، وأن الأفضل لمصر التمسك بالقانون الدولي، محذرين من الخيار العسكري الذي قد يمنح إثيوبيا “الفرصة لتعبئة شعبية في ظل أزمة داخلية يعيشها النظام في أديس أبابا، ويوفر لها كذلك كل المبررات للتملص من الالتزامات القانونية”.
وفي السياق ذاته يرى القائمون على تلك الدراسة أن موسكو “تعتقد أن العمل على حل الخلاف من خلال الهيئات الإقليمية، وفي هذه الحالة الاتحاد الإفريقي، الوسيلة المثالية لكلا الطرفين”، وذلك اتساقًا مع دعوة روسيا لعالم متعدد الأقطاب، تدير فيه كل دولة شؤونها بعيدًا عن أي ضغوط أو تأثيرات خارجية.
وتستند روسيا في موقفها هذا – بحسب الدراسة – إلى عدة أسس على رأسها “حق إثيوبيا في التمتع بمواردها المائية وتنميتها بما لا يضر بمصالح دولتي المصب”، وهو ما أكده وزير الخارجية سيرغي لاڤروڤ، خلال زيارته الأخيرة للقاهرة أبريل/نيسان الماضي، هذا بجانب الخبرة الكبيرة للروس في بناء السدود، الأمر الذي قد يؤهلها للقيام بدور الوساطة في هذا الملف.
المركز الذي أعد الدراسة استعرض في ختام ورقته المقدمة حجم التأثير الروسي في الدولة الإثيوبية، واصفًا إياها بأنها “أكثر بلد في العالم لديه دراسة وتأثير ممتد على إثيوبيا حتى الآن”، لافتًا إلى أن “غالبية تسليح وعقيدة الجيش الإثيوبي القتالية روسية رغم علاقة أديس أبابا المميزة مع الغرب منذ العام 1992” هذا بجانب تلقي معظم قادة الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية “التيغراي” تعليمهم في الاتحاد السوڤيتي، ونقلوا التجربة السوڤيتية البلشفية بالحكم الفيدرالي لإثيوبيا.
تكشف الدراسة التي شارك في إعدادها خبراء روس عن حيادية غير محايدة بالنسبة لموسكو في إدارتها لهذا الملف، فالمرتكزات التي تستند إليها الدولة الروسية في تعاطيها مع مسار السد تميل بصورة واضحة للجانب الإثيوبي على حساب المصري، وهو ما يتضح في الملامح الرئيسية لهذا الموقف التي تتناغم مع الخطة الإثيوبية حد التطابق.
حين مالت موسكو تجاه أديس أبابا كانت المصالح هي المحرك الأساسي لها، فإثيوبيا نجحت في تعزيز ثقلها القاري خلال العقدين الماضيين تحديدًا، واستطاعت أن تفرض نفسها كلاعب رئيسي في الساحة الإفريقية
المصالح
هناك فارق كبير بين العلاقات الشخصية والمصالح الدولية، هكذا يذهب فريق من المحللين في قراءتهم للمشهد الحاليّ، فالعلاقات القوية بين السيسي وبوتين لم تكن مسوغًا لتحالف بين البلدين، فالبرغماتية هي من تحكم توجهات الدول وترسم خريطة تحالفاتها القائمة على المكاسب المحققة على أرض الواقع بعيدًا عن الدبلوماسية الجوفاء.
حين مالت موسكو تجاه أديس أبابا كانت المصالح هي المحرك الأساسي لها، فإثيوبيا نجحت في تعزيز ثقلها القاري خلال العقدين الماضيين تحديدًا، واستطاعت أن تفرض نفسها كلاعب رئيسي في الساحة الإفريقية بعد سنوات من الحروب الأهلية التي أطاحت بأكثر من مليون ونصف من مواطنيها.
وجد الروس في إثيوبيا الفرصة السانحة لتعزيز الوجود داخل إفريقيا في إطار صراع النفوذ مع القطب الأمريكي، لا سيما بعد تعثر تدشين القاعدة البحرية التي كانت تخطط موسكو لبنائها في ميناء بورتسودان السوداني، هذا في الوقت الذي نجحت فيه أديس أبابا في بناء شبكة علاقات متشابكة تضم العديد من الأطراف الدولية على رأسها الصين وكندا و”إسرائيل”.
النفوذ الأمريكي المتنامي في مصر خلال حقبتي مبارك وما بعدها، كان دافعًا قويًا لموسكو للبحث عن بديل آخر قادر على القيام بنفس الدور القاري، وكانت إثيوبيا هي البديل من وجهة النظر الروسية، فكان تعزيز النفوذ هناك رد فعل على الوجود الأمريكي المتسع في كل من مصر والسودان على حد سواء.
ثم جاء التحرك المصري المنفرد بشأن منتدى غاز شرق المتوسط ليثير غضب الروس، خاصة بعدما اعتبروا أن مثل هذه الخطوات عدائية تستهدف تسهيل تصدير الغاز لأوروبا بمعزل عن روسيا، وهو ما كان له تأثيره في تعميق الخلاف الكامن بين البلدين وإن لم يظهر للعلن.
الخبيرة في الشؤون الصينية والآسيوية، نادية حلمي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة بني سويف، ترى أن تضارب الأجندة الروسية مع مصر في العديد من الملفات وعلى رأسها ليبيا، بجانب الانتقادات التي واجهتها موسكو من القاهرة بسبب المناورات العسكرية التي شاركت فيها القوات الروسية في المنطقة، كان على رأس دوافع روسيا للتغريد بعيدًا عن المصالح المصرية.
سبب آخر أشارت إليه الخبيرة المصرية يتعلق بمساعي واشنطن التوغل داخل الدولة الإثيوبية عبر التمويل والدعم المادي، في إشارة إلى إنشاء أمريكا لوكالة خاصة بتمويل إثيوبيا بشكل مفاجئ، تحت مسمى مؤسسة التنمية الدولية “ديفيك” التي قدمت لإثيوبيا قرضًا أوليًا بـ3 مليارات دولار، الأمر الذي رأت فيه موسكو تهديدًا لمصالحها في منطقة القرن الإفريقي وشرق القارة، فكان التحرك المناهض لتعزيز نفوذها هناك.
سبب آخر ذهب إليه البعض تفسيرًا للموقف الروسي المناوئ للرؤية المصرية في هذا الملف، يتعلق بالبعد التاريخي والعقدي، فالقيادة اليمينية المتطرفة التي تحكم روسيا اليوم لم تنس واقعة طرد الخبراء الروس من مصر عام 1972، هذا بجانب توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع دولة الاحتلال دون موسكو.
التساؤل هنا: إن كان الوضع هكذا فما تفسيرات التقارب بين البلدين خلال السنوات الماضية؟ الكاتب والمحلل السياسي المهتم بالشأن الروسي الدكتور أشرف الصباغ، يفسر هذا التقارب بقوله “روسيا فهمت أن الغرب غير راض عن الطريقة التي وصل بها السيسي إلى السلطة، وتلاقت هنا رغبة القاهرة وموسكو التي أكدت أنها ستقف معها ضد الغرب، بملفات الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان والمجتمع المدني، وستدعم النظام الحاكم ما دام بينه وبين الغرب عداء”.
الكاتب المصري لفت إلى أن العداء للغرب في ذلك الوقت كان نقطة الالتقاء الأولى نحو تعاون قوي بين القاهرة وموسكو، فيرى أن الأخيرة أبدت رغبة كبيرة في الحصول على قواعد عسكرية وامتيازات استثمارية داخل مصر، وهو ما لم تسمح به السلطات، الأمر الذي انعكس سلبًا على مستقبل تلك العلاقات.
إعادة تقييم للعلاقات
التوجه الروسي المائل نسبيًا إلى أديس أبابا دفع البعض للمطالبة بإعادة النظر في العلاقات بينها وبين القاهرة، معتبرين أن التوجهات الدولية التي أفرزتها جلسة مجلس الأمن لا بد أن تكون دليلًا استرشاديًا لبناء قاعدة تحالفات جديدة على أسس المصالح المشتركة والمواقف المتناغمة.
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، إسماعيل صبري، يرى أن مصر تحيا “في عالم العلاقات الدولية بواقعيته وشراسته وغدره وشروره وتقلباته وسلوكياته الملتوية، وليس في عالم القانون الدولي بمثاليته وشفافيته وقيمه النبيلة وأخلاقياته النظيفة”.
روسيا موقفها مخزٍ ويستحق المراجعة.. هل كانت علاقتنا بروسيا علاقة تحالف إستراتيجى، أم كانت علاقة لا قيمة لها، كشفها موقف روسيا فى مجلس الأمن؟ الكاتب الصحفي المصري محمد أمين
وأضاف الأكاديمي المصري أن التعامل مع هذا العالم بمبادئه المتغيرة وبرغماتيته التي فرضت نفسها على أي اعتبارات أخرى “يجب أن يكون على أساس أكثر واقعية من فهمنا له ومن إلمامنا بحقائقه، هذا إذا اردنا أن يكون لنا مكان في هذا العالم المعقد والصعب” على حد قوله.
الكاتب المصري محمد أمين في مقاله في صحيفة “المصري اليوم” الذي جاء تحت عنوان “مراجعة علاقتنا الخارجية” يقول “أظن أن مصر بعد جلسة مجلس الأمن سوف تعيد رسم علاقاتها الخارجية من جديد، وأنها سوف تُقيم موقف بعض الدول طبقًا لمواقفها مع مصر أو ضدها فى أزمة سد النهضة”.
وأضاف “هناك دول ظننا أنها معنا (سمن على عسل)، وكدنا نقيم معها اتحادًا كونفيدراليًا، ولكن ثبت أنها تمشى وراء أى مصلحة، و”إن خلصت حاجتى من جارتى يبقى سلام”.. روسيا موقفها مخزٍ ويستحق المراجعة.. هل كانت علاقتنا بروسيا علاقة تحالف إستراتيجى، أم كانت علاقة لا قيمة لها، كشف عنها موقف روسيا فى مجلس الأمن؟!”.
واختتم الصحفي المصري مقاله بضرورة وجود مراجعة عملية لموقف مصر من العديد من الدول “بالورقة والقلم نحتاج لهذه المراجعة، وبناء مواقفنا على أساس هذه العلاقات.. والتأكيد على علاقاتنا بدول حوض النيل.. ولا بد من إحداث تغيير فى مواقف مصر من بعض الدول الكبرى دائمة العضوية فى مجلس الأمن.. ومن المهم أن نعرف خريطة العالم بطريقة جديدة”.
جدير بالذكر أن الأعوام الثلاث الأخيرة تحديدًا شهدت العلاقات الاقتصادية الروسية المصرية تناميًا غير مسبوق، فوصلت إلى 7.6 مليار دولار، فيما مثلت مصر الشريك التجاري الأول في إفريقيا بالنسبة لروسيا بنسبة تعادل 83% من حجم التجارة بين روسيا وإفريقيا، كما تحصل مصر على نسبة 33% من حجم التبادل التجاري بين روسيا والدول العربية.
وهناك استثمارات بالملايين لقرابة 467 شركة روسية في مصر في العديد من المجالات أبرزها البترول والغاز، هذا بخلاف المنطقة الصناعية الروسية فوق التراب المصري، التي تعد الاستثمار الأكبر لروسيا خارج أراضيها، ومن المتوقع أن تُضخ استثمارات بقيمة 7 مليارات دولار، وتوفر 35 ألف فرصة عمل، وفوق كل هذا مشروع الضبعة الحيوي الذي تشارك فيه شركة روز أتوم الروسية، لبناء أربع مفاعلات لإنتاج الطاقة الكهربائية الموقع في نوفمبر/تشرين الثاني 2015.
وفي المحصلة.. فإن البرغماتية ولغة المصالح كانت ولا تزال قبلة التوجهات والقلم الذي يرسم خريطة التحالفات الدولية، بعيدًا عن أي اعتبارات أخرى، وتمتلك القاهرة العديد من أوراق الضغط التي يمكن أن تعيد بها تقييم علاقتها مع القوى الدولية التي تسير عكس عقارب الأمن القومي المصري… فهل تفعل ذلك قبل فوات الأوان؟