قال أمير خان متقي، رئيس “لجنة الدعوة والإرشاد” في حركة طالبان، في تغريدة له: “الآن ومع انتقال المعارك من الجبال والصحارى إلى أبواب المدن، لا يريد المجاهدون القتال داخل المدن، من الأفضل أن يستخدم مواطنونا والعلماء كل القنوات للدخول في اتصال” مع طالبان، بهدف “التوصُّل إلى اتفاق منطقي لتجنيب تعرُّض مدنهم لأضرار”.
جاءت هذه التغريدة بعد سلسلة من عمليات التقدُّم التي قامت بها حركة طالبان نحو العديد من المدن والولايات الأفغانية، في مقابل انسحابات متكرِّرة لقوات الحكومة الأفغانية، التي أصبحت تفتقد لعمليات الدعم اللوجستي والجوّي من قبل القوات الأميركية، التي انسحبت هي الأخرى من قاعدة باغرام في وسط البلاد، حيث أصبحت الحركة اليوم تسيطر على 250 ولاية في البلاد، من أصل 398 ولاية.
أعادت عمليات الانسحاب الأميركي من أفغانستان للواجهة طبيعة العلاقات المعقّدة التي تربط الحركة بإيران، ورغم دخول إيران على خط الأزمة بين الحركة والحكومة الأفغانية، منذ انطلاق محادثات السلام في الدوحة بين الحركة والإدارة الأميركية في 29 فبراير/ شباط 2020، ودعوة العديد من الوفود التابعة للحركة لزيارة طهران، وإجراء محادثات مستفيضة مع المسؤولين الإيرانيين حتى الآن، إلّا إن الأوضاع الحالية في أفغانستان تثير مخاوف الإيرانيين، خصوصًا بعد سيطرة الحركة على معبر إسلام قلعة الحدودي مع إيران.
ويعني ذلك سيطرة الحركة على ما يقارب 900 كيلومتر من الحدود الرابطة بين أفغانستان وإيران، وما يمكن أن تفضي إليه هذه السيطرة من تداعيات خطيرة على الداخل الإيراني، وتحديدًا على مستوى التجارة غير المشروعة أو تجارة المخدِّرات، أو حتى فيما يتعلق بالتبادُل التجاري الرسمي، إذ ترتبط أفغانستان وإيران بسكة حديد تمتدّ من مدينة هرات الأفغانية حتى الداخل الإيراني باتجاه الشمال، وبعد سيطرة الحركة على هذه المدينة، ستواجه إيران ظروفًا معقّدة في هذا الإطار.
هذه التحولات الأمنية التي تشهدها الساحة الأفغانية، مضافًا إليها التداعيات الخطيرة التي يمكن أن تفرزها عملية سيطرة الحركة على كامل أفغانستان، تأتي في ظلِّ ظروف تفاوضية معقّدة تواجهها إيران مع المجتمع الدولي، وتحديدًا على مستوى المناورة الإيرانية في المفاوضات النووية الحالية.
فهذا الصعود سيعقّد من الأوراق التفاوضية الإيرانية، التي هي محدَّدة للغاية، ما يشير إلى إن عملية الانسحاب الأميركي من أفغانستان، أشبه ما تكون بلُعبة توريط أميركية من أجل إعادة تشكيل الواقع الإقليمي المحيط بأفغانستان، على أنقاض الفوضى التي ستنشأ بعد سيطرة الحركة، وإن المستهدف الأول من لعبة التوريط هذه هي إيران دون غيرها.
أكّد المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي، أن إيران أعادت عددًا من القوات الأفغانية التي لجأت مؤخّرًا إليها، بعد هجوم شنّته عناصر من طالبان على مناطق واقعة غربي البلاد.
ترتبطُ إيران بعلاقات متغيِّرة مع حركة طالبان، فرغم العلاقات المعقّدة التي ربطت إيران بالحركة قبل عام 2011، عادت العلاقات للتحسُّن بعد هذا العام، إذ أدّت عملية تصنيف إيران ضمن محور الشرّ إلى جانب سوريا وكوريا الشمالية، إلى نجاح قائد فليق القدس السابق قاسم سليماني بإنشاء علاقات وثيقة مع الحركة، وتوحيد الجهود ضد القوات الأميركية المنتشرة في أفغانستان، من منطلق العداء المشترَك للولايات المتحدة.
خيارات إيران المعقّدة
تتمتّع إيران بعلاقات تاريخية طويلة الأمد مع جارتها أفغانستان، حيث يقاتلُ بعض أعضاء جماعة الهزارة الشيعية الأفغانية في سوريا، ضمن عدة ميليشيات تدعمها إيران هناك، كما تقدِّم إيران الدعم لكُلِّ من الحكومة الأفغانية، عبر شريكها تحالُف قبائل الشمال، في توجُّه يشير إلى مدى التعقيد الشديد الذي تتّسم به السياسة الخارجية الإيرانية هناك.
حيث تنتقد إيران بشدة الوجود الأميركي في أفغانستان، كجزء من معارضتها العامة لسياسات الولايات المتحدة في المنطقة، وتحديدًا بعد مقتل سليماني، حيث تزايدت الدعوات الإيرانية المطالِبة بضرورة إخراج القوات الأميركية من المناطق المحيطة بها، وبعد نجاحها في تحريك هذه الدعوات بالعراق، تسعى إلى تحريكها في أفغانستان أيضًا.
وفي هذا السياق، أكّد المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي، أن إيران أعادت عددًا من القوات الأفغانية التي لجأت مؤخرًا إليها، بعد هجوم شنّته عناصر من طالبان على مناطق واقعة غربي البلاد.
ونقلت وكالة “فارس” عن ربيعي قوله إن إعادة القوات تمّت عبر التنسيق مع الحكومة المركزية في أفغانستان، وتعليقًا على الهجمات المتزايدة التي تشنها طالبان، وسيطرتها على المزيد من المناطق في أفغانستان، قال ربيعي إن “هناك استعدادًا في إيران من قبل جميع الأجهزة المعنية، وتمّ التخطيط لسيناريوهات مختلفة تجاه التحركات الأخيرة في أفغانستان، وتمّ اتخاذ التدابير اللازمة بشأن حراسة الحدود”.
يمكن القول إن الظروف الإقليمية المعقّدة التي تعيشها إيران اليوم، جعلت من قادة هذه الدولة يراجعون مواقفهم السياسية ما بين التهدئة في أفغانستان والتصعيد في العراق.
يمثّل تحالف القبائل في شمال أفغانستان أحد أبرز حلفاء إيران في الساحة الأفغانية، وتمكّنَ قائد فيلق القدس الحالي إسماعيل قآني من نسج علاقات تحالف عسكري وثيق معهم، خلال سنوات الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي، وعلى الرغم من التنسيق الإيراني-الأميركي لتحقيق الاستقرار في الساحة الأفغانية خلال تلك الفترة، إلا إن هذا التنسيق الاستخباراتي بين الطرفَين سرعان ما انتهى في وقت لاحق.
وإلى جانب تحالف القبائل يشكّل لواء فاطميون الأفغاني، الذي يمثل إحدى أبرز الميليشيات الإيرانية المقاتلة في الساحة السورية منذ عام 2015، ما يجعله أحد أبرز الخيارات الإيرانية في أفغانستان لمواجهة صعود طالبان، خصوصًا إذا ما أقدمت الحركة على استهداف الأقليات الشيعية في المدن المسيطرة عليها، وتحديدًا في هرات أو على الحدود مع طاجيكستان، في إعادة لسيناريو استهداف القنصلية الإيرانية في ولاية مزار شريف الأفغانية عام 1998، والتي راح ضحيتها 8 دبلوماسيين إيرانيين، وكادت تلك العملية أن تُنشبَ حربًا بين أفغانستان وإيران.
ومن خلال ما تقدّم، يمكن القول إن الظروف الإقليمية المعقّدة التي تعيشها إيران اليوم، جعلت من قادة هذه الدولة يراجعون مواقفهم السياسية ما بين التهدئة في أفغانستان والتصعيد في العراق، وهذه المواقف ناجمة من حالة عدم اليقين التي تعيشها إيران.
ففي الوقت الذي يوسِّع فيه الحرس الثوري من خارطة المواجهة وينوِّعها، حسب مستوى التأثير والفاعلية، نجدُ أن الضغوط الدولية تتزايد على إيران، وفي ظلّ هذا التعقيد السياسي يظلّ ملف المواجهة الساخنة أو السلام المقلِق في العلاقات الإيرانية الأميركية حاضرًا بقوة على مسرح الأحداث الإقليمية، حتى تتّضح معالم الواقع الأمني المقلق في أفغانستان.