في العقد الأخير، أضحت محاولات إعادة تدوير القصة أو إعادة صناعة الفيلم القديم (Remake)، موضة تتبعها أكبر شركة إنتاج في العالم التي هي ديزني، بما يسمّى الـ Live Action Films، وهي نوعية أفلام تأخذ قيمتها من أفلام رسوم متحرِّكة كلاسيكية، أنتجتها الشركة نفسها.
صنعَت هذه الأعمال الفنية الكلاسيكية قاعدة جماهيرية ضخمة، وارتبط بها المشاهِد، وهي نقطة يتم استغلالها للترويج للفيلم حتى قبل نزوله، كشيء مثير للتشويق مثل رؤية أحلام الطفولة أو ذكريات القرن الماضي تتحول إلى عالم حقيقي واقعي، وعليه يتم إعادة إنتاجها بشكل حقيقي وواقعي، وبالتأكيد تسخّر ديزني كمًّا هائلًا من الأموال من أجل ذلك النوع من الأفلام، الذي يتم اقتباسه من مجلات الكوميك أو الروايات أو القصص الشعبية الفلكلورية في الأغلب، التي تنتمي إلى أقاصيص الأخوَين غريم.
ولكن السؤال هنا حول قيمة المُنتجات الفكرية التي تقدِّمها ديزني، ومدى إضافتها إلى القديم والتراثي، باعتبار أفلام الرسوم المتحركة في القرن الماضي التي يتم إعادة إنتاجها الآن، هي من صنعت اسم ديزني وحوّلتها إلى كيان عملاق، ولذلك يمكن وضع هذه الأفلام في خانة التراث الذي تستند إليه الشركة بفخر.
والحق أن هناك تغيُّرات تفرِّق بين النسختَين بشكل ملحوظ، وهذا يرجع إلى الحداثة وتأثير الكود الاجتماعي والأخلاقي الذي أحدث تحوُّلًا في منطق السرد، ووضَعَ خطوطًا حمراء يجب إعادة النظر فيها قبل الكتابة، وأنتج هذا التصويب السياسي وغيره من المتغيرات لغةً مشترَكة بين أغلب الأفلام التجارية، يتمّ تسكينها والبناء عليها بشكل أساسي في الأفلام الجديدة/ الموجة الجديدة، كأشياء مهمّة لجذب التعاطف والحب الذي يضمن للفيلم نجاحًا مُرضيًا، حتى لو لم يكن جيّدًا على المستوى النقدي.
كرويلا (Cruella)
فيلم “كرويلا”، من بطولة النجمة الأميركية إيما ستون والنجمة الإنجليزية إيما تومسون، مقتبسٌ من فيلم الرسوم المتحركة الشهير One Hundred and One Dalmatians المنتج عام 1961، الذي يدور حول امرأة مهووسة بالأزياء والموضة -هي نفسها كرويلا دوفيل بطلت فيلمنا، إلا إنها عجوز في فيلم الرسوم المتحركة القديم-، تحاول جمع عدد 101 كلب منقّط لكي تصنع من جلودهم المعطف الذي تحلم به.
يمكن اعتبار الفيلم Spin Off يركّز على شخصية كرويلا، فمنذ اللحظة الأولى يخوض في عملية بناء الشخصية، وخلق الأفعال ثم إعطاء الشرعية لها، ما يجعله مختلفًا سرديًّا عن الفيلم القديم، لأنه يستهلّ حكاياته من طفولة الفتاة، ويبدأ في رفع النسق مع مرور الوقت، بينما يبدأ فيلم الرسوم المتحركة سرديته من الكلاب نفسها.
فالحبكة القديمة متمركزة حول الكلاب كعقدة، ولكن هنا الفيلم لا يأخذ إلا سمات رئيسية ويبدأ في تطويعها داخل قالب مُختلف، ويمهِّد للشخصية الشريرة واللابطل ولكن بحدود، ليتحول الفيلم إلى حكاية انتقام عادية تفتقدُ ما يجعلها أصلية، رغم أنها ما زالت تجرُّ وراءها الأقاصيص الصغيرة المرتبطة بالفيلم القديم.
يصنع فيلم “كرويلا” عالمًا جديدًا، عالمًا يبدو مدهِشًا للناظرين، فيما يدور في سبعينيات القرن الماضي متأثّرًا بموضة الـ Punk التي انتشرت في ذلك الوقت داخل أوساط الشباب، ويؤسِّس المخرج على تلك الموضة أزياء الفيلم كاملة، بلمسات تبدو متطرِّفة في كثير من الأحيان، وأكثر ظلاميّة من كل أفلام ديزني السابقة، التي في أغلب الأحيان تكون أفلام عائلية موجّهة لفئة معيّنة.
بجانب ذلك، استخدم المخرج عدة أغانٍ سبعينية من فئات الروك والبوب الأشهر آنذاك في لندن، ولكن للأسف غطّت تلك الأغاني التي من المفترض أن تناسب شخصيةً مثل شخصية كرويلا على الموسيقى التصويرية، التي تقريبًا لم تأخذ القدر الكافي من العرض على الشاشة كعضوٍ هام في جسد الفيلم.
حيث فضّل المخرج استخدام الأغاني ليضفي نوعًا من الديناميكية والحركة على الفيلم الذي يمتدّ فوق الساعتَين، وليستحضر الجوَّ السبعينياتي المميز، وبذلك يسدّ نوعًا ما الفجوات التي يحدثها طوال الوقت، ليخرج لنا بجوٍّ عامّ يناسب فيلمًا من أفلام ديزني المرحة، وهذا يحيلنا إلى نقطة أخرى: هل شخصية كرويلا شخصية شريرة فعلًا كما في فيلم الرسوم المتحركة، أم أنها مسخ؟
“كرويلا” والكود الأخلاقي
قبل الإجابة عن ذلك السؤال يجب توضيح نقطة مهمة، وهي وجود كود أخلاقي تعتمده هوليوود في معظم أفلامها، خصوصًا شركات الإنتاج الكبرى، بما يسمح لهم اجترار أكبر قدر من التعاطُف، وضمان نجاح على مستوى المشاهدات.
يتبع الكود الأخلاقي تطوُّرَ واستفحالَ الحركات النسوية وحقوق الإنسان والمؤسَّسات الاجتماعية، بحيث يجب على العمل الفني أن يرسِّخ ويروِّج للمبادئ التي تنتهجها تلك المؤسَّسات الاجتماعية، ويكون إبراز تلك المبادئ غرضًا من أغراض العمل الفني، ما يُضعف قيمة العمل الفني بشكل عام.
يلتزم المخرج كريغ غيليسبي بهذا الكود الأخلاقي، ما يحدِث فجوة هائلة بين الفيلمَين القديم والحديث، لأن هذا الكود يُرغم شخصية كرويلا -الشريرة في الأساس- أن تكون طيّبة، حيث يفقد هذا الإلزام االفيلم معناه بالنسبة إلى الكثير من المشاهدين الذي ينتظرون شخصية شريرة، لا تلتزم بمعايير أخلاقية تثنيها عن فعل الشرّ.
قد تجعلها هذه النقطة -في نظر المخرج- شخصية أكثر مرونة، ولكن الشيء الغريب أنه خلعَ عن كرويلا أغلب صفات الشرير (The Villain) الاستثنائي، التي تفسِح له مجالًا ليصنع فيلمًا مميّزًا في تلك النوعية من الأفلام، ووضعها في شخصية البارونة التي تلعبها الممثلة إيما تومسون، ما يضعنا أمام شخصيتَين من المفترض أنهما شريرتَين ولكن في الحقيقة هما شخصيتان مختلفتان، واحدة طيّبة وواحدة شريرة، ليقعَ المخرج في الفخ نفسه الذي أراد أن يخرج منه، وتنقلب القصة إلى قصة انتقام كليشيهية تنتهي بانتصار الخير على الشر.
في فيلم الرسوم المتحركة، تظهر شخصية كرويلا بعنفوان وشرّ مطلَق، وتبدو Villain كلاسيكيًّا مثاليًّا، تفعل أي شيء من أجل إرضاء هوسها بالموضة وصنع المعطف التي تودّه، لا تظهِر أي نوع من الشفقة أو الرحمة على الحيوانات أو حتى البشر، بينما شخصية كرويلا في عام 2021 تفشل في أن تكون الـ Villain المثالي، حتى لو بطريقة كلاسيكية.
حيث نراها تنزلق في منعطفات أخلاقية تتغير مع الوقت مع انكشاف أحداث جديدة، تجعلها شخصية قريبة من الواقع بعض الشيء، وفيها من الخير ما يجعلها تتغلب على الشر، ولكن إفلات فرصة صنع شخصية شريرة مثالية هو شيء غريب، لأن شخصية كرويلا الجديدة تمتازُ بكل ما يجعلها تتجه إلى شرٍّ صرف، فيما تبدو الشخصيات حولها مجرد شخصيات كاريكاتيرية لا تؤثر في القصة بقدر ما تثبّت انتباه المشاهد على شخصية البطل الشرير، ولأي مدى يمكن أن يتمادى في شرّه، ما يجعل كرويلا لا تقتل الكلاب لتصنعَ معطفًا من جلودهم مثل القصة القديمة.
يحاول المخرج في كل مرة أن يُظهِر لنا وجهَي كرويلا، الوجه الطيب والآخر الشرير، وهذا الانفصام في الشخصية كان قد يبدو مثمرًا أكثر لو أخذت شخصية استلا بعض الاهتمام في الكتابة، بحيث يعطيها مميزات وعيوبًا، بينما اقتصر كل الأمر على كرويلا، النصف الآخر الشرير منها.
ولكن حتى كرويلا لا تبدو شريرة، وعليه تصبح كرويلا شخصية محايدة، حتى لو طبعها المخرج بأجواءٍ ظلامية لم تحدث في تاريخ ديزني، أو أزياء غريبة ومدهشة ومكياج ظلامي، ستظل شخصية محايدة بل أقرب إلى الخير منها إلى الشر، ولا نعرف إذا كان هذا ما أراده المخرج في الأساس، أن تظهر كرويلا القديمة كخطأ يجب علينا تصحيحه بالمحافظة على الكود الأخلاقى الذي يجعل منا أناسًا جيدين.
وهنا يمكننا القول إن الكود الأخلاقي هذا يشبه موجات السينما النظيفة في الشرق الأوسط، تضع إطارًا واحدًا للفن، وخطوطًا حمراء لا يجب المساس بها، ما يجرّد الفن من قوّته.
إيما ستون/ كرويلا الشريرة والأزياء المذهلة
تظهر كرويلا الطفلة كشيء مختلف عن أقرانها، شعرها الذي يحتوي على اللونَين الأبيض والأسود يجعل منها مادة للسخرية والتنمُّر في المدرسة، ولكنها تواجه هذا النوع من العنف بعنف مشابه له، عنف يطوِّر لدى المشاهدين شعورًا يسير بمحاذات الشخصية الشريرة، يتوقّع خروجها، ولكنه لا يراها.
نرى في بداية الفيلم أن كرويلا هي السبب في موت أمها، ما يزيد من الشعور بخروج الشرير داخلها. تحاول كرويلا أن تكون لطيفة حسب وصية أمها، ولكنها لا تقوم بهذا إلّا في فترات قصيرة في حياتها، ولنهاية الفيلم لا نرى إلا فتاة فظّة غليظة في حديثها، لا تجترح شيئًا غير أخلاقي إلّا السرقة.
تحدث تلك السرقات في سياق مضحك وكوميدي أكثر منه درامي وظلامي، حيث لم تجعلنا نشعر بأنها الـ Villain الحقيقي على عكس إيما تومسون، حيث حملت إيما ستون دورًا ذا قدرة كبيرة على التلوُّن، فقد كان عليها أن تقوم بشخصيتَين مختلفتَين، بلهجة إنجليزية قوية، فكان عليها أن تقتبس شيئًا ما من العالم الخارجي، شيئًا يساعدها على تشكيل الشخصية بحيث تستطيع أن ترتديها.
صرّحت إيما ستون أنها اقتبست ضحكة كرويلا القديمة في فيلم الرسوم المتحركة، والتي بدورها تمّ اقتباسها من ضحكة الممثلة الشهيرة تالولاه بانكهيد في فيلم هتشكوك Lifeboat عام 1944، وقد أشارَ المخرج لذلك العمل الفني وتلك الضحكة في أحد مشاهد الفيلم كنوع من التقدير والشكر.
بجانب الضحكة المميزة، هناك الكثير من أوجُه الشبه بين شخصية كرويلا وشخصية هارلي كوين في فيلمها الأخير، ليس هذا فقط بل تقريبًا المنطلق السردي نفسه واللعب على نقطة الكود الأخلاقي والفرد ذو العدّة أوجُه، والخير الذي يبقى دائمًا داخل أكثر الشخصيات شرًّا.
بجانب هذا هناك أوجُه شبه بين تلك الشخصية وأغلب الشخصيات السيكوباثية في أكثر من فيلم، أشهرها الجوكر، ولكن يتفرّد الجوكر أنه خضعَ لأكثر من حكاية بمرونةٍ تامّة، آخرها جوكر تود فيليبس، وقبلها نولان والجوكر الأناركي الخاص به، الذي يجد لذّته في إثارة الفوضى ووضع الأغنياء أمام خيارات صعبة، ولكنه على الجهة الأخرى لا يهمه أي الأرواح يزهق، لغني أو فقير، كل الأرواح سواء بالنسبة إليه، فشخصيته تتخذ شرعية أفعالها من انهدام القِيَم الأخلاقية بشكل عام.
حاول المخرج كريغ غيليسبي أن يصنع بطلًا يمكن التفاعُل معه بشكل يصنع بين البطل والمتلقي تماسًّا، سواء في حيواتهم أو في دوافعهم، ولكنه في الحقيقة لم ينجح في صناعة الشخصية الشريرة على الإطلاق، بل صنع فيلمًا مسليًّا وشخصية جذابة تميّزت بثراء بصري مذهل.
تقاطُع الفيلم مع الأزياء كان مذهلًا، اختيار الألوان للدلالة على مكنونات الشخصية كان موفّقًا جدًّا، واستحضار أزياء السبعينيات خصوصًا بموضة الـ Punk واستلهام هذا الكمّ الهائل من الأزياء والفساتين من متنها مجهود هائل، بالإضافة إلى وضعها في سياق سردي ثوري، كنوعٍ من التمرُّد على المسموح والمُقولَب يفيد الحكاية نفسها، لأن كرويلا منذ ولادتها تعامَل على أنها شخص منبوذ.
ولكن على الجهة الأخرى، يطوِّع المخرج تلك المشاهِد للترويج لفكرة جموح وثورة زائفَين، تدخل تحت طائلة الكود الأخلاقي الذي ذكرناه سابقًا. يستخدم المخرج موهبة كرويلا في تصميم الأزياء ويحوِّلها إلى صراع بين ما هو تقليدي وما هو حداثي وثوري، ما هو مختلِف وما هو كلاسيكي ومدرسي ومألوف، بيد أن الحداثي والثوري لا يمكن أن يكونا مختلفَين دومًا، والفيلم لا يعطيهما العمق الكافي ولا المساحة الكافية لكي يظهرا كذلك.
يفتقد الفيلم للسياق الذي يسمح للأشياء بأن تكون أقلّ تسطّحًا، في بعض الأشياء كنت أشعر أني أمام شاشة تعرض عرض أزياء، لذلك يمكننا القول إن المخرج استغلَّ تلك النقطة لكي يداعِب مفاتن المؤسسات المجتمعية وليسهّل ترويج الفيلم في المجتمعات الغربية، لكنه لم يأخذ الشيء المرجو من تلك الأزياء، ليتحول الفيلم إلى فرصة ضائعة، وتجربة مسلية يمكن مشاهدتها مع العائلة كفيلم للسهرة لا أكثر ولا أقل.
لكن بالنسبة إلى فيلم من صناعة ديزني، فهو أكثر ظلامية من أي فيلم سبقه تقريبًا، وهذا ملمح هام يدلّ على أن ديزني بدأت العمل بشكل أكثر جدّية في أفلامها، وأصبحت تستهدفُ أكثرَ من فئة.