شهدت الأيام الماضية تحركات دبلوماسية سعودية على أكثر من مسار تشي بتغير واضح في خريطة التحالفات بالمنطقة، إذ بدأت الرياض في فتح قنوات اتصال عالية المستوى مع العديد من دول المنطقة لا سيما التي كانت تعاني من توتر نسبي في العلاقات معها بين الحين والآخر.
فمنذ يناير/كانون الثاني الماضي وحتى اليوم نجحت المملكة في إقامة شبكة علاقات أوثق مع كل من قطر والعراق وسلطنة عمان، وهي الدول التي عُرفت بأنها “احتفظت بمسافة عن السعودية، بسبب الاختلافات بشأن النهج تجاه إيران” بحسب وصف وكالة “بلومبرج” الأمريكية.
وفي المقابل تتجه العلاقات بين السعودية والحليف الإماراتي إلى مزيد من التصعيد إثر اتساع الهوة بينهما في العديد من الملفات السياسية والاقتصادية، وتسخين الأجواء في إطار صراع النفوذ بين القوتين إقليميًا، ما ينذر بعواقب وخيمة على المنطقة جراء تلك المواجهة التي باتت مفتوحة على السيناريوهات كافة.
السيولة السياسية التي تشهدها منطقة الخليج من جانب، وسخونة الأجواء في الشرق الأوسط من جانب آخر، في ظل المستجدات السياسية الحاليّة، الإقليمية والدولية، تذهب في اتجاه زلزال مدو في شكل وملامح التحالفات في المنطقة، فهل تقود الرياض بتحركاتها الأخيرة معركة التغيير تلك؟
ناطحات الرياض تتزين بعلم عُمان
في 11 من يوليو/تموز الحاليّ وصل سلطان عُمان، هيثم بن طارق، إلى السعودية، في أول زيارة يقوم بها زعيم عُماني للمملكة منذ أكثر من عقد من الزمن، فأضيئت ناطحات السحاب في العاصمة الرياض بألوان العلم العماني (الأحمر والأخضر) احتفاءً بتلك الزيارة.
الزيارة التي وصفت بالاستثنائية وذات الدلالات والرسائل المتعددة، في ظل التوتر المستمر بين السلطنة وجارتها الإماراتية، أسفرت عن توقيع حزمة من اتفاقيات التعاون بين البلدين في العديد من المجالات، هذا بجانب افتتاح أول معبر بري يربط بين السعودية والسلطنة، تناغمًا مع توجه مسقط نحو تنويع طرق التجارة الخاصة بها.
وتمثل تلك الزيارة خطوة جيدة نحو بناء مسار جديد للعلاقات بين البلدين التي طالما عانت من ارتفاع درجة حرارتها بين الحين والآخر إثر تباين وجهات النظر حيال العديد من الملفات، أبرزها الموقف من إيران، ولجوء السلطنة لسياسة الحياد في الكثير من القضايا ذات التماس والشأن السعودي، الأمر الذي كان يثير تحفظ المملكة.
استعادة التوازن في العراق
في زيارة هي الأولى له منذ توليه رئاسة الحكومة، حل رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، ضيفًا على الرياض، في 31 من مارس/آذار الماضي، تلبية لدعوة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، استئنافًا العلاقات الدبلوماسية التي عادت في ديسمبر/كانون الأول 2015، بعد 25 عامًا من انقطاعها عقب الغزو العراقي للكويت عام 1990.
توقيت الزيارة أثار الكثير من التساؤلات عن دوافعها ومساعي البلدين بدء صفحة جديدة في العلاقات التي عانت معظم الفترات من التوتر بسبب النفوذ الإيراني في البلد العربي وانعكاساتها على الحضور السعودي هناك، وهو ما عبرت عنه صحيفة “الرياض” السعودية في افتتاحيتها في الثاني من أبريل/نيسان الماضي، حين قالت: “العلاقات السعودية-العراقية تمرّ بأفضل فتراتها؛ كون الرغبة الصادقة القوية من قيادة البلدين لأخذها إلى مجالات أوسع وأرحب بما يحقق المصالح المشتركة للبلدين”.
تتزامن تلك التحركات مع توتير واضح في أجواء العلاقات مع الإمارات وهو ما كشفته العديد من المؤشرات الراهنة التي تشير إلى فصل جديد من التصعيد واقتراب نهاية شهر العسل بين البلدين
ورغم الاتهامات التي تواجه الكاظمي بالوقوع تحت ضغوط الأطراف والمليشيات الولائية لإيران، وعدم قدرته على مواجهتها، والتصدي لمشاريعها التخريبية في البلاد، فإن العاهل السعودي دعاه لزيارة المملكة، الأمر الذي فتح باب التكهنات عن بواعث تلك الخطوة التي تتزامن مع تحركات دبلوماسية إقليمية موازية لها في ذات المسار.
وسبق زيارة رئيس الوزراء العراقي للرياض زيارات أخرى لمسؤولين عراقيين للمملكة خلال الأشهر الأخيرة أبرزها وزير الداخلية العراقي عثمان الغانمي في 11 من فبراير/شباط الماضي، وبعدها بيوم واحد فقط كان وزير الخارجية فؤاد حسين في العاصمة السعودية تلبية لدعوة من نظيره السعودي فيصل بن فرحان.
طي الخلاف مع قطر
في الخامس من يناير/كانون الثاني الماضي، طوت السعودية صفحة الخلاف مع قطر بعد قرابة 3 أعوام ونصف من القطيعة، تخللتها موجات عدة من الشد والجذب، إثر تمسك كل طرف بموقعه من الأزمة، وكان الاستقبال الحافل الذي حظي به أمير قطر، تميم بن حمد آل الثاني من ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، للمشاركة في قمة العُلا الخليجية، إيذانًا بانطلاق مرحلة جديدة من العلاقات.
ظلت الرياض – بتحريض مستمر من أبو ظبي تحديدًا – متمسكة بموقفها الرافض لأي تقارب مع الدوحة رغم إعلان الأخيرة أكثر من مرة استعدادها لفتح باب الحوار على أسس من الاحترام المتبادل والسيادة والاستقلال بعيدًا عن أي شروط مسبقة.
السعودية وبصورة شبه منفردة اتخذت قرارها بإنهاء هذا الخلاف الذي لاقى ترحيبًا قطريًا، في المقابل قوبل بدرجة حماسة أقل من القاهرة والمنامة، ورفض غير معلن من أبو ظبي، التي كشفت العديد من التقارير الإعلامية والسياسية محاولاتها المستميتة لوأد أي محاولات للتصالح وعرقلة أي رغبة سعودية في عودة تماسك البيت الخليجي مرة أخرى.
نهاية شهر العسل مع الإمارات
تتزامن تلك التحركات مع توتر واضح في أجواء العلاقات مع الإمارات وهو ما كشفته العديد من المؤشرات الراهنة التي تشير إلى فصل جديد من التصعيد واقتراب نهاية شهر العسل بين البلدين، ولعل الخلاف داخل “أوبك بلس” أحدث صور هذا الخلاف، إذ عارضت أبو ظبي سياسات الرياض وموسكو فيما يتعلق بتمديد اتفاق إنتاج النفط بصورة ربما تهدد تماسك هذا الكيان وتقوض قوته.
بعض المراقبين يرون أن تمسك الإمارات بموقفها المناوئ لتوجهات معظم أعضاء التحالف النفطي يشكل تحديًا غير متوقع للسعودية واستعراضًا جديدًا للقوة الإماراتية السياسية والعسكرية الصاعدة، التي تجسدت بصورة أكثر وضوحًا في اليمن، حيث التغريد المنفرد على حساب أجندة التحالف بقيادة المملكة.
المنافسة بين البلدين احتدمت مع الخطوات التي اتخذتها الرياض تنفيذًا لرؤية “2020” حيث تنوع مصادر الدخول غير النفطية، فكانت حزمة المشروعات المعلنة التي وصفها البعض باستنساخ المشروعات الإماراتية بهدف سحب البساط من تحت أقدام الإماراتيين، فمشروع مدينة “نيوم” على البحر الأحمر يُذكر بمشروع بناء مدينة “مصدر” في أبو ظبي، كما أن مشروع الجزر السياحية السعودية في البحر الأحمر على غرار مشاريع الجزر الإماراتية في الخليج.
يبدو أن المنطقة مقبلة على حركة تنقلات كبيرة في منظومة التحالفات الإقليمية، ليس بفضل السعودية فحسب، فهناك العديد من التغيرات الطارئة على المشهد بسبب بعض الملفات ربما تقلب الطاولة برمتها
هذا بخلاف المساعي السعودية لتحويل المملكة إلى “مركز طيران عالمي” بتكلفة تصل إلى 147 مليار دولار، وهي الخطة التي قد تُفسر على أنها محاولة لتقويض دبي كأحد أهم مراكز السياحة والسفر في الشرق الأوسط، إذ من المتوقع أن تحصل الرياض على حصة كبيرة من كعكة دبي في أسواق المنطقة.
سبق ذلك إجراءات اتخذها السعوديون لتعزيز نفوذهم الاقتصادي في المنطقة، كالضغط على الشركات متعددة الجنسيات – الموجودة بصورة أكبر في دبي – لنقل مقراتها الإقليمية للرياض، وذلك نظير الكثير من الإغراءات والإعفاءات الضريبية والجمركية.
ثم جاء القرار المفاجئ بتعليق السفر من وإلى الإمارات أوائل الشهر الحاليّ، في ضوء الإجراءات الاحترازية التي تتخذها المملكة لمواجهة وباء كورونا المستجد “كوفيد 19″، ومن بعده تعديل الرياض لقوانين الاستيراد من دول مجلس التعاون الخليجي، واستبعاد المنتجات التي يتم إنتاجها في المناطق الحرة بعمالة أجنبية كاملة من الاتفاق الجمركي لمجلس التعاون الخليجي، ما يمثل ضربة قوية للإمارات التي يعتمد اقتصادها على المناطق الحرة أكثر من أي دولة خليجية أخرى، وهو القرار الذي فُسر بقراءة مختلفة لدى الشارع الإماراتي، معتبرًا أنه يأتي في ضوء سياسة العصا والجزرة المتبعة بين البلدين.
تغير في خريطة التحالفات
رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مجموعة أوراسيا لاستشارات المخاطر السياسية “أيهم كامل”، علق على هذا الحراك بقوله: “ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بات يفكر في الشؤون الإقليمية بشكل مختلف” حسبما نقلت “بلومبيرج” عنه.
وأوضح الخبير الإقليمي أن “ابن سلمان مهتم أكثر ببناء علاقة متعددة الأوجه تتمحور حول دول مجلس التعاون الخليجي التي لا تعتمد فقط على حليف واحد، التي كانت الإمارات العربية المتحدة في السابق ، لكنها تبنى على شبكة أوسع بكثير من التحالفات”.
يلاحظ أن التحركات الإقليمية السعودية تستهدف – بقصد أو دون قصد – الدول التي تتمتع بعلاقات جيدة نسبيًا مع طهران، لا سيما بغداد ومسقط، هذا بخلاف قنوات الاتصال المفتوحة مع الدوحة كذلك، الأمر الذي يتناغم بصورة أو بأخرى مع تحركات أخرى مماثلة، كالتقارب مع نظام بشار الأسد في سوريا، الذي قد يصب في صالح الدولة الإيرانية بحسب خبراء.
إن لم تعكس تلك الجهود رغبة الرياض في تخفيف درجة التوتر مع الجانب الإيراني في ضوء سياسة التبريد المتبعة من الطرفين، فإنها على الأقل تشير إلى ميل نحو عدم التصعيد والإبقاء على شعرة معاوية في ظل مساعي التقارب بين البلدين، والتحديات الإقليمية والدولية التي تفرض نفسها على الجميع.
وفي الأخير، يبدو أن المنطقة مقبلة على حركة تنقلات كبيرة في منظومة التحالفات الإقليمية، ليس بفضل السعودية فحسب، فهناك العديد من التغيرات الطارئة على المشهد بسبب بعض الملفات ربما تقلب الطاولة برمتها، وعلى رأسها ملف سد النهضة، الذي يتوقع أن يكون له دور محوري في إعادة تشكيل الخريطة بالكامل، وهذا ما يمكن الحديث عنه تفصيلًا في مادة قادمة.