كشف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطته للانسحاب العسكري من مالي بعد سنوات فشل خلالها الجيش الفرنسي في الوصول لأهدافه العلنية ووقف تمدد المسلحين في هذا البلد الإفريقي الذي يعاني من أزمات عديدة.
انسحاب من أرض المعركة من شأنه أن يحدث فراغًا في مالي على أحد الأطراف أن يملأه، وتأمل باريس أن يكون هذا الطرف هو الجزائر التي تمتلك أكبر جيش في المنطقة، فهل هناك خطة لتوريط الجزائر في المستنقع المالي أم إنها مجرد حسابات سياسية لماكرون قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة؟
خريطة الانسحاب
بعد أكثر من ثماني سنوات على تدخل فرنسا في مالي – المستعمرة الفرنسية السابقة – قال ماكرون إن بلاده ستباشر بإغلاق قواعدها في شمال مالي خلال الأسابيع القادمة وسيستكمل بحلول مطلع العام 2022، وذلك في إطار خفض العديد من القوات الفرنسية التي تقاتل الجماعات المسلحة في منطقة الساحل.
وأوضح ماكرون، خلال مؤتمر صحافي في أعقاب محادثات قمة مع قادة بلدان مجموعة دول الساحل الخمسة، أن إغلاق القواعد في كيدال وتيساليت وتمبكتو سيستكمل بحلول مطلع سنة 2022، على أن تبدأ فرنسا بحلول نهاية هذه السنة سحب قواتها المنتشرة في أقصى شمال مالي وتركيز جهودها جنوبًا.
يضع الانسحاب الفرنسي من القواعد العسكرية في أكثر البؤر سخونة من الناحية الأمنية، الجزائر أمام امتحان صعب
هذا لا يعني أن فرنسا ستنسحب كليًا من مالي إذ إنها تخطط لتقليص عدد قواتها من 5 آلاف و100 عنصر إلى نحو 2500 أو 3 آلاف عنصر، على أن تكون مهمة هؤلاء الجنود الرئيسية وفق ماكرون”تحييد وتفكيك القيادة العليا للتنظيمين العدوين”، فضلًا عن دعم قوة جيوش المنطقة.
بذلك ستتحول قوة بارخان لتصبح جزءًا من القوة الدولية “تاكوبا” التي سيشكل مئات من العسكريين الفرنسيين عمودها الفقري، ويعود التدخل الفرنسي العسكري في مالي بداية يناير/كانون الثاني 2013، حينها بدأت فرنسا أكبر عملية عسكرية لها في الخارج منذ عقود عدة.
وشرعنت باريس تدخلها آنذاك، بطلب الحكومة المالية استعادة سلطتها في منطقة شبه صحراوية مترامية، كما اتكأت على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2085 الصادر في 20 من ديسمبر/كانون الأول 2012، الذي يسمح بإنشاء قوة دولية لدعم مالي في حربها لاستعادة الشمال، هذا فضلًا عن مبررات أخرى من قبيل منع قيام كيان إرهابي في المنطقة التي تمتد عبر إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
توريط الجيش الجزائري
تأمل فرنسا في جر الجزائر إلى مالي، بعد سنوات من الامتناع عن الاندفاع إلى أي عمل عسكري في المنطقة، ذلك أن الجزائر كانت لسنوات تغلب دعم الحكومات والجيوش وأجهزة الأمن في الدول الجارة، ومساعدتها من أجل حماية أراضيها وفرض الأمن، على اللجوء إلى التدخل العسكري كحل لمواجهة المشاكل الأمنية التي تعاني منها دول المنطقة.
سبق أن تزعمت الجزائر جهودًا دبلوماسية كبيرة في مالي للوصول إلى حل للأزمة هناك بين الجماعات المتنازعة في الشمال وحكومة مالي في الجنوب، وإعادة الوحدة الترابية بقيادة العاصمة باماكو عكس فرنسا التي ترى أن الحل العسكري هو الأمثل لحل الأزمات.
وتراهن فرنسا على الجزائر للمسك بزمام الأمور في مالي ومنطقة الساحل ككل، في ظل ضعف جيوش المنطقة وعدم قدرتهم على فرض الأمن والسلام هناك، وتستند باريس في ذلك إلى تصريح الرئيس عبد المجيد تبون الذي قال في مقابلة تليفزيونية إن بلاده لن تسمح أبدًا بأن يصبح شمال مالي ملاذًا للإرهابيين ولن تسمح بتقسيم البلاد. لحل المشكلة في شمال مالي، يجب إعادة بسط سلطات الدولة هناك”.
وأضاف تبون حينها “الدستور الجزائري يسمح الآن بهذا النوع من التدخل، غير أن الحل لا يكمن هنا.. من خلال اتفاق الجزائر”، وتابع “نحن هنا لمساعدة باماكو، وهو ما نقوم به بالفعل عبر تدريب الجنود الماليين”.
يسعى ماكرون للخروج من المأزق المالي قبيل الانتخابات، عله يستطيع إقناع الفرنسيين بالتصويت له لفترة رئاسية ثانية
يضع الانسحاب الفرنسي من قواعدها العسكرية في أكثر البؤر سخونة من الناحية الأمنية، الجزائر أمام امتحان صعب، فهي تخشى تمدد الجماعات المسلحة نحو حدودها الجنوبية خاصة أن العديد من الجماعات تنشط هناك وغالبًا ما استهدفت الجزائر.
وسبق أن تم اختطاف دبلوماسيين جزائريين في مدينة غاو شمالي مالي في 2012، كما تم استهداف مصنع للغاز في تيغنتورين، جنوب شرقي الجزائر انطلاقًا من شمال مالي في 2013، وتخشى الجزائر تكرر هذه الأحداث، مع ذلك يصعب التكهن بتحركات الجزائر المقبلة في هذا الملف.
استعدادًا للانتخابات المقبلة
إلى جانب توريط الجزائر في المستنقع المالي، يُفهم من قرار ماكرون الانسحاب من منطقة الساحل، وجود إرادة لديه لتحسين صورته في الداخل الفرنسي قبيل الانتخابات الرئاسية القادمة، خاصة أن أغلبية الفرنسيين ضد مواصلة العملية العسكرية في مالي.
وفي آخر سبر آراء في الغرض، نشر في يناير/كانون الثاني الماضي، تبين أن 51% من الفرنسيين يعارضون التدخل العسكري في الساحل، بعدما كانت نسبة المؤيدين 73% عند إطلاق عملية “سرفال” سنة 2013.
ورغم مرور أكثر من 8 سنوات على بدء العمليات العسكرية في مالي، وإنفاق فرنسا نحو 8 مليارات يورو، لم تتمكن باريس من تحقيق أهدافها، بل خسرت عشرات الجنود وزادت قوة التنظيمات المسلحة التي تدعي حربها في منطقة الساحل.
نتيجة ذلك، يسعى ماكرون للخروج من المأزق المالي قبيل الانتخابات، عله يستطيع إقناع الفرنسيين بالتصويت له لفترة رئاسية ثانية، رغم أنه أثبت بعد مرور 4 سنوات على توليه الحكم، أنه أصبح عبئًا على الفرنسيين.
ويعيب العديد من الفرنسيين على ماكرون تضييقه على الحريات العامة في البلاد، بما يتناقض مع مبادئ العلمانية التي يدعي الرئيس الفرنسي الدفاع عنها، ومساهمة سياساته الاقتصادية في انكماش الاقتصاد الفرنسي، وفشله اجتماعيا.
نتيجة ذلك، خسر ماكرون وحزبه في الانتخابات المحلية السابقة وانتخابات الأقاليم والمناطق الأخيرة، لذلك يعمل ماكرون جاهدًا على اتخاذ قرارات تخدم الفرنسيين وتظهر في ثوب الحريص على مصلحة فرنسا العليا.