يعد الشيخ محمود علي البنا أحد أعلام التلاوة في مصر والعالم العربي، فعلى مدار أكثر من 40 عامًا تنقل خلالها بين أروقة الكرة الأرضية مرتلًا ومجودًا لكتاب الله، استطاع أن يحافظ على مكانته الكبيرة في قلوب محبيه حتى اليوم، رغم رحيله عن الحياة منذ أكثر من 35 عامًا.
وظل البنا الذي غيّبه الموت في العشرين من يوليو/تموز 1985 أيقونة التلاوة في المحروسة لسنوات طويلة، إذ حباه الله بعذوبة الصوت وإتقان التلاوة وجمال الأداء، فلطالما أجهش صوته أعين مستمعيه بالبكاء وزلزل أفئدتهم بالخشية وقادهم في رحلات مكوكية نحو نقاء الروح وسلامة النفس.
لم يكن الشيخ الراحل رقمًا عابرًا في قائمة القرّاء الطويلة التي تتميز بها مصر المحروسة، لكنه كان علمًا، صاحب حضور مؤثر، متمكنًا من مقامات التلاوة، راسمًا بها أجمل اللوحات وأعذب الألحان التي تنزل على الأسماع بردًا وسلامًا، وعلى الأفئدة سكنًا وسكينة.
من القناطر للقاهرة
أتم الطفل المولود بإحدى قرى مركز شبين القناطر بمحافظة الغربية في 17 من ديسمبر/كانون الأول عام 1926 حفظ القرآن الكريم وهو في سن ال 11 من عمره، على أيدي شيخ كتّاب القرية ويدعى موسى المنطاش، لينتقل بعدها إلى تلقي العلوم الشرعية في الجامع الأحمدي بمدينة طنطا.
وهناك أتقن محمود القراءات السبعة على يد الإمام – ذائع الصيت وقتها – إبراهيم بن سلام المالكي، الذي لفت نظره براعة الشيخ الصغير وقدرته الفائقة على الحفظ والتلقي، حتى بات أحد أبرز تلامذته، متنبئًا له بمستقبل بارع في التلاوة والتجويد، ليس داخل مصر وحدها.
اعتبره كبار العلماء حينها معجزة ربانية بكل المقاييس، تستوجب الاهتمام والرعاية، وتنمية مهاراتها وتعزيز أدواتها المستخدمة، ولا بد لها من الانتقال إلى العاصمة القاهرة، حيث مصنع النجوم هناك، كما ذكر مدير إدارة التخطيط الديني بالإذاعة المصرية، سعد عبد اللطيف،
وفي عام 1945 انطلق البنا إلى القاهرة، حيث بدأ في تلقي علوم المقامات والموسيقى على يد الشيخ درويش الحريرى، ونتيجة لما بدا منه من براعة في الأداء، اختير قارئ لجمعية الشبان المسلمين عام 1947، وكان يفتتح كل الاحتفالات التي تقيمها الجمعية.
الإذاعة.. الباب الكبير
في بدايات عام 1948 كان البنا يقرأ في إحدى حفلات الجمعية، وبالمصادفة كان من بين الحضور علي ماهر باشا والأمير عبد الكريم الخطابي وبعض كبار رجالات الدولة وقتها، أبدع القارئ الشاب يومها لدرجة أنه أثار إعجاب الحاضرين عن بكرة أبيهم.
وعلى الفور طلب منه أعيان الدولة – المشاركون في الحفل – الالتحاق بالإذاعة المصرية، ليدخل محمود عالم الشهرة من أوسع الأبواب، وبنهاية العام كانت أول قراءة له على الهواء، آيات من سورة “هود” وكانت إيذانًا بميلاد علم جديد من أعلام القراءة في مصر.
وعلى مدار 40 عامًا كاملة أثرى البنا الإذاعة المصرية بمكتبة هائلة من التسجيلات، بجانب المصحف المرتل الذي سجله كاملًا عام 1967، كما كان له حضوره القوي في الحفلات والمناسبات الرسمية للدولة، لما كان يتمتع به من إتقان كبير للتلاوة وأداء رائع سلب معه الأفئدة والأسماع.
ذاع صيت القارئ المصري في شتى دول العالم التي بدورها أرسلت إليه عشرات الدعوات لإحياء حفلات قرآنية بها، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، حيث قرأ البنا في الحرمين الشريفين والمسجد النبوي، هذا بجانب قراءته داخل الحرم القدسي.
كان يحلم بتدشين كيان نقابي يجمع قرّاء المحروسة من مختلف المحافظات، تحت مظلة مجتمعية شاملة، وبالفعل حمل على عاتقه هذا الحلم وبعض كبار المشايخ حينها، فكان أبرز مؤسسي تلك النقابة التي أختير نائب لنقيبها عام 1984، تقديرًا لدوره الكبير في إخراج هذا الحلم للنور.
سفير القرآن الكريم
وٌصف البنا بأنه “سفير القرآن الكريم في العالم” كما جاء على لسان المتحدث باسم نقابة القراء ومحفظي القرآن الكريم، محمد الساعاتي الذي أشار إلى أن النابغة المصري “ظل يجوب بقاع الدنيا على مدى ما يقرب من أربعين عامًا متتالية ولم يترك قارة إلا وذهب إليها خاصة في شهر رمضان المبارك فكان يشارك الجاليات المسلمة بسماع صوته العذب الفياض”.
وجنيًا لهذا الحصاد المثمر وقع اختيار الأزهر الشريف عليه لتمثيله في الكثير من المؤتمرات في مختلف دول العالم، كما أرسلته وزارة الأوقاف المصرية كـ”محكم وقاض قرأني” في المسابقات العالمية، هذا بجانب مشاركته للملوك والأمراء والرؤساء في عشرات الحفلات.
ومن كراماته كما ذكرها الساعاتي في حواره مع صحيفة “الوطن” المصرية، طلبه توديع الشيخ محمد متولي الشعراوي وهو على فراش الموت، فتنبأ بأنه عاد من البحر الأحمر رغم أنه لا أحد يعلم بموعد عودته، وبالفعل حين ذهبوا للشعراوي وجدوه عائدًا للتو من سفره كما تنبأ البنا.
هذا بجانب تنبؤه بوفاته : “قبل الوفاة بأيام استدعى ابنه أحمد وطلب منه إحضار ورقة وقلم وقال له: أكتب ما أمليه عليك.. وأملى عليه نعيه كفقيد للإذاعات العربية والإسلامية، عن عمر يناهز الستين عامًا. فقاطعه نجله أحمد مداعبًا، ولماذا لا نكتبها ثمانين عامًا؟ فقال له الشيخ البنا: لا يا بني لقد توقف العمر وقرب الأجل وانتهى، كذلك قام بتوزيع مملتكاته على أبنائه وطلب منهم أن يضعوا معه شريط قرآن ليصاحبه في جنازته ويؤنس وحدته في قبره فلم يسع أحد أن يرد عليه”.. بحسب رواية المتحدث باسم نقابة القرًاء.
وحصل البنا على العديد من الجوائز والأوسمة، داخل مصر وخارجها، منها الهدية التي منحها له الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام 1967، والميدالية التذكارية التي حصل عليها من القوات الجوية في عيدها الخمسين عام 1982، بجانب درع الإذاعة في الاحتفال بعيدها الذهبى عام 1984.
تصف صوته أستاذة الموسيقى بجامعة حلوان هدى طعيمة، قائلة “صوت البنا تميز بالاتزان والخشوع وعدم الشطط، وكان يجيد اختيار البدايات. يبدأ من القرار ثم يصعد ويتجول ولا بد أن يرجع للمقام الأصلي قبل أن يقف”، هذا بجانب إجادته المطلقة للتعبير عن معنى كل آية، فكان يميز بين الترغيب والترهيب ويختار النغمة المناسبة لكل مقام.
وفي العشرين من يوليو/تموز عام 1985 غادر البنا الحياة، تاركًا خلفه ثروة هائلة من التسجيلات النادرة، ليدفن – حسب وصيته – في المقبرة التي بناها بنفسه بجوار المركز الإسلامي الذي أقامه بقريته شبرا باص، أما جنازته فقد شيعت من مسجد الإمام الحسين بمشاركة الآلاف من محبيه ورواده.
لم يتوقف تكريم سفير القرآن المصري عند وفاته، بل كرمته الدولة حين منحته وسام العلوم والفنون عام 1990، على هامش الاحتفال بليلة القدر، وقد تسلم الوسام نجله الأكبر، شفيق، فيما أطلقت محافظة الغربية اسمه على أحد الشوارع الرئيسية بجوار المسجد الأحمدي (الذي تلقى فيه العلم الشرعي) في مدينة طنطا.