في السنوات الخمسة التي تلت محاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت في تركيا منتصف يوليو/تموز 2016، التي وقف خلالها الأتراك صفًا واحدًا في وجه الانقلابيين دفاعًا عن الديمقراطية، طرأت العديد من التغيرات طالت مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية، وصولًا لسياسة تركيا الخارجية وتعزيز جهازها الاستخباراتي أيضًا، فأصبحت تركيا بعدها أكثر مناعةً وصلابةً في مواجهة الأخطار التي تستهدف سيادتها وأمنها القومي.
وعلى مدار أقل من قرن على تأسيس الجمهورية التركية بشكلها الحاليّ على يد مصطفى كمال أتاتورك ورفاقه بالسلاح في 29 من أكتوبر/تشرين الأول 1923، شهدت تركيا وشعبها العديد من الانقلابات العسكرية التي عصفت بالديمقراطية وذهبت بالبلاد إلى نفق مظلم بعيدًا عن الأسس التي بُنيت عليها الجمهورية الحديثة، بدءًا من انقلاب عام 1960، مرورًا بانقلاب عام 1980 وصولًا إلى محاولة الانقلاب الفاشلة يوم 15 من يوليو/تموز من عام 2016، وانقلابات أخرى تخللت تلك المرحلة الزمنية نفسها.
وعلى غير العادة، ففي محاولة الانقلاب الأخيرة التي قام بها تنظيم غولن الإرهابي، دافع الشعب التركي بجميع أطيافه الحزبية والعرقية والدينية باستماتة عن مبادئ الديمقراطية، وقاوموا الدبابات بأجسادهم العارية ليلة 15 من يوليو/تموز 2016، حفاظًا على تركيا ونهضتها، وقدموا 265 شهيدًا في سبيل مقاومة الانقلابيين وإحباط مخططاتهم.
تم وضع المؤسسة العسكرية تحت رقابة مجلس الدولة أسوة ببقية مؤسسات الدولة التنفيذية
سنوات خمسة فقط كانت كفيلة بالخروج بتركيا أكثر قوةً وصلابةً وأوسع نفوذًا، منح خلالها الشعب التركي حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان جميع الصلاحيات التي تخولهم التخلص من جميع العوائق التي كانت سببًا في كبح جماح النهوض بتركيا عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، فضلًا عن الحد من نفوذها إقليميًا ودوليًا، ومن أهمها تطهير الجيش وإعادة هيكلته والانتقال إلى النظام الرئاسي لحكم البلاد وانتهاج سياسة خارجية جديدة تضع مصلحة أنقرة فوق أي شيء آخر، بالإضافة إلى تعزيز جهاز الاستخبارات التركي وتقويته.
إعادة هيكلة الجيش وتطهيره
حلت المؤسسة العسكرية في المرتبة الأولى الأكثر تضررًا من بين المؤسسات الحكومية الأخرى بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، إلا أنها في السنوات اللاحقة شهدت أعمال تطهير كبيرة وواسعة من أجل استئصال جميع العناصر المنتمية لمنظمة غولن الإرهابية.
وأوكلت مهمة التطهير إلى وزارة الداخلية ووكالة الاستخبارات الوطنية، فطالت قيادات كبيرة من مختلف فروع الجيش التركي، البرية والجوية والبحرية، فضلًا عن قيادات داخل جهازي الأمن والشرطة، وبحسب تصريح لوزير الدفاع التركي خولصي أكار، فقد أُقيل أكثر من 20 ألف من منتسبي القوات المسلحة التركية، معظمهم من الضباط والرتب العليا.
وبغية الحد من نفوذ الجيش التركي ومنع تدخله في مجريات السياسة الداخلية والخارجية للبلاد، بالشكل الذي عهدته السنوات التي تلت تأسيس الجمهورية التركية الحديثة، تم وضع المؤسسة العسكرية تحت رقابة مجلس الدولة أسوة ببقية مؤسسات الدولة التنفيذية، وألغي القانون العسكري الذي استخدمه الجيش سابقًا من أجل فرض الحكم العسكري على البلاد، فضلًا عن إلغاء المقعدين اللذين كانا مخصصين للجيش في المحكمة الدستورية التي كانت تضم 17 مقعدًا، كما وتقرر محاكمة العسكريين فقط أمام محاكم عسكرية.
وعقب عملية التطهير وإعادة الهيكلة التي شهدتها المؤسسات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية، صار الجيش التركي أكثر ديناميكية وفعالية، وأصبح بمقدرته المجابهة على أكثر من ساحة صراع إقليمية ودولية من أجل إعلاء السيادة التركية والحفاظ على أمن البلاد القومي.
وشهدت السنوات الخمسة الأخيرة انطلاق عمليات عسكرية خارج حدود تركيا، في سوريا وليبيا وشمال العراق ومؤخرًا في أذربيجان، بالإضافة إلى لعبه دورًا حاسمًا في حماية حقوق تركيا في البحث والتنقيب عن مصادر الطاقة الطبيعية شرقي البحر الأبيض المتوسط.
وكالة استخبارات أكثر قوة وفاعلية
في السنوات الأخيرة، حظيت وكالة الاستخبارات الوطنية (MİT) بالعديد من التغيرات التي طالت هيكليتها الإدارية والعملياتية، حالها كحال المؤسسات الأمنية والعسكرية، تحولت خلالها لتصبح ذراع تركيا الضاربة في مواجهة الحملات الاستخباراتية الأجنبية التي تستهدف تركيا داخليًا وخارجيًا، ونجحت في إحباط محاولات أعتى أجهزة الاستخبارات العالمية مثل الموساد الإسرائيلي ووكالاتي الاستخبارات الأمريكية والروسية، التي حاولت العبث على الأراضي التركية في فترة عدم الاستقرار التي خيمت على المشهد السياسي بعد أحداث “غيزي بارك” عام 2013.
نجحت الوكالة باجتثاث معظم أعضاء منظمة غولن الإرهابية من مؤسسات الدولة المختلفة، وساعدت بفاعلية في عملية التطهير التي شهدتها المؤسسة الأمنية والعسكرية داخل حدود تركيا
وفي السنوات التي أعقبت محاولة الانقلاب الفاشلة منتصف عام 2016، نجحت وكالة الاستخبارات الوطنية في ترؤس المشهد الأمني محليًا ودوليًا، خصوصًا بعد نجاحها في العديد من العمليات الاستخباراتية الدقيقة والحساسة داخل تركيا وخارجها ضد منظمة غولن وتنظيمي PKK وداعش الإرهابيين، فضلًا عن تحولها بشكل فعلي إلى كابوس يلاحق جميع الأشخاص الذين كان لهم دور في محاولة انقلاب 2016 من منتسبي “جماعة الخدمة” أو “فيتو” نسبة إلى فتح الله غولن زعيم ما يعرف اليوم بمنظمة غولن الإرهابية.
ونجحت الوكالة في اجتثاث معظم أعضاء منظمة غولن الإرهابية من مؤسسات الدولة المختلفة، وساعدت بفاعلية في عملية التطهير التي شهدتها المؤسسة الأمنية والعسكرية داخل حدود تركيا، إلى جانب المشاركة في عمليات دقيقة وحساسة من أجل جلب قيادات ومنتسبي التنظيم الفارين إلى تركيا، وتقديم أكثر من 100 شخص للعدالة جلبتهم من أكثر من 18 بلدًا، وأثبتت بجدارة أنه لا يوجد مكان آمن في العالم لقيادات منظمة غولن الإرهابية وغيرها من المنظمات الإرهابية الأخرى، التي يأتي على رأسها تنظيم (PKK) الإرهابي وداعش.
تغير النظام السياسي
شهد النظام السياسي هو الآخر تغيرًا جذريًا بعد أقل من عام على محاولة الانقلاب الفاشلة، ففي 16 من أبريل/نيسان 2017 أُجري استفتاء على تعديلات دستورية شملت 18 بندًا، كان أبرزها الانتقال من النظام البرلماني الذي دام العمل به قرابة 9 عقود إلى العمل بالنظام الرئاسي، إذ وافق الناخبون الأتراك على التحول إلى نظام الحكم الرئاسي الذي يكون لرئيس الدولة دور رئيسي على رأس السلطة التنفيذية التي تقود البلاد، بعكس الدور الشرفي الذي كان سابقًا.
ورأت المعارضة وقتها أن أردوغان يستغل مناخ الخوف العام بعد محاولة الانقلاب، من أجل تمرير التعديلات الدستورية، فضلًا عن قناعتها بأن التحول إلى النظام الرئاسي ما هو إلا تحول إلى نظام حكم الرجل الواحد، فقد مُنح أردوغان صلاحيات واسعة دون وجود أي ضوابط حقيقية لمساءلته والحد من ممارساته غير الديمقراطية.
وعقب التعديلات الدستورية، عقدت الانتخابات الرئاسية في 24 من يونيو/حزيران 2018، وفاز الرئيس رجب طيب أردوغان بولاية ثانية، بعد تلك التي فاز بها عام 2014، التي اعتبرت المرة الأولى التي ينتخب الشعب التركي رئيسه بشكل مباشر، ومنحت التعديلات الدستورية السلطة التنفيذية لرئيس الجمهورية، وخولته تعيين الوزراء بشكل مباشر، فضلًا عن إعطائه صلاحية إدارة البلاد من خلال قرارات رئاسية دون الحاجة للرجوع إلى البرلمان وخسار الوقت في العملية البيروقراطية.
وبعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، أصبح أردوغان أقوى زعيم سياسي يحكم تركيا لفترة متتالية تجاوزت الـ18 عامًا، 11 عامًا قضاها في رئاسة الوزراء، ورئيسًا للجمهورية منذ العام 2014، إذ هيمن على المشهد السياسي للبلاد بشكل لم تشهده تركيا سابقًا منذ مؤسس الجمهورية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك.
سياسة خارجية أكثر نفوذًا
شملت التعديلات والتغيرات السياسة الخارجية لتركيا، فقد حظيت هي الأخرى بتغيرات جذرية وإعادة هيكلة لعلاقاتها مع القوى العظمى، وإلى جانب قوتها الدبلوماسية التي عملت بها لفترة طويلة، وظفت تركيا ديناميكية وفاعلية جيشها وجهاز استخباراتها وصناعاتها الدفاعية الحديثة والمتطورة أفضل توظيف في الصراعات الإقليمية والدولية بالشكل الذي يحقق مصلحة أنقرة العظمى، عبر توسعة مناطق نفوذها وسيطرتها.
وخلال الخمس سنوات التي أعقبت محاولة الانقلاب الفاشلة، أصبحت سياسة تركيا الخارجية أكثر انفتاحًا على الفرص الجيوسياسية، ونجحت في تعزيز نفوذها كقوة فاعلة على الساحة الدولية، وعلى الرغم من تعرضها لعقوبات غربية من الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي للإضرار باقتصادها وصناعاتها الدفاعية، فضلًا عن تهديدات بزيادة حدة العقوبات، فقد حافظت على علاقاتها بالاتحاد الأوروبي وأمريكا بالحد الأدنى دون انقطاع، ونجحت في بناء علاقات مثمرة اقتصاديًا وسياسيًا مع روسيا والصين، وشاركت بمشاريع تنموية كبيرة على طول طريق الحرير الصيني الواعد.
ورفضًا للعمل تحت مظلة الوصاية الأمريكية والأوروبية، وبعد رفض الإدارات الأمريكية المتعاقبة بيع منظومة الدفاع الجوي الأمريكية من طراز “باتريوت”، اشترت تركيا منظومة الدفاع الجوي الروسية المتطورة “إس 400” على الرغم من تهديدات حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وقامت بمناورة سياسية بشكل يخالف كل التوقعات في ليبيا، تمثلت بتوقيع اتفاقيتي مع الحكومة الليبية الشرعية أواخر عام 2019، إحداهما بحرية والأخرى أمنيّة دفاعية، كانت كفيلة بتغيير قواعد اللعبة شرقي المتوسط لصالح تركيا، فضلًا عن لعبها لدور محوري في قطر بعد محاولات حصارها من السعودية ودول خليجية أخرى، مرورًا بتدخلها الذي حسم الصراع لصالح أذربيجان عام 2020، وصولًا لبدئها مفاوضات من أجل تطبيع العلاقات مع مصر قد تخلص بتوقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية على غرار تلك الموقعة مع ليبيا.