ترجمة حفصة جودة
مرت ثلاثة عقود منذ أن جلس القادة الإسرائيليون لأول مرة مع الفلسطينيين في منتدى تفاوضي عام في مدريد، من السهل نسيان أن مفهوم حل الدولتين الذي يعد اليوم قديمًا وغير واقعي، لم يكن في الأجندة الدولية في ذلك الوقت.
في مؤتمر 1991 كان الفلسطينيون مستعدين لقبول بعض أشكال الحكم الذاتي المحدود في الضفة الغربية وغزة، حتى إنهم وافقوا على استرضاء “إسرائيل” بالقدوم إلى المؤتمر كجزء من الوفد الأردني، لقد تغير الكثير منذ هذه الأيام.
كان المهندس الرئيسي لمؤتمر مدريد جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي آنذاك. في سيرة ذاتية شاملة ومدروسة “الرجل الذي حكم واشنطن”، يكشف بيتر بيكر وسوزان جلاسر – فريق صحفي مكون من زوجين يتمتعان بخبرة واسعة في واشنطن – تفاصيلًا مذهلةً عن المناورات التي أدت إلى المؤتمر في أثناء رئاسة جورج بوش الأب، أمضى الزوجان ساعات عديدة في لقاء بيكر ومسؤولين أمريكيين وفلسطينيين وإسرائيليين بالإضافة إلى مراجعة مذكرات ودفتر يوميات بيكر.
كان بيكر وبوش آخر ممثلي الواقعية في السياسة الخارجية الأمريكية قبل أن يستولي المحافظون الجدد على الحزب الجمهوري، ويستولي أتباع حقوق الإنسان الإيدولوجيين على الحزب الديمقراطي، وهكذا لم يكونا خائفين من الاختلاف علنًا مع قادة “إسرائيل” أو حتى استخدام رفض المساعدة كطريقة للضغط.
علاقة الولايات المتحدة الأمريكية مع “إسرائيل” التي كانت تحت سلطة بيكر وبوش أكثر إثارة للجدل عما قبلهم أو بعد ذلك
يغطي الكتاب قضايا أخرى مهمة في الشرق الأوسط من بينها حرب الخليج الأولى وقرار إدارة بوش بعد تحرير الكويت بعدم الاستمرار للإطاحة بصدام حسين، يذكر المؤلفان – دون نقد فهما معجبان ببيكر – أن بوش حث العراقيين على الثورة ضد صدام حسين، لكن كلماته لم يتبعها أي فعل مثل استخدام القوة الجوية لمنع هذا الديكتاتور من قصف المتمردين الشيعة.
يغطي الكتاب أيضًا سقوط الشيوعية في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية واتحاد ألمانيا بالإضافة إلى دور بيكر في السياسة الداخلية كرئيس موظفي البيت الأبيض في أثناء حكم رونالد ريجان.
لكن في صميم صفحات الكتاب عن الشرق الأوسط نجد علاقة الولايات المتحدة الأمريكية مع “إسرائيل” التي كانت تحت سلطة بيكر وبوش أكثر إثارة للجدل عما قبلهم أو بعد ذلك.
إبعاد نتنياهو
كان بيكر صارمًا للغاية مع بنيامين نتنياهو بطريقة لم تجرؤ عليها إدارة كلينتون أو أوباما، أثار نتنياهو – الذي كان نائب وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك – غضب وزير الخارجية الأمريكي بادعائه أن الولايات المتحدة كانت ساذجة في تعاملها مع الفلسطينيين.
قال نتنياهو في لقائه مع الصحافة: “من المدهش أن قوة عظمى مثل الولايات المتحدة التي من المفترض أن تكون رمزًا للعدل السياسي والصدق الدولي، تبني سياستها على أساس من التحريف والأكاذيب”.
أصدر بيكر الغاضب أوامره لموظفيه بأن نتنياهو ممنوع من دخول الخارجية الأمريكية، عندما توسل دينيس روس – مساعد بيكر – إليه بأن هذه عقوبة قاسية ابتسم بيكر وقال لا، وفي النهاية خفف الحكم وسمح لنتنياهو بالقدوم ومقابلة صغار الموظفين لكنه رفض مقابلته شخصيًا طوال فترة عمله في المكتب.
كان بوش وبيكر قلقين من استخدام المال في بناء مستوطنات بالضفة الغربية وغزة، لذا أقنع بيكر بوش بتأجيل ضمانات القرض
كان برنامج بناء المستوطنات الإسرائيلي في الأراضي المحتلة مصدر دائم لإثارة غضب بيكر وبوش، عندما أخبر رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق شامير آنذاك بوش في أثناء زيارة للبيت الأبيض في أوائل عام 1989 بأنه لا يجب أن تمثل المستوطنات تلك المشكلة، اعتقد الرئيس بشكل خاطئ أن هذا التزام إسرائيلي بوقف البناء.
عند الإعلان عن المزيد من المستوطنات بعد أسبوعين، شعر بوش أن شامير كذب عليه وقال إنه لن يسامحه أبدًا، لذا لم يكن مفاجئًا أن تظهر القضية مرة أخرى بعد عامين عشية مؤتمر مدريد.
كان شامير يطلب من الولايات المتحدة ضمان قروض سكنية بقيمة 10 مليارات دولار من أجل موجة جديدة من الهجرة اليهودية القادمة من الاتحاد السوفيتي، كان بوش وبيكر قلقين من استخدام المال في بناء مستوطنات بالضفة الغربية وغزة، لذا أقنع بيكر بوش بتأجيل ضمانات القرض.
ضغط أيباك
في نذير شؤم بالضغوط التي ستكون مصدر إزعاج وبلاء للرؤساء الأمريكيين اللاحقين، كان بيكر وبوش مستهدفين بشكل منتظم من لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية “أيباك” التي تعد أكبر جماعة مؤيدة لـ”إسرائيل” وأصدقائها في الكونغرس، وقُدم اقتراح بتهمة جديدة وهي “معاداة السامية”.
في مايو/أيار 1989 قال بيكر لمؤتمر أيباك: “بالنسبة لـ”إسرائيل” فالآن هو الوقت المناسب للتخلي – مرة واحدة وللأبد – عن الرؤية غير الواقعية لـ”إسرائيل” الكبرى، والتوقف عن ضم الأراضي ووقف النشاط الاستيطاني والسماح بإعادة فتح المدارس والتواصل مع الفلسطينيين كجيران يستحقون حقوقًا سياسية”.
هنأ بوش بيكر على الخطاب واصفًا إياه بأنه صريح وقوي ونزيه، لكن أعضاء مجلس الشيوخ من كلا الحزبين أدانوا الخطاب، فقد شعروا أنه تحول ملحوظ وعميق عن احتضان ريجان الدافئ لـ”إسرائيل”.
قاوم بوش وبعد عدة أشهر طالب بانتهاء بناء المستوطنات، ليس فقط في الضفة الغربية لكن في القدس الشرقية كذلك، وهي أول مرة يشير فيها رئيس أمريكي إلى المنازل داخل المدينة كمستوطنات.
أطيح بالليكود وجاء إسحاق رابين زعيم حزب العمال الذي كان أكثر انفتاحًا للتفاوض على اتفاقية “الأرض مقابل السلام” مع الفلسطينيين، وانتصر بيكر
تعرض بيكر لهجمات مستمرة من اللوبي الموالي لـ”إسرائيل”، ففي مارس/آذار 1992 مع بدء بوش حملة إعادة انتخابه، نشرت صحيفة نيويورك بوست عنوانًا في الصفحة الأولى يقول: “إهانة بيكر المكونة من 4 حروف: الخارجية الأمريكية تمزق اليهود في اجتماع بالبيت الأبيض”، وفي المقال المرافق للعنوان كتب عمدة مدينة نيويورك السابق إد كوخ أن بيكر ردّ على انتقادات منهجية الولايات المتحدة الصارمة مع “إسرائيل” بقوله “سحقًا لهم، هؤلاء ليسوا من انتخبونا”، أضافت الصحيفة كلمة اليهود بين قوسين بعد كلمة هم، وأصبح الاقتباس يتكرر كثيرًا بين منتقدي بيكر.
أنكر البيت الأبيض ووزارة الخارجية أن يكون بيكر قد قال شيئًا مثل ذلك، لكن أشكالًا مختلفةً من التشويه استمرت في الظهور وجميعها تقول إن بيكر معادٍ للسامية، اعتذر جاك كيمب رجل الكونغرس الموالي بشدة لـ”إسرائيل” الذي سمع هذا الاقتباس المزعوم وأخبر كوخ به، من بيكر بعد عدة سنوات وادعي أن كوخ أخطأ الوصف، لكن الضرر كان قد وقع بالفعل.
نفوذ محتمل
مع ذلك نجحت سياسات ضغط بيكر على “إسرائيل” وآتت أكلها، ففي يونيو/حزيران 1992 أُطيح بحزب الليكود برئاسة شامير في انتخابات الكنيست، كنتيجة مباشرة – وفقًا للكتاب – لرفض بيكر توفير ضمان قرض بمبلغ 10 مليارات دولار من أجل الإسكان.
قال موشيه آرنز وزير دفاع شامير المتشدد السابق لمؤلفي الكتاب: “خسر شامير الانتخابات جزئيًا بسبب عدم قدرته على الحصول على ضمان القرض، أطيح بالليكود وجاء إسحاق رابين زعيم حزب العمال الذي كان أكثر انفتاحًا للتفاوض على اتفاقية “الأرض مقابل السلام” مع الفلسطينيين، وانتصر بيكر”.
لكن التاريخ لا يعيد نفسه، ومعايير الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مختلفة اليوم، بعد ثلاثة عقود من ذروة نجاح بيكر (الذي ما زال حيًا بعمر 91 عامًا)، ربما يكون ذلك النفوذ الأمريكي القوي على “إسرائيل” من خلال رفض المساعدات قد ساعد اليمين المتشدد في “إسرائيل” أكثر من المعسكر الضعيف الموالي للسلام، على الأقل على المدى القصير.
لكن لا ضرر من تجربة تلك الإستراتيجية مرة أخرى، فالولايات المتحدة لديها نفوذ هائل محتمل على “إسرائيل” بفضل المال الذي تضخه إليها باستمرار، ربما تتفتت المقاومة الإسرائيلية الأولية نتيجة التهديد الأمريكي بالعقوبات، مع تذكير الناخبين الإسرائيليين بأن “إسرائيل” تحتاج إلى أمريكا أكثر مما تحتاج أمريكا لـ”إسرائيل”.
إن الدرس الذي نتعلمه من منهجية بيكر واضح للغاية: نجح ضغط الولايات المتحدة على “إسرائيل” في حدوث تغيير إيجابي في الماضي، والوضع الآن بحاجة لتطبيقه مرة أخرى.
المصدر: ميدل إيست آي