تحاول هيئة تحرير الشام توسيع علاقاتها مع فصائل الجيش الوطني (درع الفرات وغصن الزيتون) المدعومة من تركيا في ريف حلب، وذلك عبر بوابة التنسيق الأمني وملاحقة خلايا الاغتيالات والتفجيرات التي تتبع لتنظيم “داعش” والنظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية “قسد”.
هذا على الأقل ما يبرِّر الظهور المتكرِّر لعدد من قادة الصف الأول والثاني، التابعَين لتحرير الشام في أعزاز وعفرين وغيرهما من المدن والبلدات، التي كانت ممنوعة على هؤلاء حتى وقت قريب.
الدمج الأمني
يبدو أن هناك مساعي جدّية لضبط الفوضى والفلتان الأمني في مناطق سيطرة المعارضة شمال غربي سوريا، والدفع باتجاه تعزيز حالة الاستقرار بعد توفُّر قسم لا بأس به من الخدمات الأساسية، التي بات بعضها بمستوى أفضل من تلك الموجودة في مناطق النظام و”قسد”.
ويبدو أن الوصول إلى الاستقرار المنشود، لا يمكن أن يتم إلا من خلال إدارة موحّدة لمناطق المعارضة في ريف حلب وإدلب، أو على الأقل دمج المنطقتَين أمنيًّا كمقدِّمة لاندماج أكبر لاحقًا، بحيث يشمل الإدارتَين المدنية والعسكرية، وهو طموح يصعب تحقيقه في الوقت الراهن إلا في حال توافرت له ظروف مناسبة.
تفخر هيئة تحرير الشام بجهاز الأمن العام التابع لها، وتروِّج له على أنه القوة الضاربة في إدلب ومحيطها، وبأنّ له الفضل في إضعاف الشبكات والخلايا العميلة التابعة للتنظيم والنظام.
كما تروِّج لاتِّباع الجهاز وسائل وأدوات أكثر تطورًا في رصد ومتابعة الأهداف، وذلك بحكم الخبرة التي امتلكتها عناصره خلال عملها في الفترة الماضية، بالإضافة إلى حجم الدعم المقدَّم لها حيث تتقاضى رواتب عالية، مقارنة بعناصر وموظفي باقي القطاعات الأمنية والعسكرية التابعة لهيئة تحرير الشام.
في 11 يوليو/ تموز أعلنَ الجهاز عن رغبته في ضمِّ متطوعين جدد إلى صفوفه، وحدَّد في إعلانه 3 مكاتب لاستقبال طلبات الراغبين بالتجنيد لصالحه، المكتب المركزي في إدلب والمكتبَين الآخرَين في دركوش وسرمدا.
وفي المقابل لا يزال العمل على إنشاء “جهاز استخبارات” معارِض جاريًا حتى الآن، ومن المفترض أن يباشر الجهاز الذي تدعمه تركيا مهامه قريبًا، لملاحقة ومحاربة الخلايا والشبكات المعادية في عموم مناطق سيطرة المعارضة شمال غربي سوريا، أي سيمتدّ عمله إلى مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام في إدلب ومحيطها، ولا يُعرَف بعد إن كان الجهاز سيضمّ عناصر وأشخاصًا يتبعون لتحرير الشام أم لا.
تطور العلاقات بين الطرفَين انعكس بشكل لافت مؤخّرًا على شكل الخطاب الإعلامي الموجَّه.
قالت مصادر متطابقة في المعارضة لـ”نون بوست”، إن “الاتصال والتنسيق بين بعض الفصائل وتحرير الشام ليس جديدًا، بل بدأ منذ بداية العام 2020 أثناء الحملة العسكرية لقوات النظام والميليشيات الموالية لها، والتي كانت في مراحلها الأخيرة، حينها جرت اتصالات ولقاءات بين مسؤولين من الفصائل وتحرير الشام بهدف تنسيق الانتشار العسكري في إدلب أثناء الهجوم البرّي لقوات النظام وحلفائه”.
يكمل المصدر: “كان التنسيق آنذاك بدفع من الجيش التركي، لكنه تواصل في الفترة اللاحقة وأصبح أكثر تطورًا وبشكل دوري، وشملَ العلاقات الاقتصادية والأمنية والمعابر وتبادُل المطلوبين، كما انضمَّ إلى فريق المنسّقين مع تحرير الشام فصائل أخرى كانت على عداء معلَن معها”.
وأضافت المصادر أن “تطور العلاقات بين الطرفَين انعكس بشكل لافت مؤخّرًا في شكل الخطاب الإعلامي الموجَّه، فعلى سبيل المثال لم نعد نرى انتقادات لاذعة تصدر عن منظّرين وقادة في تحرير الشام، ضدّ الفصائل وسلوكَيها الأمني والعسكري في مناطق سيطرتها، والتي كانوا يطلقون عليها مناطق درع الصليب”.
كما أردفت: “في المقابل خفتت أصوات منتقدي تحرير الشام من المقرّبين من الفصائل من منظّرين وأشخاص، كانوا شرعيين وقادةً من الصف الثاني في بعض الفصائل الإسلامية التي كانت هدفًا لتحرير الشام في حملاتها العسكرية في وقت سابق، ويبدو أن هناك توجُّهًا عامًّا لتجاوز الخلافات والتنسيق المشترَك لمواجهة الواقع الأمني الذي يُعتبر التحدي الأبرز”.
التحدي الأمني
شنَّ الجهاز الأمني التابع لهيئة تحرير الشام مؤخّرًا حملة أمنية استهدفت خلايا تتبع لتنظيم “داعش” في الفوعة وكفر تخاريم، واعتقل الجهاز 10 أشخاص من المواقع التي تمّت مداهمتها، كما صادر كميات من الأسلحة ومعدات التفجير.
ونفّذت قوات الشرطة والأمن العام بالتعاون مع الشرطة العسكرية التابعة للجيش الوطني، عملية أمنية ضد مجموعات تتبع للتنظيم في مدينة الباب بريف حلب الشمالي الشرقي، واعتقلت 8 أشخاص بينهم امرأتين، وعثرت في الموقع المستهدَف على معدات تفجير وأسلحة.
تتهم هيئة تحرير الشام ما تسميهم بفلول الغلاة من تنظيم حرّاس الدين، وسلفيين مستقلين مناهضين لها، بمساعدة الخلايا الأمنية التابعة للنظام وتنظيم “داعش” في إدلب، وذلك بسبب رصدهم المتواصل لتحرُّكات الجهاز الأمني ونشر تحرُّكات عناصره ونقاط تمركُز حواجزه على الطُّرُق الرئيسية والفرعية، الأمر الذي تسبَّب في إفلات الكثير من عناصر الخلايا المستهدفة من عمليات الملاحقة والاعتقال.
وهنا تبدو الاتّهامات منطقية، لكنَّ الرصد المفترض لتحرُّكات الجهاز من قبل السلفيين المناهضين لتحرير الشام، يهدف غالبًا إلى تفادي الحملات الأمنية والاعتقالات التي تستهدفهم، والتي كانت الأكثر تركيزًا ضدّهم منذ بداية العام الحالي، لا كما تَزعُم هيئة تحرير الشام على أن عمليات الرصد والمتابعة هدفها مساعدة الخلايا الأمنية التابعة للنظام والتنظيم.
نجحت هيئة تحرير الشام إلى حدّ كبير في خفض أنشطة خلايا التنظيم في إدلب، بعد أن اعتمدت نظام رصد ومتابعة أكثر كثافة ودقة، مستفيدة من شبكة واسعة من العناصر والمتعاونين مع جهازها الأمني، المنتشرين في مختلف مناطق إدلب ومحيطها، بالإضافة إلى المعلومات التي تقدِّمها المجالس المحلية والمديريات حول الشاغلين الجدد للمساكن وتحركاتهم.
كما كان لفتح المناطق المغلقة التي كانت تشغلها تنظيمات سلفية مناهضة لها (محيط إدلب وسرمين وريفها وريف جسر الشغور ومناطق إدلب الغربية)، دور في التضييق على الخلايا وحرمانها من نقاط التمركُز والتخفّي.
دفع التضييق المفترض خلايا تنظيم “داعش” إلى اختيار مناطق سيطرة الفصائل في ريف حلب، لتكون ملاذًا أمنًا لعناصرها وقادة بارزين فيها، وأيضًا منطلقًا لعملياتها بسبب تشتُّت العمل الأمني للمعارضة في المنطقة، وانعدام التنسيق بين الأجهزة العسكرية والأمنية وتقصير المؤسسات المدنية في دعم العامل الأمني.
يتناقل سلفيون يرصدون تحرُّكات عناصر وقادة التنظيم شمالي سوريا، معلومات حول وجود عدد كبير منهم في مناطق المعارضة بريف حلب وصلوا إليها خلال الأشهر القليلة الماضية، بينهم والي الشام أبو عبد الرحمن الحموي الذي يُطلَق عليه لقب “السقا”، بالإضافة إلى عدد من قادة الصفَّين الأول والثاني واللَّجنة المفوَّضة، ورجّح آخرون وجود خليفة “داعش” في المنطقة.
تقارُب مفترض
لم تعد العلاقات بين هيئة تحرير الشام والفصائل المعارِضة في ريف حلب سرّية، على الأقل من جانب الهيئة التي تقصّدَ عددٌ من قادتها المسؤولين عن ملف التنسيق وتوسيع العلاقات، التحدُّثَ بشكل علني عن الأمر في مواقع التواصل الاجتماعي.
ويعتبَر جهاد عيسى الشيخ، ولقبه “أبو أحمد زكور”، أحد الشخصيات المقرَّبة من زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني، أحد أهم المسؤولين عن ملف التنسيق، ويبدو أن عضو مجلس شورى هيئة تحرير الشام السلفي العراقي أبو ماريا القحطاني، يعاوِن الشيخ في مهمته إلى جانب مسؤولين آخرين من الجهاز الأمني و”شركة وتد للمحروقات”.
وسبق لجهاد عيسى الشيخ أن قال في تصريح له أواخر شهر أبريل/ نيسان الماضي: “أبشِّر أهلنا بالمحرر أنني وثلة من إخواننا في إدلب وشمال حلب كان لنا شرف تصفير وحلّ الكثير من المشاكل بين الهيئة وبقية الفصائل وأسأل الله أن يتمها علينا بما هو أكبر من التقارب والتعاون وأن يجعلها سببًا بحدوث النصر”.
في يونيو/ حزيران الماضي ذكر حساب “مزمجر الشام” على موقع تويتر، معلومات حول زيارات متكرِّرة قام بها جهاد عيسى إلى أعزاز بريف حلب، ولقائه مع مسؤولين في “الجبهة الشامية” التابعة للجيش الوطني، والتي تربطه بها علاقات وطيدة بحسب حساب المزمجر.
دعا هذا الأمر الشيخ إلى الردّ، حيث قال: “أن تربطنا علاقة مع فصيل مجاهد كالشامية كان رأس حربة في الثورة بحلب وريفها منذ أيام لواء التوحيد وإلى الآن شرف نفتخر فيه، ثم أي دماء تتكلم عنها وكل الفصائل تعرف أني تجنبت أي قتال داخلي في الساحة، ثم أي الفصائل تعتبرها مجاهدة إن كان الشامية كذا والفصيل الفلاني كذا”.
عاد “مزمجر الشام” لاستفزاز جهاد عيسى الشيخ مرة أخرى بداية شهر يوليو/ تموز، وتحدّث مطوّلًا عن تاريخه الجهادي مع تنظيم “القاعدة” قبل انطلاق الثورة، ومسيرته بعد انطلاقتها وخروجه من سجون النظام، ما دفع الشيخ إلى الدفاع عن نفسه مجدّدًا، شارحًا مسيرته الجهادية.
وفي 2 يوليو/ تموز نشرَ الشيخ في حسابه الرسمي على موقع تويتر صورة له وسط دوار الجمال في الحي الغربي من مدينة أعزاز بريف حلب، لكن وجهه لم يكن ظاهرًا في الصورة التي علّق فيها قائلًا: “إلى جميع الجهات التي يقصدها هذا الولد مزمجر الشام والتي لا يقصدها، أنا الآن في أعزاز بجولة على قيادات الجيش الوطني، نسأل الله التوفيق”.
عاد لاحقًا مزمجر ونشر صورة يظهر فيها وجه الشيخ، التي شاركها في موقع تويتر الجهادي العراقي أبو ماريا القحطاني، وعلّق قائلًا: “زعلان منك تاج راسي تصورت لحالك ما صورتني معك”.