ترجمة وتحرير: نون بوست
استيقظت عائشة أبو عواد عند بزوغ فجر السابع من شهر تموز/ يوليو، وهي جاهزة لبداية روتينها الصباحي المعتاد. أخرجت أغنامها من الحظيرة، ونشرت بعضا من الغسيل حتى يجف، وبدأت في إعداد طعام الإفطار لعائلتها المكوّنة من 12 فردا على موقد الغاز خارج خيمتهم. وفي حوالي الساعة التاسعة صباحا، اختفت أصوات الريح وهي تهب عبر سهول البقاع في غور الأردن، إلى جانب صوت الأغنام التي ترعى في الجوار، بسبب صوت ضجيج آخر مألوف، وهو صوت آثار القشعريرة في جسدها.
في هذا الإطار، صرحت عائشة، البالغة من العمر 56 سنة، لموقع “ميدل إيست آي”، قائلة: “سمعنا أصوات سيارات الجيب العسكرية تقترب. وعندما نظرت إلى الأفق، رأيت العشرات منها متّجهة نحونا”. وعلى الرغم من أن رؤية عائشة لسيارات الجيب العسكرية الإسرائيلية والجرافات وسيارات الإدارة المدنية تقترب من قريتها، خربة حمصة الواقعة في الضفة الغربية المحتلة، بمثابة مشهد مرعب، إلا أنه كان مألوفا لعائشة. فقد شهدت عائشة مثل هذه المداهمات من قبل، حوالي ستّ مرات خلال الأشهر التسعة الماضية، حيث لم تنته هذه المداهمات التي شهدتها على خير.
بدأت عائشة على الفور في إيقاظ أحفادها النائمين، بينما بدأ زوجها وأبناؤها في جمع مواشيهم. في هذا السياق، قالت عائشة: “عندما رأى الأطفال سيارات الجيب، انتابهم القلق وبدؤوا بالصراخ والبكاء. وظلوا يقولون: جدتي، جدتي، إنهم قادمون لهدم منازلنا!”. في الحقيقة، لم تستطع عائشة فعل شيء لتهدئة أحفادها. وبعد مرور بضع دقائق فقط، بدأ الجنود الإسرائيليون في القبض على أفراد العائلة رفقة جيرانهم وطردهم من منازلهم.
يأتون إلى هنا في كل مرة ويدمرون حياتنا، ولكننا عاجزون عن الدفاع عن أنفسنا. إننا لا نحاول سوى أن نعيش حياة بسيطة مع ماشيتنا وأطفالنا
عموما، تعتبر عائشة وعائلتها واحدة من بين 11 عائلة فلسطينية، تتألّف من أكثر من 70 شخصا، يقيمون في قرية بدوية صغيرة في خربة حمصة التي تعرّضت لعمليات هدم متكررة من قبل “إسرائيل”. وبين شهر تشرين الثاني/ نوفمبر وشباط/ فبراير، دُمّرت منازل عائلة عائشة وحظائر الماشية ست مرات. وفي أحد الأيام الحارة من شهر تموز/ يوليو، واجهوا عملية الهدم السابعة على التوالي في أقلّ من سنة.
“هذا ما يفعلونه بأطفالنا”
أفادت عائشة قائلة: “عندما جاؤوا لأول مرة في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، تركونا بلا مأوى في البرد والمطر”، مشيرة إلى أن حفيدتها الصغرى كانت آنذاك تبلغ من العمر ثلاثة أشهر. وأضافت عائشة قائلة: “لقد تركونا هذه المرة تحت أشعة الشمس الحارقة دون طعام أو ماء أو أي شيء يقينا من الحر. وأخبرونا أن إقامتنا هناك غير قانونية، وأننا مطالبون بالمغادرة. بعد ذلك، بدؤوا في تدمير كل شيء”. بينما كانت تجلس إلى جانب أحفادها الصغار تحت أشعة الشمس الحارقة، شاهدت عائشة حياتها بأكملها وهي تُدمّر أمام عينيها، حيث شعرت بالعجز.
وتابعت عائشة حديثها قائلة “يأتون إلى هنا في كل مرة ويدمرون حياتنا، ولكننا عاجزون عن الدفاع عن أنفسنا. إننا لا نحاول سوى أن نعيش حياة بسيطة مع ماشيتنا وأطفالنا. فهل نطلب الكثير؟”. وفقا لتقارير صادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، طهّرت القوات الإسرائيلية المنطقة التي كان يغطيها سكان خربة حُمصة بالكامل، وهدمت وصادرت مواد مثل خزانات المياه وأحواض الحيوانات وألعاب الأطفال بالإضافة إلى العديد من الأجهزة التي تبرعت بها منظمات المساعدات الإنسانية الدولية.
في هذا الصدد، تابعت عائشة قائلة: “لقد أخذوا كل شيء، ولم يتركوا لنا حتى ملابسنا أو حفاضات الأطفال وحليب الأطفال. لقد نمنا في وسط الحقول المفتوحة في تلك الليلة مع الأطفال دون أيّة بطانيات أو حتى مراتب”. من جانبه، كتب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن “التدمير المتكرر لمنازلهم وممتلكاتهم، بما في ذلك المساعدة التي يقدمها المجتمع الإنساني، له تأثير اقتصادي واجتماعي صادم ومدمر على المجتمع، ولا سيما الأطفال”، مضيفا أن القوات الإسرائيلية منعت عمال الإغاثة من الوصول إلى سكان القرية في أعقاب عمليات الهدم.
يعدّ أحفاد عائشة، سبعة منهم دون سن العاشرة، من بين واحد وأربعين طفلا الذين يعيشون في خربة حمصة. في هذا الصدد، قالت عائشة إن “أحفادها ينامون في الوقت الراهن في خيمة الأغنام”. وأكدت عائشة أن “ذلك لا يعدّ آمنا أو صحيا للأطفال. في المقابل، هذه هي حقيقة الاحتلال وهذا ما يفعلونه بأطفالنا”.
تأكيد الوقائع
تعدّ خربة حمصة واحدة من مئات التجمعات الفلسطينية في المنطقة “ج” – أكثر من 60 بالمئة من الضفة الغربية تحت السيطرة الإسرائيلية الأمنية والمدنية الكاملة، حيث يُحظر البناء الفلسطيني إلى حد كبير. وداخل المنطقة “ج”، حاصرت “إسرائيل” آلاف الهكتارات من الأراضي ووصفتها بأنها مناطق عسكرية مغلقة و”مناطق إطلاق نار”، حيث يجري الجيش تدريبات بشكل روتيني باستخدام الذخيرة الحية والمتفجرات.
وفقًا لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، تغطي مناطق إطلاق النار حوالي 30 بالمئة من المنطقة “ج”، وتشمل حوالي 38 عائلة من البدو الفلسطينيين والرُّعاة، ويبلغ عدد سكانها 6200 شخص. علاوة على ذلك، يعيش أكثر من ثلث هذه المجتمعات في غور الأردن الاستراتيجي. من جهته، وصف مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) هذه المجتمعات بأنها “بعض من أكثر الفئات ضعفا” في الضفة الغربية بأكملها بسبب تقييد إمكانية حصولها على التعليم والخدمات الصحية الأساسية والبنية التحتية، ناهيك عن أوامر إسرائيل بهدم وإخلاء منازلهم خلال التدريبات العسكرية التي يمكن أن تستمر لأيام في كل مرة.
منذ سنة 2012، وثّق مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية أكثر من 50 حادثة طرد فيها سكان خربة حمصة من منازلهم خلال أنشطة التدريب العسكري. وفي هذا الصدد، قالت الجماعات الحقوقية إن تحديد مناطق إطلاق النار وعمليات الهدم والإخلاء القسري التي تحدث نتيجة لذلك، هي غطاء لخطط الحكومة الإسرائيلية لضم مساحات شاسعة من الأراضي في غور الأردن في انتهاك للقانون الدولي. “إنهم يهدفون إلى تأكيد الوقائع والاستيلاء على هذه المناطق من أجل تهيئة الظروف التي من شأنها أن تسهل ضمهم الفعلي لإسرائيل كجزء من ترتيب الوضع النهائي، وحتى ذلك الوقت، ضمهم بحكم الأمر الواقع”، على حد تعبير منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية “بتسيلم” خلال حديثها عن الوضع في غور الأردن.
من جانبه، قال معتز بشارات، الناشط المحلي في غور الأردن، لموقع “ميدل إيست آي”: “تعدّ هذه منطقة مهمّة واستراتيجية للغاية بالنسبة للإسرائيليين”. وتابع بشارات حديثه قائلا: “كانت إسرائيل واضحة للغاية بشأن خططها لضم غور الأردن. لذلك، لا ينبغي أن يتفاجأ الناس عندما تأتي وتدمر خربة حمصة مرة تلو الأخرى”. وأضاف بشارات قائلا: “في جميع أنحاء غور الأردن، لن تجد مناطق إطلاق نار فحسب، وإنما أيضا مناطق عسكرية وحدائق وطنية وأراضي مملوكة للدولة. وتستخدم الدولة جميع هذه التسميات للاستيلاء على المزيد من الأراضي”.
تمهيد الطريق للمستوطنات
على بعد كيلومترين فقط من خربة حمصة، توجد مستوطنتي “بيكاوت” و”روعي” الإسرائيليتين. على عكس منظر الخيام والهياكل المصنوعة من الصفيح في خربة حمصة وغيرها من القرى البدوية المجاورة، تبرز المستوطنات مثل الواحات الخضراء الصغيرة في أراضي جافة وقاحلة ذات مناخ صيفي مع المنازل الحجرية اللامعة والأسطح الحمراء وخطوط الكهرباء والأشجار المورقة وحدائق الأطفال، وقطع أراضي كبيرة مليئة بالدفيئات الزراعية. في هذا السياق، قال بشارات مشيرا إلى اتجاه “بيكاوت”: “إذا كنت تريد مشاهدة المثال الأكثر وضوحًا للفصل العنصري الإسرائيلي على أرض الواقع، فهذا المشهد يعدّ كافيا”.
أكّد بشارات أن هذه المستوطنات مبنيّة على أراض فلسطينية مسروقة مضيفا أن المستوطنين يحصلون على مياه جارية وشبكات كهرباء وطرق ومنازل ودفيئات وأرض لزراعتها. وأضاف بشارات أن “الحكومة الإسرائيلية تدعم أسلوب حياتهم بالكامل”. وأشار بشارات إلى أن المسافة لا تبعد سوى خمس دقائق بالسيارة، لكن فلسطينيي خربة حمصة لا يتلقون أيا من هذه الخدمات، ويعدّون مجرمين نظرا لعيشهم هناك. وأضاف بشارات أن “الفلسطينيين لديهم أوراق تثبت ملكيتهم لهذه الأرض، وكانوا متواجدين هنا حتى قبل قيام إسرائيل. ووفقا لإسرائيل، لا يحق سوى للمستوطنين العيش هنا، على الرغم من أن مستوطناتهم غير قانونية بموجب القانون الدولي”.
تسعى “إسرائيل” إلى نقل سكان خربة حمصة الفلسطينيين إلى منطقة أخرى في شمال غور الأردن تسمى عين شبلي، وهي خطوة تصفها جماعات حقوقية بأنها ترقى إلى النقل القسري، الذي يمثّل جريمة حرب بموجب القانون الدولي. في هذا الإطار، أفاد سكان القرية الصغيرة إن عين شبلي، وهي منطقة أكثر حضارية، ليست مناسبة لنمط حياتهم، وسيواجهون العديد من المشاكل في حال انتقلوا إليها.
قال محمد أبو عواد، أحد سكان خربة حمصة، لموقع ميدل إيست آي: “إنهم يحاولون خداعنا. نحن لا نعرف المكان هناك (عين شبلي) وليس لدينا أراض هناك، ولا توجد مساحة كافية لتتنقل حيواناتنا عبر الجبال. ويتمثّل أحد الأسباب الرئيسية التي دفعتنا للعيش هنا في حمصة في أنها مناسبة لحيواناتنا”، مشيرا إلى السهول المترامية الأطراف من حوله، والتي قال إنها مثالية لرعي ماشيته حتى في أشهر الصيف الحارة. وأضاف عواد قائلا إنه “في حال طردونا ونقلونا إلى عين شبلي، فإننا لن نفقد منازلنا فحسب، بل مصدر رزقنا أيضا وأعمالنا وماشيتنا ودخلنا، وغيرها، كل ذلك لن يدوم إذا غادرنا هذا المكان”.
بينما تدعي الحكومة الإسرائيلية أن نقل مجتمعات مثل خربة حمصة إلى “مواقع دائمة” مثل عين شبلي يتم بهدف “تحسين مستوى معيشتهم” ، قالت جماعات حقوقية مثل بتسيلم إن هذه السياسة “تهدف إلى تقييد السكان الفلسطينيين لتضييق حدود تحرّكهم داخل المناطق الحضرية، وبالتالي الحد من قدرتهم على كسب العيش كرعاة ومزارعين”. وكتبت بتسيلم قائلة: “كما هو الحال مع معظم جوانب الحياة الأخرى في ظل الاحتلال، وُضعت هذه الخطط من قبل السلطات الإسرائيلية دون استشارة أو إشراك سكان المجتمعات الذين ليس لديهم أي سلطة سياسية أو حتى تمثيل كإجراء شكلي في عمليات صنع القرار”.
في غضون ذلك، قال الفلسطينيون إن المستوطنين الإسرائيليين الذين يعيشون في منطقة عين شبلي يتسمون بالعنف الشديد، ويقومون بشكل روتيني بشن هجمات على المجتمعات الفلسطينية في المنطقة. وفي هذا السياق، قالت عائشة لموقع ميدل إيست آي: “لا نريد الذهاب إلى هناك. ونحن على يقين من أنه حتى وإن ذهبنا، سيجد الإسرائيليون طريقة أخرى لطردنا من هناك”.
“التصريحات الجوفاء”
خلال الأسبوع الذي أعقب تدمير “إسرائيل” لخربة حمصة، تمكّن سكان القرية من نصب عدد قليل من الخيام الصغيرة للنوم فيها واستعادة بعض ممتلكاتهم التي صادرتها القوات الإسرائيلية وألقتها في عين شبلي. ومنذ ذلك الحين، مُنعت العديد من العائلات، بما في ذلك عائلة عائشة ومحمد، من العودة إلى المكان نفسه الذي كانت فيه منازلهم سابقا، ويقيمون الآن في منطقة على بعد حوالي 500 متر.
قالت عائشة: “هناك جنود إسرائيليون هنا على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع، ولن يسمحوا لنا بالعودة إلى المكان الذي كنا نعيش فيه من قبل. وإذا مررنا هناك مع أغنامنا، فإنهم يهددون باعتقالنا”، مضيفة أن ملابسها وملابس عائلتها ما زالت مبعثرة في أكوام على الأرض.
خلال الأيام التي سبقت الهدم وبعده، قال السكان إن عددا من الدبلوماسيين الدوليين وعمال الإغاثة زاروهم وأدانوا الأعمال التي ترتكبها “إسرائيل” في خربة حمصة. في المقابل، صرّح السكان أنهم سئموا من “التصريحات الجوفاء”. وقال محمد: “كل هذا يظهر أن المجتمع الدولي لا يستطيع أن يحمينا، حيث تعتقد إسرائيل أنها فوق القانون، ولا يفعل المجتمع الدولي أي شيء سوى إصدار التصريحات، ونحن نريد أفعالا ملموسة. لا تأتي لزيارتنا فقط لتشعر بالأسف تجاهنا، بل اتخذ إجراء ما حول هذا الأمر”.
المصدر: ميدل إيست آي