قبل حوالي 20 عامًا، كنت جالسًا على مقعد الدراسة في الإعدادية، حين دخل علينا مدير المدرسة وهو يرتدي زيًّا عسكريًّا، كان عضوًا في حزب البعث وقتها بدرجة مسؤول الحزب في المدرسة، ودخل -فيما يبدو أنه توجيه حزبي- ليتحدث عن حتمية المعركة المقبلة، خاصة بعد سقوط أفغانستان بيد القوات الأميركية وتحالف الشمال، وكان ملخّص الحديث المليء بالفخر والتهديدات أن “مجزرة” تنتظر الجيش الأميركي هنا في بغداد، لأن “العراق ببساطة، ليس أفغانستان!”.
لم يكن “مسؤولنا الحزبي” يدرك وقتها، وهو يلقي خطابه الرنّان، أنه كان يقارب الصواب بأكثر ممّا يتصور، وأن جزءًا من كلامه سيتحقّق بعد عقدَين من الحرب، ليس بخصوص المجزرة التي تنتظر الأميركيين بالطبع، بل لأن “أفغانستان ببساطة.. ليست العراق!”.
الانسحاب الأميركي من أفغانستان: التخلُّص من الحمولة الزائدة
تسيطر طالبان على 85% من الأراضي في أفغانستان، فيما يبدو أنه تسليم أميركي بعدم جدوى استمرار الحرب هناك، واعتراف بأن قرار الدخول نفسه كان عبثيًّا على كل الأصعدة، وأنه على أي حال كان متأخّرًا 10 أعوام على الأقل.
كان سبب الدخول الأميركي المعلَن هو القضاء على الإرهاب، والقضاء على القاعدة، وبغضّ النظر عن صحّة الاعتقاد حول أن قوة القاعدة تكمن في أفغانستان أو في دول أخرى، إلّا إن القاعدة بالتأكيد لم تعُدْ خطرًا حقيقيًّا في أي مكان، ليس بسبب الوجود الأميركي هناك، وإنما بسبب التحديث الجديد الذي طرأ على الفكر السلفي الجهادي، والذي أفضى لظهور تنظيم “داعش”.
لقد ساهم ظهور التنظيم الجديد بسحب البساط والحاضنة الفكرية التي تغذّي القاعدة نفسها، وتنظيم “داعش” ببساطة لا يؤمن بالمكوث تحت حكم طالبان، بل يعتبرها فصيلًا منافسًا يجب التخلُّص منه، وهكذا وجدت طالبان نفسها في معركة “محسومة سلفًا لصالحها” أمام “داعش” الذي لم يستطع أن يجد موطئ قدم لنفسه في أفغانستان، وتلك طبائع الأمور.
ما الذي حصل إذًا؟ تقول الباحثة في مجال الجماعات غير المسلحة، فاندا فيلباب براون، إن “إدارة بايدن خمّنت أن تهديد الإرهاب من أفغانستان اليوم هو في الواقع أصغر من أجزاء مختلفة من أفريقيا والشرق الأوسط. ففي الصومال، على سبيل المثال، تتزايد قوة حركة الشباب الإقليمية وسلطة الحكم باطِّراد وتحتفظ الجماعة بالولاء القوي للقاعدة”.
وتكمل الباحثة: “تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في الصومال، رغم أنه أضعف بكثير من حركة الشباب، يحتفظ بقدرات ثابتة. تعمل العديد من عناصر القاعدة و”داعش” بقوة في مالي وأجزاء أخرى من الساحل وشمال أفريقيا، وبالتالي على الرغم من عدم رغبة طالبان في قطع صلاتها بالقاعدة، فإن هذا التهديد لا يختلف جذريًّا عن التهديدات الإرهابية ضدّ الولايات المتحدة وحلفائها، المنبثق من مناطق أخرى”.
لافتةً إلى أنه “على الرغم من الأمل في اتفاق الدوحة بين الولايات المتحدة وطالبان اعتبارًا من فبراير/ شباط 2020، سيحفَّز طالبان على منع القاعدة من اتّخاذ إجراءات ضد الولايات المتحدة وحلفائها من أفغانستان، ولهذا يجب أن تكون السياسة الأميركية الحالية موجّهة نحو هذه الأهداف من خلال الدبلوماسية والمساعدات المشروطة والعقوبات، وحتى الضربات العرضية من الخارج”.
لطالما كان الديمقراطيون منذ عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون، يميلون إلى استخدام الضربات الجوية والعمليات الخاصة، بغرض الردع واستثمار هذه القوة سياسيًّا.
علاوة على ذلك، إن قدامى المحاربين الأميركيين في مثل هذه الحروب المحبِطة التي لا تنتهي، هم مصدر مهمّ للتجنيد المسلّح لليمين في الولايات المتحدة، وتهديد للسلامة العامة والديمقراطية وسيادة القانون الذي تشكّله هذه الجماعات هناك، ومن خلال تقليل مثل هذه المشاركات العسكرية الأميركية في الخارج، تتخذ الولايات المتحدة خطوة في معالجة هذا الخطر المهم.
نقطة أخرى تُضاف إلى القائمة، وهي سياسة بايدن في استخدام القوة، فلطالما كان الديمقراطيون منذ عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون، يميلون إلى استخدام الضربات الجوية والعمليات الخاصة، بغرض الردع واستثمار هذه القوة سياسيًّا مع الأطراف الفاعلة على الساحة، على عكس الطريقة الجمهورية في تغيير الخريطة كلها على الأرض، واقتلاع كل الجهات الموجودة بالقوة المسلحة.
هذه الطريقة لم تعُدْ صالحة في الملف الأفغاني، فالقوات الأميركية لم تستطع الحيلولة دون توسُّع طالبان حتى مع وجود 100 ألف مقاتل، بالتالي وجود 5-10 آلاف جندي لن يغيّر شيئًا من المعادلة، وكذا كان الحل الأمثل هو ترك الأرض للرجل الأقوى هناك، مع ضمانات بأن يكون الخطر في أفغانستان مقتصرًا عليها وحدها دون أن يتعدّاها ليصل إلى المصالح الأميركية.
وبمعنى آخر، تركت الحكومة الأميركية شركاءها هناك ليواجهوا مصيرهم، وشركاءها أولئك لم ينجحوا طوال 20 عامًا إلّا بكونهم نخبة سياسية ضيّقة الأفق ومنقسِمة وفاسِدة على الدوام، تنخرطُ في سياسة تخريبية بدلًا من الحكم، حتى مع اشتعال أفغانستان في تمرُّد مكثَّف من قبل طالبان.
لم تدفع لا تهديدات الولايات المتحدة والمانحين الدوليين بخفض المساعدات، ولا الاحتمال الأوضح والأقرب للانسحاب العسكري الأميركي، أولئك السياسيين نحو الوحدة ضدّ طالبان، وتحسين الحكم بشكل أساسي.
السيناريو العراقي
يدور الآن حديث في الأوساط السنّية حول تكرار السيناريو الأفغاني في العراق، بمعنى انسحاب القوات الأميركية من العراق وإعادة تسليم مقاليد السلطة لحزب البعث.
والواقع أن هذا التصور ليس بعيدًا عن الواقع فحسب، إنما يكشفُ قصورًا كبيرًا وضيّقًا في أُفُق البحث عن الحلول والاكتفاء بحلول جاهزة غير واقعية، تزيح عن البال عبء أي تحمُّل لضريبة هذا التحرك.
إن هذا القياس خاطئ لعدة أسباب؛ أولها أن الخريطة السياسية العراقية مختلفة، بل معاسكة لما هو الحال عليه في أفغانستان، وثانيها أن أهمية العراق نفسه يختلف عن أهمية أفغانستان، وثالثها أن الطبقة السياسية الحاكمة في العراق ليست سوى انعكاس للنفوذ الإيراني، والأطراف العراقية لا تعدو كونها دمى لا تملك القدرة على أية خطوة دون موافقة أو دعم إيراني، وبالتالي لن تترك إيران هذه الطبقة السياسية تسقط بسهولة، وهذا ليس هو ما عليه الحال في كابول.
أما الأمر الرابع والأهم فهو حزب البعث نفسه. فَقَدَ الحزب كثيراً من قوته وقياداته وإمكاناته، حيث قادته الحاليين لا يزالون يفكّرون بعقلية خمسينيات القرن الماضي والانقلابات المسلّحة ومؤامرات الحكم، وكأن الحياة لم تتطوّر خلال نصف قرن كامل من الزمن، والحزب -وحتى جمهوره- قطعًا لا يملك قوة التأثير والمطاولة التي تملكها طالبان الآن.
مع ارتفاع سخونة الموقف في هذا النوع من المواجهة، يمكن حينها أن يتدخل الجانب الأميركي لدعم طرف على حساب طرف.
لكن هل سينسحب الأميركيون من العراق؟ ليس من المتوقّع حصول ذلك، فالوجود الأميركي في العراق يتّسق مع سياسة بايدن في استخدام قوات صغيرة لإحداث تأثير كبير، كما إنه ليس من مصلحة الأميركيين ترك العراق ساحةً خالية في منطقة حسّاسة تعجُّ بالوجود الأجنبي ومصادر الطاقة، والجيش الأميركي لا يعاني من خسائر كبيرة كما كان عليه الحال في أفغانستان.
لذا الغالب هو استمرار تواجد القوات الأميركية، وهي بحدود 5 آلاف مقاتل ومتعاقد ومدرِّب مع القوات العراقية.
ما قد يحصل في المستقبل القريب هو تنامي الاحتجاجات الشعبية، ما سيرفع الضغوط على الطبقة السياسية الحاكمة، ضغوط قد تضطر معها الفصائل المسلحة تولي زمام المبادرة بنفسها، بترشيح أحد مرشحيها لتولي منصب رئيس الوزراء، وحينها ستضطر تلك الفصائل لتكون في الواجهة أمام الغضب الشعبي المتصاعد، وهو أمر دأبت طوال سنين على تجنبه ولا تزال.
فالمرشَّح للرئاسة كان دائمًا إما عن حزب الدعوة وإما مستقلًّا كما هو الحال مع الكاظمي، ما يخلي المسؤولية عن الميليشيات الفاعلة على الساحة، مثل حزب الله والعصائب والتيار الصدري وغيرها.
إن وجود مثل هذه المعادلة سيرفع الصراع إلى درجة كسر العظم بين المستوى الشعبي والمستوى الحكومي على طريقة الربيع العربي، وهو أمر كان قاب قوسَين أو أدنى من الحصول خلال تظاهرات تشرين 2019، لولا حصول جائحة كورونا التي أوقفت الاحتجاجات.
ومع ارتفاع سخونة الموقف إلى هذا النوع من المواجهة، يمكن حينها أن يتدخل الجانب الأميركي لدعم طرف على حساب طرف، ومع ذلك تبقى آفاق التغيير مختلفة في العراق عنها في أفغانستان، لاختلاف أغلب المعطيات، وأهمها: إحكام إيران سيطرتها على الأوضاع هناك بالطُّرُق الرسمية وغير الرسمية، ونفوذها القوي حتى في الأوساط السنّية المناوئة لها تقليديًّا.
وطالما ظلَّ الحال كذلك، سيظلُّ العراق مختلفًا عن أفغانستان.. تمامًا كما توقّع مسؤولنا الحزبي قبل 20 عامًا!