انتهت مساعي الرئيس المكلَّف تشكيل الحكومة سعد الحريري، إلى الاعتذار عن التشكيل بعد مضي قرابة 9 أشهر على تكليفه بناءً للاستشارات النيابية المُلزمة، التي أجراها رئيس الجمهورية ميشال عون وكلّفه بموجب نتائجها تشكيل الحكومة.
وجاء الاعتذار بعد اللِّقاء العشرين مع رئيس الجمهورية، وبعد تسليمه تشكيلة حكومية قال عنها الحريري إنها تتوافق مع المبادرة الفرنسية، ومع مبادرة رئيس المجلس النيابي اللبناني نبيه بري، وتضمّ شخصيات من أصحاب الاختصاص، ودون أن يكون فيها ثُلُث معطِّل لأيّ فريق أو طرف سياسي.
وأشار الحريري في رسالة اعتذاره التي تلاها من القصر الجمهوري، بعد لقاء مقتضَب مع رئيس الجمهورية، إلى أنّ الرئيس عون طلب تغييرات جوهرية في التشكيلة التي قدّمها له، وأن الرجلَين لن يستطيعا الاتفاق.
أسباب الأزمة
يعيش لبنان حاليًّا أزمة لم يشهد لها مثيلًا حتى خلال الحرب الأهلية المشؤومة، أو حتى خلال الاعتداءات الإسرائيلية المتكرِّرة، فالوضع الاقتصادي يشهد انهيارًا غير مسبوق، حيث فقدت الليرة اللبنانية حوالي 90 إلى 95% من قيمتها أمام العملات الأجنبية ومن قدرتها الشرائية، ما انعكس سلبًا على أغلب قطاعات العمل في لبنان.
كما إن الأسواق اللبنانية بدأت تشهد نوعًا من فقدان سلع أساسية، كالأدوية والمحروقات والمواد الغذائية وغيرها، في ظل سياسة حكومية تلجأ إلى رفع الدعم عن العديد من المواد والسلع المستورَدة، ما زاد من معاناة المواطنين.
وأيضًا تصادر المصارف أموال المودعين، ولا تسمح إلّا بسحب كميات قليلة جدًّا من الودائع وبالليرة اللبنانية، ما ساوى في بعض الأحيان بين الأغنياء والفقراء، فضلًا عن أن قطاعات كثيرة بدأت تلوِّح بالإقفال في ظلِّ انعدام المواد المُحرِّكة لها، كما في القطاع الصحّي، حيث أقفلت بعض المستشفيات أبوابها أمام المرضى بسبب فقدان موادٍّ أساسية كالأكسجين أو معدّات طبية أساسية، ما هدَّد ويهدِّد حياة العديد من المرضى في ظل تفشّي وباء كورونا في البلد.
ويتّفق أغلب اللبنانيين على أن مفتاح الحل لكُلّ الأزمات يبدأ من تشكيل الحكومة، غير أنهم يتقاذفون المسؤولية بينهم عن أسباب تعطيل هذا المسار.
فالرئيس الذي كان مُكلّفًا تشكيل الحكومة، سعد الحريري، وبعد اعتذاره عن الاستمرار بمساعي التشكيل، حمّل رئيس الجمهورية، ميشال عون، مسؤولية تعطيل عملية تشكيل الحكومة، وأشار في مقابلة تلفزيونية إلى أن رئيس الجمهورية هو من عطّل تشكيل الحكومة، لأنه يريد حكومة ميشال عون وليس حكومة لبنان.
في مقابل ذلك حمّل مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية مسؤولية تعطيل تشكيل الحكومة للرئيس المكلَّف، وقال مكتب الرئاسة إن الحريري رفض البحث بأيّ تعديل أو تغيير بالأسماء التي اقترحها في تشكيلته الحكومية.
السيناريو الأول أن يقوم رئيس الجمهورية بإجراء الاستشارات النيابية الملزمة له.
ويرى متابعون أن الأزمة أعمق من ذلك، وأبعد من منطق المحاصصة والاستئثار الذي يحاول كل فريق التحكُّم بالبلد من خلاله، أو بمنطق الكيدية “الصبيانية” على الطريقة اللبنانية، وتصل أسباب تلك الأزمة إلى تدخُّلات ومشاريع خارجية تتصل بمصالح الدُّول الإقليمة والدولية وصراعها وتنافسها على النفوذ والسيطرة على مجمل المنطقة، ومنها لبنان.
ويشير هؤلاء المتابعون إلى أن بيت القصيد في الأزمة اللبنانية يكمن في الصراع الأميركي الإيراني على وجه التحديد، وبدرجة أقلّ الصراع السعودي الإيراني أيضًا.
سيناريوهات ما بعد الاعتذار
في ضوء اعتذار الرئيس المكلَّف تشكيل الحكومة، سعد الحريري، بشكل رسمي، عن الاستمرار في مساعي تشكيل الحكومة الجديدة، فإن الدستور اللبناني واضح لناحية إلزام رئيس الجمهورية تحديد موعد جديد لإجراء استشارات نيابية مُلزمة، لتسمية شخصية مسلمة سنّية لتقوم بتشكيل الحكومة.
وقد أشار مكتب الرئاسة الأولى إلى أن الرئيس عون سيحدِّد قريبًا موعدًا لإجراء تلك الاستشارات، غير أن إجراء الاستشارات شيء، وتشكيل الحكومة شيء آخر، والخروج من الأزمة التي يعيشها لبنان شيء ثالث.
والسيناريو الأول أن يقوم رئيس الجمهورية بإجراء الاستشارات النيابية الملزمة له، وأن تأتي نتائجها لصالح إعادة تسمية سعد الحريري لتشكيل الحكومة، وفي هذه الحالة سنكون أمام مشهد مشابِه للمشهد الذي عاشه لبنان خلال الشهور التسعة الماضية.
بمعنى آخر سنعود إلى المربّع الأول، وبالتالي إن هذا السيناريو، فيما لو حصل، سيعني دخول المجلس النيابي ورئيس الجمهورية في تحدٍّ مفتوح وواضح، وهذا قد يفتح البلد على مواجهة صعبة ومعقّدة قد يكون الشارع حاسمًا فيها.
السيناريو الثاني أن يقوم الرئيس المعتذر سعد الحريري، وهو رئيس أكبر كتلة نيابية، وهو زعيم المسلمين السنّة الأول في لبنان، بتزكية شخصية سنّية لتشكيل الحكومة، كما حصل قبل حوالي عام عندما زكّى الحريري اسم السفير اللبناني لدى برلين مصطفى أديب لتشكيل الحكومة، غير أنّ مهمّة أديب بتشكيل الحكومة في حينه قد أُفشِلت بسبب منطق المحاصصة والمكايدة.
واليوم الحريري، ومن خلفه رؤساء الحكومات السابقين، ودار الفتوى في لبنان، وقوى سنّية عديدة، لا يفضِّلون الذهاب إلى خيار التنازل وتغطية أية شخصية سنّية لرئاسة الحكومة، تلبيةً لرغبة رئيس الجمهورية ميشال عون، لأنّ ذلك يعدّ في لبنان بمنزلة خسارة وتنازل عن موقع لمكوِّن أساسي في نظام سياسي، يقومُ أساسًا على مبدأ التقاسُم والتوزيع الطائفي.
وبالتالي إن مثل هذا الخيار ليس مطروحًا حاليًّا، حتى إن أية شخصية سنّية سياسية لا يمكن أن تقارب هذا الموضوع، لأنّه في مثل هذه الظروف سيكون بمنزلة انتحار سياسي لها، وبالتالي إن ذلك سيترك المشكلة على حالها، وقد يفتح أبواب البلد على رياح ساخنة عند كل منعطف جديد.
قد يعني إعادة إنتاج الحرب الأهلية وصولًا إلى التدخّل الخارجي في لبنان تحت العنوان الإنساني، وهو ما أشارت إليه بعض التقارير التي نُشرت مؤخرًا.
السيناريو الثالث أن يقوم رئيس الجمهورية والأطراف السياسية المتحالِف معها، باختيار شخصية سنّية من خارج الإجماع السنّي وفرضها كأمر واقع، كما حصل من قبل مع حكومة الرئيس حسّان دياب.
غير أن هذا الاتجاه سيعني بالضرورة إعادة إنتاج الأزمة من جديد، في وقت يوقن الجميع أن مفتاح حلّ الأزمات يكمن بتشكيل حكومة تكون محل رضا الأطراف الداخلية من ناحية، والمجتمع الدولي من ناحية أخرى، ومثل هذا السيناريو الأخير لا يلبّي تطلُّعات الداخل أو المجتمع الدولي، وبالتالي ستكون حكومة محكومة بالفشل مسبقًا تمامًا كحكومة حسّان دياب.
أما السيناريو الرابع والأخطر بينها، فهو في لجوء البعض إلى استخدام الشارع أو القوة أو العنف والفوضى، من أجل إحداث خرق في جدار الأزمة الكثيف، والانتقال بعد ذلك إلى واقع جديد يكون محكومًا بموازين جديدة.
وهنا تكمن الخطورة، لأن من شأن ذلك أن يُدخِل البلد في أتون صراعات المحاور، ما قد يعني إعادة إنتاج الحرب الأهلية وصولًا إلى التدخُّل الخارجي في لبنان تحت العنوان الإنساني، وهو ما أشارت إليه بعض التقارير التي نُشرت مؤخرًا؛ أو دفعًا باتجاه إعادة إنتاج صيغة جديدة للبنان، تكون مختلفة عن الصيغة الحالية للنظام السياسي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن فكرة اعتماد النظام الفدرالي في لبنان طُُرحت قبل مدة على موائد بعض الجهات المحلية، وربما يعمل البعض على تسويقها خارجيًّا في وقت تؤمن إدارة الرئيس الأميركي جون بايدن بفكرة تقسيم المنطقة على قاعدة حقوق الأقليات.