لا تنسى السلطات الإيرانية أن الطبقة الوسطى ساهمت بقوة في الإيقاع بالشاه عام 1979، لذا وضعتها على رأس أولوياتها في القمع، تفنّنت في حصار الطبقة المثقفة المتعلِّمة وضيّقت على مواردها المالية، قصفَت رؤوس الاحتجاج فيها، ولجأت في النهاية إلى ضربها من الداخل من خلال تكتيك يعزف على أوتاره جيّدًا عتاة الديكتاتورية في العالم، عبر زرع طبقة موالية لها داخل الطبقة للإجهاز على ثوابتها التاريخية، وإشاعة الفساد والصراع داخلها، لتنتهي وتتحلّل ذاتيًّا.
عن الطبقة الوسطى
من الثابت تاريخيًّا أن الطبقة الوسطى في إيران، كان لها السبق في إنجاح مسار الثورة وترجيح خطة الإطاحة بنظام الشاه، إذ تحمّلت طليعة الطبقة المتعلِّمة من أساتذة وطلاب جامعات، الأضلاع الرئيسية في تشكيلات النُّخَب الفكرية، مسؤولية حشد الجماهير والترويج لسلمية الثورة، وربط مصالحها بمصالح كل الإيرانيين، عبر خطاب واعٍ رشيد.
يمكن القول إن بذور الطبقة الوسطى نثرَت في إيران خلال الآمال التي أطلقتها الثورة الدستورية بين عامَي 1905-1911، والتي سعت إلى إنشاء برلمان ذي صلاحيات واسعة، تستطيع خلق عقد اجتماعي جديد بين المواطن والدولة.
وشكلُ أحلام الطبقة الوسطى المتعلِّمة المتعطّشة للتواصل مع العالم الخارجي، تمّ نقله إلى الإيرانيين الأكثر فقرًا، الذين طُردوا من المناطق الريفية وتكدّسوا في شقق حضرية صغيرة، ولم يكن أمامهم مفرًّا من تبنّي تطلعات الطبقة الوسطى لأطفالهم في المستقبل.
مع تأميم صناعة النفط في الخمسينيات من القرن الماضي، تصاعدت التطلُّعات الديمقراطية التي تأسّست عليه، وساهمت في الإطاحة بالزعيم الشعبي رئيس الوزراء محمد مصدق، صاحب الجهد الأكبر في عملية تأميم النفط بواسطة الشاه، عبر مساعدة وكالة المخابرات المركزية وجهاز المخابرات السرّية عام 1953، لتقوّيا من جذور الطبقة الوسطى وتطلُّعاتها في البلاد.
استمرّت تفاعلات الطبقة الوسطى في التصاعُد خلال عقدَين متتاليَين، ووصلت إلى قمّة فورانها مع عمليات التحديث الواسعة والحريات النسبية التي عاشتها إيران خلال سبعينيات القرن الماضي، إذ توقّفت طهران عن العمل كقوة تابعة لأي قوة عالمية أخرى.
حرص الشاه محمد رضا بهلوي على تتبّع سياسات قومية ساهمت في زيادة إشعال الإقليم، عبر التدخُّل المباشر في شؤون الدول الأخرى لصالح الملكية ضد المدّ الثوري الذي خلفته حقبتَي الخمسينيات والستينيات في المنطقة، ونشرَ الشاه قواته وطائراته الحربية لدعم السلطنة العمانية ضد اليساريين في السبعينيات.
لعبَ بهلوي على وتر إعادة المجد الفارسي، ما ساهم في دعم تطلُّعات الطبقة الوسطى وزيادة حماسها أكثر بضرورة بناء إيران القوية القادرة، وإن كان حنقها على فساد الشاه لم يتأثّر، بل زادت نقمة الجميع عليه، وخاصة الطبقة التجارية التي دفعت أكثر من غيرها فاتورة الأحلام الإمبريالية ومغالاة الشاه في فرض الضرائب عليها.
ساهم أصحاب المتاجر في الأعمال الاحتجاجية، التي رُتِّبت للإطاحة بالنظام الملكي من خلال تمويل المتظاهرين ورجال الدين الثوريين، كما أعلنَ رجال الأعمال الإيرانيون في أكثر من مناسبة عن دورهم في تنظيم إضرابات عامة شلّت الحياة التجارية والعامة في البلاد، ما شكّل ضغطًا هائلًا على النظام، وكل ذلك إلى جانب عوامل أخرى ساهمت بنهاية المطاف في الإطاحة بالشاه.
في صفّ المعارضة
بعد الثورة، أدرك نظام الجمهورية الإسلامية الجديد قوة الطبقة الوسطى، والتهديد المحتمَل الذي يمكن أن تشكّله على بقائه، فعملَ بشكل منهجي على تقويضها وتجريدها من قوتها، وبدأت سلسلة المحاصرة بانتهاك الحقوق القانونية للعمّال.
أعلن آية الله روح الله الخميني، مؤسِّس الجمهورية الإسلامية، بعد نجاح نظامه في الاستحواذ على الحكم، عن تخفيض إجازات العمّال ورفض مطالبهم بإنشاء نقابات مستقلّة وتحسين الأجور، في وقت تشكّلت فيه ملامح بيئة غير آمنة للجميع بسبب القمع المفرَط.
رفضت السلطات الإيرانية حرية تكوين الجمعيات والحق في المفاوضة الجماعية، ودمّرت كل محاولة للعمّال لتنظيم صفوفهم كما كان الحال قبل الثورة، وجرى التعامُل مع أي نشاط عمّالي باعتباره جريمة معادية للأمن القومي الإيراني، وصلت فيها المعاقبة بعض الأحيان إلى الإعدام، الأمر الذي أرهبَ قادة نقابات العمّال ونشطاء حقوق العمّال والصحفيين.
لم تتهاون الدولة مع النشطاء الذين حاولوا الاستمرار رغم الأجواء الخانقة، وواجهت كل تحرُّك لهم للاعتراض على سياساتها بأعمال انتقامية قاسية شملت الاعتقالات التعسُّفية والعنف، واستمرت على ذلك لعقود متتالية.
السنوات الطويلة من الضغوط وغلق كل شرايين الاعتراض السلمي، دفعت بالنهاية الآلاف للتمرُّد والنزول للشوارع، للاحتجاج على ظروف العمل القاسية وعدم دفع الأجور وزيادة تكاليف المعيشة، من خلال ما عُرف باسم حركة الاحتجاج الإيرانية التي ظهرت في ديسمبر/ كانون الأول 2017.
لكن لم تتراجع الدولة، واستمرت في اعتقال العمّال المتظاهرين بتُهم تتعلق بالأمن القومي، وحكمَ القضاء على الكثير منهم بعقوبات تتراوح بين الجلد والسجن وفقًا لمنظمة العفو الدولية، كما واجه أبرز نشطاء النقابيين عقوبات سجن طويلة، وتعرّضوا للتعذيب وسوء المعاملة أثناء الاحتجاز، ومضايقات وعنف مستمرَّين من قبل قوات الأمن، كما فصلتهم الدولة من وظائفهم بعد الإفراج عنهم لتشريدهم وإذلالهم.
الحركة الخضراء
من اللافت للنظر أن كل الإجراءات القمعية بحق الطبقة الوسطى، لم تنهِ شرارتها، بل كانت لها تأثيرات واضحة في الانتخابات الرئاسية المتنازَع عليها عام 2009، والتي فاز فيها محمود أحمدي نجاد بولاية ثانية على حساب المرشحَين المنتميَين إلى حزب الخضر، مير حسين موسوي ومهدي كروبي، وكلاهما دفعَ ثمن ظهور الطبقة الوسطى في السياق السياسي والاجتماعي، وتمّ وضعهما قيد الإقامة الجبرية.
لكن الحركة الخضراء نجحت في التأسيس على رفض ما حدث في هذه الانتخابات، واتّهام النظام بتزوير الانتخابات لترجيح كفّة أتباعه، ومرة أخرى بدأت الطبقة الوسطى تعبِّر عن نفسها من خلال تنظيم أصحاب المتاجر والتجّار إضرابات عامة ومظاهرات وتجمُّعات أدان فيها آلاف المتظاهرين بشدة نتائج انتخابات عام 2009، التي اعتقدوا هُم ومراقبون آخرون أنها مزوَّرة ولم تكن نزيهة.
من الداخل
لم تجد الدولة الإيرانية مفرًّا من اللُّجوء لإجراءات مختلفة للسيطرة على هذه الطبقة المزعِجة من الداخل، من خلال توليد نخبة سياسية واقتصادية موالية لها من داخل الطبقة، كل غايتها حماية مصالحها التجارية والقتال من أجل ضمان بقائها.
عملَ الحرس الثوري الإسلامي، الذي يسيطر بشكل فعّال على الاقتصاد والموارد، على استقطاب الشخصيات الغنية والمؤثرة الذين يفضِّلون مصالحهم على حساب أي قيمة أخرى، لا سيما أن الصعوبات الاقتصادية التي يعاني منها الإيرانيون منذ عام 2009، أدّت لانهيار حادّ في قيمة العملة الإيرانية، ما أثّر على مصالحهم بشكل مباشر.
ولعبَ النظام معهم على تمرير مصالحهم مقابل قمع العمّال من الداخل، لتشكِّلَ هذه الفئات حائطَ صدّ أول للدفاع عن النظام، باتِّباع سياسات انتقامية ضد النشطاء وتهديدهم بالتشريد، وأقدمت بالفعل على فصل كل رؤوس التنظيمات لدرجة أن بعض رجال الأعمال الموالين للنظام، نفّذ تهديداته بإغلاق مصانع وشركات تشهد شريحة كبيرة فيها من العمّال والموظفين حالة من التمرد، وتمّ تسريحهم جميعًا تحت حماية الدولة.
أدّت هذه الإجراءات إلى المزيد من الضغط على أفراد الطبقة الوسطى اقتصاديًّا واجتماعيًّا، ليفقدوا خلال السنوات القليلة الماضية الكثير من قوتهم السابقة وتأثيرهم في الشارع الإيراني، خاصة بعد تزايُد الضغوط الاقتصادية خلال فترة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، التي ساهمت في انهيار الطبقة الوسطى تمامًا.
تكشفُ العديد من الدراسات أن أغلب سكّان إيران أصبحوا يتقدّمون بطلبات للحصول على مدفوعات المساعدة الحكومية الضئيلة في السنوات الأخيرة، بعد التراجُع الحاد في متوسِّط دخل الأسرة السنوي، وانخفاض قيمة الحد الأدنى للأجور إلى حوالي 70 دولارًا فقط في الشهر، وفقًا لمسح دخل وإنفاق الأُسر الإيرانية الذي أجراه المركز الإحصائي الإيراني.
أجبرت هذه الضغوط الشرسة أبناء الطبقة الوسطى على تغيير أنماط حياتهم، والكثير منهم أصبح يلجأ لبيع منازله في المناطق الميسورة للانتقال إلى الأحياء الأكثر فقرًا، مثل تلك الموجودة في جنوب طهران، وأصبح شغل أبناء هذه الطبقة الشاغل البقاء على قيد الحياة.
نجحت السلطة أيضًا في وصم أبناء الطبقة الوسطى بالفساد بعد أن كانوا يتظاهرون ضده، بسبب انهيار قيمة العملة وما نتجَ عن ذلك من زيادة الأعباء التي تواجه رجال الأعمال الصغار، ولم يجد بعضهم مفرًّا من التلاعُب بجودة المنتجات وارتكاب عمليات احتيال تجاري في المطاعم والأسواق وغيرها، لعدم قدرتهم على زيادة الأسعار بما يواكب ارتفاع التكاليف الجديدة.
ساهمَ شيوع الفساد بين أبناء رجال الأعمال المحسوبين على الطبقة الوسطى، أن الغالبية العظمى من الإيرانيين لم يعودوا قادرين على دفع ثمن البضائع غير الأساسية لارتفاع أسعارها، كما أصبحوا بارعين بشكل متزايد في الإصلاحات المنزلية وإعادة تدوير ممتلكاتهم مثل الأجهزة الإلكترونية والملابس.
ضيّقت السلطة خيارات الطبقة الوسطى، وأصبح الحلم الرئيسي لها الآن البحث عن بيئة بديلة، فالقمع الممنهَج ومصادرة الحريات الشخصية والجماعية تسبَّبا بشكل مباشر في زيادة طالبي اللجوء الإيرانيين منذ العامَين الماضيَّين.
فقد زادت أيضًا أعداد الإيرانيين الذين هاجروا بطُرُق غير شرعية إلى بريطانيا وحدها، التي نزحَ إليها أكثر من 40 ألف إيراني خلال الأشهر القليلة الماضية، رغم التشديدات الأوروبية على الحدود لمواجهة موجات الهجرة الإيرانية إليها، إلّا إن أقصى ما يمكن أن يتعرّضوا له لن يكون مثل الويلات التي تسبّب لهم فيها النظام، الجاثم على صدر البلاد منذ 5 عقود ولا يبدو أنه سيتم إزاحته بأي شكل، بعد أن ربطَ بقاءه ببقاء مؤسسات القوة على حساب المواطن وكرامته وكبريائه.