إذا كنت شابًّا سوريًّا على أبواب التخرّج، فعوضًا عن التخطيط لإكمال دراستك الأكاديمية، أو البدء بمشروعك الخاص وتحديد مسارك المهني، أو الاستعداد لخطبة الفتاة التي تحبّها، عوضًا عن أيٍّ من ذلك، فإن وثيقة بحجم الكف تسمّى “دفتر خدمة العلم” ستحيطُ كالقيد بمعصمَيك، معيقةً إياك عن إنجاز ما ترغب به، لتجدَ نفسك مرغمًا على تجميد أحلامك، ووضع خططك الشخصية وطموحاتك جانبًا، والتفكير بأمر واحد هو.. سبيل الخلاص!
قاتل أو ذليل أو مقتول
يعرِّف الدستور في سوريا الخدمة العسكرية أو خدمة العلم على أنها واجب مقدَّس، ويُلزم بأدائها كل من بلغ سنّ الثامنة عشرة، كما إن الموقع الرسمي لوزارة الدفاع يصفها بأنها مرحلة هامة وأساسية من حياة الشاب السوري، يكتسب من خلالها شرف الانتساب إلى القوات المسلّحة ليصبح مؤهَّلًا للدفاع عن أرض الوطن، وتشتدّ صلابته البدنية والمعنوية، بل يهذّب نفسه ويمارِس هواياته ويبني علاقات جديدة، لكن بين هذه التعابير البرّاقة والواقع بونٌ شاسع.
منذ أن نخرَ الفساد مؤسسات الدولة في سوريا، أضحت الخدمة العسكرية عبوديةً من نوع آخر، يخضع فيها المجنَّدون لأوامر الضبّاط الأعلى منهم رتبة، حتى بلغ الأمر بهم أن يتحوّلوا من خدمة العلم والوطن إلى خدمة هؤلاء الضبّاط وأُسرهم، ما يعني حراستهم الشخصية وتلبية متطلّباتهم مهما كانت وفي أي وقت.
يُضاف إلى ذلك ما يتعرّض له المجنَّدون من قسوة التدريبات البدنية، والإساءات اللفظية والجسدية، وعقبات الحصول على إجازة دون دفع الرشاوى، وتدنّي جودة المعسكرات بمرافقها العامة والطعام المقدَّم فيها وأماكن النوم والإقامة، وانتهاك حق المجنَّد بأداء الشعائر الدينية كالصلاة مثلًا، وتجريده من هويته المدنية واستبدالها بأخرى عسكرية ما يُعرقل قيامه بالمعاملات الرسمية.
رغم ذلك وفيما مضى، تحمّل كثيرٌ من الشباب السوريين هذه المعاناة، على اعتبار أنها مؤقّتة تنتهي بانتهاء سنتَي الخدمة، لكن ما جرى بعد اندلاع الثورة السورية جعلَ حتى بعض مؤيّدي نظام الأسد ومناصريه يحاولون المماطلة في أداء الخدمة العسكرية، والتهرُّب منها بشتى الوسائل الممكنة ثم الفرار منها نهائيًّا.
حيث زجَّ النظام بالمجنَّدين في معركته لقمع الثورة، واستخدمهم كوقود لاستمرار هذه المعركة، إذ أمرهم بدايةً بإطلاق النار على المدنيين العُزَّل، وليس أمام الواحد منهم إلّا أن ينفِّذَ الأمر فيَقتل أو يرفضه فيُقتل، أو ينشقّ عن صفوف الجيش فيعرّض نفسه وأسرته لمخاطر جمّة.
ثم تركهم ليلاقوا مصيرهم على الجبهات، عندما دخلت الثورة مرحلة التسليح، غير مبالٍ بمن يُصاب منهم أو يضحّي بحياته أو يرزح تحت وطأة الظروف المتردّية، كشحِّ الغذاء والحرمان من وسائل التدفئة، وفوق هذا كله لا تتجاوز الرواتب التي يمنحهم إياها في أحسن حالاتها 100 ألف ليرة سورية (أي ما يعادل 40 دولارًا بحسب سعر الصرف في البنك المركزي).
واليوم بعد أن استعادَ النظام سيطرته على أغلب المناطق المحرَّرة، وهدأت جبهاته في كثير من المدن والقرى، يرفض التخلي عمّن جنّدهم خلال السنوات العشر الأخيرة أو من يطلبهم للتجنيد حاليًّا، ويحتفظُ بهم إلى أجلٍ غير مسمّى، وإن كان رأس النظام يصدر بين الحين والآخر مرسومًا يحدِّد شريحة عمرية ضيّقة لتسريحها، إلا إن كثيرًا من الشبّان الذين أُجبروا على الخدمة ما زالوا محتجَزين لديه، يقبعون في ثكنات لا شيء فيها سوى الرضوخ وانتظار المجهول.
وعليه، إنَّ سعي الشاب السوري للنجاة من أداء هذه الخدمة سعيٌ مشروع مبرَّر، لكنه في هذه الحالة محكوم ببضع خيارات، هي -على مرارتها- أحلى بالنسبة إليه من أن يكون قاتلًا أو ذليلًا أو مقتولًا في سبيل نظام مجرم.
لا فرار ولا استقرار
التأجيل هو طلب سنوي يتقدّم به من بلغَ سنّ التكليف بالخدمة في حال إكمال دراسته الجامعية، ليؤخِّر سحبه للتجنيد حتى تخرّجه، ويُمنَح حق الاستمرار به إلى آخر مسيرته الدراسية إذا ما رغب بنيل الماجستير والدكتوراه، لذا إن التأجيل هو الخيار الأول الذي يلجأ الشباب إليه، ويرون فيه فرصة ذهبية لكسب المزيد من الوقت قبل الانتقال للخيارات الأخرى.. كيف ذلك؟
لا تؤثّر هذه الحالة المتأرجِحة على طموحات الشباب العلمية والمهنية فحسب، بل تطال حقًّا من أبسط حقوقهم حين تشكِّل حاجزًا يعيقهم عن الزواج وبناء الأُسرة.
يتحدّث ح. (26 عامًا) عن تجربته، قائلًا: “ساورني القلق في سنتي الدراسية قبل الأخيرة إزاء نفاد فُرص التأجيل الدراسي، عندها رسبت متعمِّدًا لأكسبَ سنةً إضافية”.
ويكمل ح. شارحًا وضعه الحالي: “تعثّرَ سفري بعد التخرج واضطررت لدراسة الماجستير. الإكمال بالماجستير ليس هدفي وهو أمر شكلي لا أوليه ما يكفي من الاهتمام، فالعمل بجدّ لتوفير تكاليف السفر هو ما أعطيه الأولوية وأسخّر له جهودي”.
وبما أن التأجيل يبقى حلًّا مؤقتًا مهما طال، فإن الشاب المؤجِّل يعيش حالة من التأرجُح، فلا هو مستقرّ يضمن الإقامة في وطنه، ولا هو مسافر فرَّ من الخدمة يحاول الاستقرار في وطن آخر.
ويكمل ح. عن هذه النقطة قائلًا: “لا يمكنني التكيُّف مع هذا الشعور، خاصة عندما يصاحبه شعوري باللاجدوى ممّا أفعله. أفكّر مثلًا بإطلاق العديد من المشاريع الريادية، أدرس شتى جوانبها فيبدو لي ألّا عائق أمام نجاحها، إلى أن يطفو على السطح تساؤل يخنقها في مهدها.. ماذا سيحل بهذه المشاريع عندما أسافر؟”.
في السياق ذاته يروي س. (30 عامًا) تجربته: “استمراري بالدراسة الجامعية كان فقط من أجل التأجيل، لم تعنيني الشهادة الجامعية يومًا، وكنت أفضِّل التفرُّغ لتطوير مهاراتي في مجال البرمجة، بالإضافة إلى عملي على مشروع صناعة المحتوى الذي شَغَفَني في الفترة الأخيرة، إلا إن قرار السفر المفاجئ نسفَ ما خطّطت له، وأطفأ حماسي”.
لا تؤثر هذه الحالة المتأرجِحة على طموحات الشباب العلمية والمهنية فحسب، بل تطال حقًّا من أبسط حقوقهم حين تشكّل حاجزًا يعيقهم عن الزواج وبناء الأُسرة، يقول ج. (25 عامًا) ملخّصًا الأمر من وجهة نظره: “نحن الشباب لا قرار لنا هذه الأيام.. فمن ترضى بمن لا قرار له؟”.
يُذكر أن الزيارة السنوية لشعبة التجنيد في سبيل إجراء معاملات التأجيل، تعدّ كابوسًا يؤرق الشباب ويزيد همومهم، لأن موظفًا واحدًا فيها وبسبب مزاجيته أو جهله بالأنظمة والقوانين، أو ولعه بتقاضي الرشاوى، قادر على التحكُّم بمصير أي شاب وتهديده بالحرمان من التأجيل.
يعلق ح. حول هذه النقطة: “لا يمكن إنهاء أي ورقة في شعب التجنيد دون دفع، قد يخترع الموظف أي سبب ليعقّد المسألة ويطلب لحلها رشوة، على سبيل المثال عندما تقدمت بطلب التأجيل لدراسة الماجستير، ورغم إحضاري كل الأوراق المطلوبة للقبول به، أصرَّ الموظف على ضرورة وجود وثيقة تخرُّجي التي لم تكن قد صدرت من الجامعة أصلًا”.
أما س. فيقصّ جانبًا من خوضه تجربة أصعب في هذا الشأن، ويقول: “لم أحصل على التأجيل الدراسي الأخير بسهولة، فالموظف أهمل إضبارتي وأخّرني ما يقارب الشهرَين، كان هذان الشهران أسوأ ما عشته في حياتي، لأني حُرمت من الوثيقة التي تثبت تأجيلي، وكنت معرّضًا للقبض عليّ والإساءة إليّ من قبل أي دورية أمنية لن تتفهّم سبب التأخُّر في صدور أوراقي، لذا لزمتُ منزلي طوال هذه الفترة، وشعور القلق يشتّتني ويعيقني عن ممارسة أعمالي.. هذا ما فعله بي موظف أغضبَته استعانتي بشخص كواسطة لتسريع الإجراءات”.
ما العمل عند استنفاد فرص التأجيل؟
السفر هو أول ما يفكر به الشباب في هذه الحالة، مع كون الخروج من البقعة الجغرافية المسماة سوريا صعب في أغلب الأحيان؛ فدُول الجوار تزيد القيود على دخول السوريين وإقامتهم، أما امتلاك تأشيرة سفر إلى باقي دول العالم أمر مكلف جدًّا وشبه مستحيل، فضلًا عن تحديات اندماج المغترب في المجتمعات الجديدة وحصوله على عمل يثبت فيه جدارته ويبني علاقاته من الصفر.
كما يُحرَم الشاب بسفره وفراره فرصة العودة إلى سوريا ورؤية عائلته التي تركها وراءه، كما يتعرّض لتضييقات عديدة خلال إجراء المعاملات الرسمية في سفارات النظام، وهنا يظهر البدَل كخيار مكمل للسفر، وهو مبلغ يمكن أن يدفعه المقيم خارج سوريا المكلَّف بالخدمة، فيفتدي به نفسه ويُعفى منها نهائيًّا.
وقد لعب نظام الأسد على هذا الوتر مؤخّرًا كمحاولة لجني أموال تنعش اقتصاده، مدركًا اضطرار كثير من الشباب على دفع البدَل تخفيفًا لأعباء اغترابهم، فأقرَّ بمرسوم تشريعي أثار الكثير من الجدل لائحةً بالمبالغ المطلوبة، التي تزداد قيمتها كلما قلّت سنوات الإقامة في الخارج، لتتراوح ما بين 7 إلى 10 آلاف دولار، وهي مبالغ يصعب تأمينها على شاب ما زال في بداية طريقه.
يدفع المتخلِّفون عن الخدمة غرامات مالية تتناسب طردًا مع طول فترة تخلُّفهم، ويتعرضون بعد التحاقهم للابتزاز من قبل الضباط المسؤولين عنهم.
يستسلم البعض في آخر المطاف ويسلّمون أنفسهم للتجنيد، حين يكون خيارا السفر أو دفع البدَل بعيدَي المنال بالنسبة إليهم، منهم ثوار انخرطوا في الحراك السلمي والمسلّح، ثم اضطروا لتسوية وضعهم الأمني والبقاء مكرهين في مناطق سيطرة النظام.
يسبق هذا الاستسلام محاولةٌ للمقاومة والتخلُّف عن الخدمة من خلال البقاء حبيسي جدران منازلهم، وثمة حكايات كثيرة تروى عمّا يلحق بأولئك من ضرر نفسي وجسدي جرّاء بقائهم على هذه الحال سنوات طويلة، ما يدفعهم للرغبة باستعادة حريتهم مهما كان الثمن.
يدفع المتخلِّفون عن الخدمة غرامات مالية تتناسب طردًا مع طول فترة تخلُّفهم، ويتعرضون بعد التحاقهم للابتزاز من قبل الضبّاط المسؤولين عنهم، وذلك بمفاوضتهم على الخدمة الجزئية، أي العودة لحياة شبه طبيعية، والإقامة مع أُسرهم وممارسة أعمالهم مع التردُّد على الثكنات العسكرية بين الحين والآخر، مقابل تخليهم عن مرتّباتهم ودفع مبالغ طائلة زيادة عليها، قد تصل لملايين الليرات السورية، إذا ما احتسبنا ضمنها تكاليف الهدايا الباهظة التي يتفنّن في طلبها أولئك الضباط.
كيفما اتجه الشاب السوري المكلَّف بالخدمة العسكرية، وأينما ولّى وجهه، ثمة طريقة لاستغلاله، فإمّا سلبه كرامته وربما روحه إن أدّى الخدمةَ، وإمّا استنزافه ماديًّا بتكاليف السفر والبدَل أو الخدمة الجزئية، وهو في كلتا الحالتَين مكبّل الإرادة والقرار، يذوي ربيع عمره أمام عينَيه دون أن يزهر فيه أي من أحلامه.
ويبقى سؤال “إلى متى سيبقى شبح الخدمة العسكرية جاثمًا فوق صدور الشباب السوريين؟” سؤال لا إجابة شافية له، طالما أن نظام الأسد المستبدّ يجثم بالأساس فوق صدور شعب كامل.