يبرز السلاح المنتشر لدى العشائر العراقية كأحد أهم أسباب تداعي الوضع الأمني داخل البلاد، إذ ما انفكت هذه الأسلحة تستخدم في النزاعات العشائرية وما يعرف محليًا بـ”الدكات العشائرية” التي تسببت في مئات الأحداث الدامية طيلة السنوات الماضية.
ويورد المؤرخ والأديب عباس العزاوي في موسوعته “عشائر العراق” المتكونة من 4 مجلدات والمؤلفة في النصف الأول من القرن الماضي تاريخ وأنساب العشائر العربية العراقية البدوية والريفية وامتدادها الطبيعي في دول الجوار، إذ جاءت الموسوعة لتعد فيما بعد من أقوى المراجع المتعلقة بالعشائر في العراق بما تضمه من أعداد العشائر وتفاصيل انتشارها.
سلاح العشائر العراقية هو موضوع تقريرنا هذا ضمن سلسلة تقارير “نون بوست” التي تتناول ملف السلاح في العراق.
سلاح العشائر قبل عام 2003
يعد العراق من الدول العربية التي تمتاز بتنوع العشائر العربية، فيقول أستاذ علم الاجتماع مصطفى العبيدي في حديثه لـ”نون بوست”: “العراق بطبيعته يتكون من عشرات العشائر العربية التي كانت ولا تزال تقطن مختلف المدن والمحافظات العراقية”.
ويضيف العبيدي “وبسبب طبيعة البلاد البدوية والصحراوية، فإن امتلاك هذه العشائر للسلاح ليس جديدًا، إذ يعود تاريخه إلى قديم الزمان وهو امتداد للعادات العربية المتوارثة عبر الأجيال، إلا أن هذه العشائر بدأت بامتلاك السلاح منذ مطلع القرن الماضي، ومع انهيار الدولة العثمانية ومجيء الاحتلال الإنجليزي سيطرت هذه العشائر على كميات من السلاح، فضلًا عن شرائها للسلاح لحماية ثرواتها الزراعية والحيوانية في المناطق البعيدة عن مراكز المدن”.
وعن انتشار السلاح لدى العشائر واستخدامه خلال السنوات الماضية في النزاعات البينية بين هذه العشائر، يقول العبيدي: “من خلال دراسة ميدانية لطبيعة العشائر العراقية، فإنه وعلى مدى العقود الماضية، كانت قوة العشائر العراقية تتناسب عكسيًا مع قوة الدولة، فمتى كانت الدولة قوية كانت هذه العشائر ضعيفة ومحدودة القدرة حتى لو امتلكت السلاح، والعكس بالعكس”.
أسباب انتشار السلاح لدى العشائر بعد 2003
تطورت قوة العشائر العراقية ومخزونها من السلاح عقب الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003، إذ يوضح أمير قبيلة بني مالك الشيخ ضرغام عرمش المالكي أن السلاح الموجود حاليًّا في جنوب العراق، غالبيته من تركة الجيش السابق، كما أن الحرب الأخيرة ضد تنظيم داعش أسهمت بتخزين السلاح في مدن الجنوب، مؤكدًا أن كثيرًا من هذه الأسلحة تسربت إلى التجار وباتت تجارة السلاح رائجة في جميع المحافظات العراقية.
إلى ذلك، أشار النائب بالبرلمان العراقي رعد المكصوصي إلى أن جميع حكومات ما بعد 2003 أخفقت في حصر السلاح بيد الدولة، لافتًا إلى أن جهات حكومية وأخرى سياسية متنفذة عملت على توزيع السلاح على العشائر لأهداف سياسية وأخرى تتعلق بتأمين مشاريعها في الجنوب والسيطرة على بعض الموارد عبر التهديد والابتزاز.
يتفق هذا الطرح مع ما أدلى به الخبير الأمني العراقي حسن العبيدي الذي يؤكد أن حكومتي نوري المالكي الممتدة بين عامي 2006 و2014 أسهمتا بشكل كبير في انتشار السلاح لدى العشائر، وأن رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي استخدم السلاح كهبات من أجل استمالة العشائر في الانتخابات البرلمانية والمحلية، فضلًا عن توزيعها على العشائر من أجل شراء ذمم بعض شيوخها، مع علمه المسبق أن هذا السلاح سيكون وبالًا على البلاد فيما بعد.
ويضيف العبيدي أن السلاح الذي تملكه العشائر كان يفوق في كثير من الأحيان ما تملكه الأجهزة الأمنية في المناطق التي تشهد نزاعات عشائرية، حيث استخدمت فيها الأسلحة المتوسطة وقذائف الهاون، بما جعل الدولة العراقية تواجه مشكلة باتت متجذرة وقابلة للانفجار في أي وقت، وهو ما يحصل فعليًا في مدن وسط وجنوب البلاد.
سلاح العشائر
وفق آخر إحصائية عن أعداد قطع السلاح المنتشرة في الدول العربية، حلّ العراق في المرتبة الثانية بعد اليمن بعدد يصل إلى 7.5 مليون قطعة سلاح خارج المنظومة الأمنية في البلاد، وهو ما أكده مصدر في وزارة الداخلية العراقية لـ”نون بوست” دون الإفضاح عن مزيد من التفاصيل بشأن توزيعها.
وفي الوقت الذي تؤكد الإحصائية هذه الأرقام، يرى الخبير الأمني رياض العلي أن هذه الإحصائية تفتقر للدقة، لافتًا إلى أن وزارة الداخلية العراقية ذاتها لا تعلم عدد قطع السلاح المنتشرة خارج المنظومة الأمنية، معللًا ذلك بافتقار العراق للإحصاءات ونشاط عمليات التهريب بين العراق وإيران، فضلًا عن السلاح الذي دخل من سوريا إلى العراق خلال سيطرة تنظيم داعش على مساحات شاسعة من البلاد بين عامي 2014-2017.
ويضيف العلي في حديثه لـ”نون بوست” “مشكلة سلاح العشائر مرتبط ارتباطًا وثيقًا بملف سلاح الفصائل المسلحة التي ينحدر غالبية مقاتليها من هذه العشائر، وبالتالي، فالمشكلة مركبة ومعقدة للغاية”، مستدركًا “قطع السلاح بالعراق خارج الوكالات الأمنية قد يتجاوز 12 مليون قطعة”.
هذا وشهدت محافظات العراق الوسطى والجنوبية مئات النزاعات العشائرية، إلا أن غالبيتها تتركز في محافظتي البصرة وذي قار، ثم تأتي محافظات ميسان والديوانية وبابل وواسط والعاصمة بغداد بوتيرة أقل.
من جانبه، يعلّق الخبير بالشؤون الأمنية والإستراتيجية أحمد الشريفي على سلاح العشائر بالقول: “الحكومة العراقية الحاليّة غير قادرة على ضبط السلاح المنفلت ومعاقبة المتاجرين به، لا سيما أن عملية بيع وشراء واستخدام السلاح لا تقتصر على العشائر، التي لا تزال تتمسك بعاداتها البدوية، بل تدخل على هذا الخط جهات حزبية وأخرى سياسية تسعى إلى تنفيذ مشاريعها”.
وتابع “العشائر كانت تمتلك السلاح في كل مراحل تاريخ العراق، لافتًا إلى أن ما يحدث في الوقت الحاليّ يختلف تمامًا عمّا سبق”، معللًا ذلك بأن ضعف الدولة جعل كثيرًا من شرائح المجتمع العراقي لا تثق بالقضاء والحكومة، وتلجأ إلى حل خلافاتها عبر السلاح.
أنواع الأسلحة وأعدادها
وبالعودة إلى وزارة الداخلية، تحدث المصدر عن أن العشائر تملك مختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة وما فوق المتوسطة مثل مدافع الهاون والقذائف المضادة للدروع وصواريخ الكاتيوشا ومختلف أنواع القنابل.
أما قائد شرطة البصرة الأسبق رشيد فليح فأوضح من جانبه، أن السلاح المنفلت في البصرة يعادل ترسانة فرقتين عسكريتين عراقيتين، وأضاف فليح “القوات الأمنية في البصرة لا تستطيع حصر السلاح بيد الدولة وانتزاعه من العشائر”، عازيًا ذلك إلى العديد من المشكلات والارتباطات التي تتمتع بها هذه العشائر مع نواب في البرلمان العراقي والسلطات التنفيذية والفصائل المسلحة.
أما الخبير الأمني رياض العلي فيؤكد من جهته أن العشائر تمتلك مختلف أنواع الأسلحة الخفيفة وتشمل مختلف أنواع الأسلحة الرشاشة الروسية والأمريكية والإيرانية، إضافة إلى الأسلحة الرشاشة المتوسطة والمضادة للطائرات التي تسمى محليًا بـ”الأحاديات”.
ويتابع العلي أن العشائر منذ عام 2003 باتت تمتلك سلسلة القذائف ومدافع الهاون بمختلف العيارات، إضافة إلى قاذفات الـ(RBG) والأسلحة القناصة وغيرها التي دائمًا ما تحيل سماء ليل مدن وسط وجنوب البلاد إلى نهار خلال النزاعات العشائرية التي قد تندلع لأسباب بسيطة وغير متوقعة.
وإثر امتلاك العشائر للسلاح، انتعشت تجارة السلاح في البلاد وزادت أسعارها في مختلف المناطق، فبحسب العبيدي يبلغ سعر بندقية الكلاشنكوف قرابة 900 دولار في الحد الأعلى، بينما تختلف أنواع المسدسات بحسب حداثتها ومنشأها بما قد يرفع سعرها إلى 3 آلاف دولار للأحدث منها، فيما يصل سعر الرشاشة الروسية المتوسطة من عيار 23 ملم إلى قرابة 40 ألف دولار، وهي من الأجيال القديمة لكنها لا تزال مستخدمة في الجيش والشرطة العراقية.
وبالعودة إلى أحمد الشريفي يؤكد أن العشائر والجهات المسلحة في وسط وجنوب العراق لا تمتلك المسدسات والرشاشات فقط، إنما هناك من يمتلك الصواريخ والمدافع والآليات، لافتًا إلى أن هذه العشائر قادرة على احتلال المدن، لامتلاكها الخبرة العسكرية في المواجهة.
الدكات العشائرية
لا تزال الدكة العشائرية منتشرة في مدن وسط وجنوب العراق، رغم أن القضاء بات يعتبرها من ضمن جرائم الإرهاب في البلاد.
وتعرف الدكة العشائرية على أنها ظاهرة قبليّة تتمسك بها قبائل وسط وجنوب العراق من أجل استرجاع الحقوق دون تدخل حكومي أو قضائي، فلا يكاد يمر شهر واحد دون تسجيل وزارة الداخلية عدة وقائع منها.
وتتمثل هذه الظاهرة بإقدام مسلحين من قبيلة معينة على تهديد أسرة تنتمي إلى قبيلة ثانية في بيتها، فتتم الدكة من خلال عملية إطلاق نار بمختلف الأسلحة بما فيها الثقيلة، أو إلقاء قنابل يدوية أحيانًا على منزل الجهة المستهدَفة، كتحذير شديد اللهجة وإرهاب لهذه العائلة بهدف إجبارها على الجلوس لتسوية الخلاف ودفع الغرامة أو فدية الصلح.
وبالعودة إلى الخبير في علم الاجتماع مصطفى العبيدي يؤكد أن ظاهرة الدكة العشائرية لم تكن معروفة في العراق قبل الغزو الأمريكي عام 2003، وكانت النزاعات العشائرية نادرةً جدًا، فكانت العشائر تقتصر على أخذ الثأر الذي دائمًا ما كان يجابه بالقوانين والمحاكمات والسجن أو الإعدام إن تسبب الحادث بالقتل.
ويتابع العبيدي “هذه العشائر استغلت ضعف الدولة وتراجع التعليم وانتشار البطالة والفقر وانتماء كثير من أفرادها للقوات الأمنية، إذ باتت محصنة من المساءلة والقوانين والقضاء، مع الأخذ بالاعتبار أن كثيرًا من عشائر وسط وجنوب البلاد باتت تمتلك مصالح اقتصادية من خلال عمليات تهريب النفط أو البضائع عبر الحدود، وبالتالي زاد امتلاكها للسلاح وازدادت مشاكلها”.
ووفق مصادر أمنية في وزارة الداخلية العراقية، بلغت أعداد النزاعات العشائرية المسجلة عامي 2020 و2021 قرابة 74 نزاعًا، إضافة إلى ما يقرب من 234 دكةً عشائريةً بمختلف المحافظات العراقية، وحصلت البصرة على المركز الأول فيها.
ويكشف المصدر أن النزاعات العشائرية منذ بداية عام 2021 وحتى تاريخ كتابة التقرير تسببت بمقتل 32 شخصًا، لافتًا إلى أن هذه الدكات العشائرية بدأت وتيرتها بالتراجع تدريجيًا بعد أن أصدر مجلس القضاء الأعلى تعليمات اعتبر فيها الدكات العشائرية إرهابًا، وبات مفتعلوها يعاملون قضائيًا وفق المادة الأولى من قانون مكافحة الإرهاب.