بالنسبة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فمن النادر أن تجد شيئًا اعتباطيًا دون أدنى مبالغة، فقد وصفه المعارض الإسلامي المعروف والمرشح السابق لرئاسة الجمهورية، حازم أبو إسماعيل، بأنه “ممثل عاطفي”، في إشارة إلى أن ضابط المخابرات الحربية الذي صار وزيرًا للدفاع في عهد مرسي، يقوم بتوليد هذه المشاعر اصطناعيًا للتأثير في الناس وأنها ليست طبعه أو مشاعره الحقيقية.
بشكل ما، أكد السيسي لاحقًا هذا الاستبصار المبكر، حينما أدلى إلى الإعلام، بعد أن كثرت لقاءاته المسجلة، بتصريح يقول فيه إن كلماته ينبغي أن “تعدي على فلاتر أولًا”، والفلتر – كما يعرفه المصريون – وسيلة لتنقية المياه من الشوائب، والغرض من هذا الاستخدام البلاغي أن السيسي يقول إن لا شيء متروك للصدفة.
وقد لاحظ مدونون بالفعل أنه حتى “مشية” (اسم هيئة للدلالة على طريقة أداء الشيء، كما يقول علماء اللغة) السيسي التي صارت ملازمةً له، حتى ركبت عليها الأغاني الشعبية الساخرة، مستعارةٌ من مشية الرئيس الروسي وصديق السيسي الذي لم يعد صديقه بعد أن تخلى عنه في أزمة سد النهضة، فلاديمير بوتين، إذ يتعمد السيسي في كل مناسبة أن يمشي منتصبًا باسمًا في مدخل المكان، والحرس على بعد أمتار منه عن يمين وعن يسار، مع تسليط الكاميرات عليه وتشغيل الأغاني الوطنية في الخلفية.
من هذا المنطلق، نحاول في هذه المدونة القصيرة، فهم رسائل السيسي التي أراد نقلها إلى الداخل والخارج من خلال هذه الزيارة، والاحتفالية الاستثنائية في الملعب الأعرق بالعاصمة، إستاد القاهرة، مساء الخميس الماضي.. فما تلك الرسائل؟
تطوير التواصل
قبل عدة أعوام، كان السيسي حذرًا للغاية من التواصل القريب مع الجماهير، وذلك خوفًا من أي طارئ أمني قد يؤثر على حياته ومسيرته، وتجنبًا لأي أخطاء تواصلية في الطريقة أو المضمون، تحسب عليه في هذا الوقت الحساس بعد الـ3 من يوليو/تموز 2013، حتى إن لقاءه الأول كمرشح للرئاسة مع الإعلاميين إبراهيم عيسى ولميس الحديدي، كان مسجلًا وليس مباشرًا.
كان إستاد القاهرة أيضًا مكانًا يرمز إلى “عدم التوقع وصعوبة التحكم” بالنسبة للسيسي، فعلى مدار أعوام ورغم دعاوى الاستقرار المزيف في الداخل المصري، فإن هذا الملعب بات رمزًا لمخاوف النظام من الجمهور والقلق من أي حدثٍ مباشر غير مرتب قد يسيء إلى النظام.
حرمت الجماهير من دخول هذا الملعب وغيره، وما زالت محرومة منه، إلا في استثناءات بسيطة ضمن المسابقات الكروية التي يشترك في تنظيمها مع الجانب المصري الاتحاد الإفريقي لكرة القدم، وذلك أيضًا، اتساقًا مع إرث الدم الذي ورثه المصريون في حق جمهور “أولتراس” أكبر فريقين في البلاد، الأهلي والزمالك، بعد مجزرتي بورسعيد والدفاع الجوي، على التوالي.
في ظهوره الأول والاضطراري في ملعب القاهرة قبل سنوات، حينما دفع السيسي في اتجاه استضافة مصر بطولة إفريقيا التي اعتذرت عن تنظيمها عدة دول لأسباب متفرقة، بدا السيسي قلقًا من النشاط غير الاعتيادي للجمهور الحاضر في المكان، الذي كان أغلبه من الشباب، حتى إن كلمته جاءت “من وراء جدار”.
تلعثم السيسي بعد وقوع خلل تقني أدى إلى مشكلة في الصوت وموجةٍ عاتية مباشرة من سخرية الجماهير الحاضرين في الملعب، كما تجنب لاحقًا حضور مباراة النهائي الذي كان منتخب الجزائر طرفًا فيها، خوفًا من أي سلوك غير متوقع لجمهور الخضر الذين لا يحبون السيسي ويناصبونه ما يمكن أن يسمى بـ”العداء”، مكتفيًا بإرسال رئيس وزرائه مصطفى مدبولي إلى حفل الختام.
من هذا المنظور، تعد هذه الزيارة موضع التحليل، حدثًا استثنائيًا وضربًا من تطوير التواصل، إذ يقول السيسي، من وجوده بين الجماهير، مع الإقرار بأنه جمهورٌ منتقى من مؤيدي النظام، إنه بات أكثر قدرةً على التواصل شبه المباشر مع الجماهير، بعد كثير من الحوادث غير السارة، وذلك عقب زيارته إلى أحد أكثر أماكن القاهرة غيابًا للتخطيط وانتشارًا للجريمة، عزبة الهجانة، واستقراره على زيارة “كل جمعة” لمتابعة العمل في إنشاءات شرق القاهرة المؤدية إلى العاصمة الجديدة، حيث يلتقي ببعض المواطنين في الشارع، مع إمكانية المداخلة الصوتية في برنامج “الحكاية” الذي يقدمه الإعلامي البارز عمرو أديب على قناة “إم بي سي” السعودية بين الحين والآخر، وهو نمطٌ متقدم ومتنوع من الاتصال قياسًا على التحفظات السابقة التي كانت تعتري ظهور السيسي إلى المجتمع.
الريف الجديد
السبب المعلن والمباشر لوجود السيسي في ملعب القاهرة في هذا التوقيت، كان تدشين مشروع “الريف المصري الجديد”، نظريًا، يستحق هذا المشروع القومي الاحتفاء الواسع به، إذ نتحدث عن تطوير ما يصل إلى 4 آلاف قرية، في 3 سنوات، بقيمة قد تتجاوز 700 مليار جنيه مصري.
لكن ما لن يخبرك به الإعلام المصري، أن هذا المشروع في الأساس يعود إلى جمال مبارك نجل الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، الذي أطلقه حينما كان أمينًا للجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم حينها، ويجري تأهيله خليفةً لوالده الهرم في كرسي الحكم، وذلك قبل أن تعصف بهما ثورة يناير/كانون الثاني 2011، تحت عنوان “تطوير الألف قرية الأكثر احتياجًا”.
أطلق السيسي هذا المشروع القومي بالتزامن أيضًا مع إطلاقه مشروعًا إسكانيًا ضخمًا باسم “سكن كل المصريين” الذي يبدأ بإنشاء نصف مليون وحدة سكنية لمتوسطي الدخل
حاول الرئيس الأسبق محمد مرسي، من خلال رئيس حكومته هشام قنديل، إعادة بعث هذا المشروع، على أساس كونه مشروعًا جاهزًا لن يحتاج تخطيطًا لتحسين حياة القرى في مصر، إلا أن الوقت لم يسعفه، إذ وقع انقلاب الـ3 من يوليو/تموز 2013، بعد عام واحد فقط من حكم مرسي.
شأنه شأن كثير من المشروعات التي سطا عليها نظام السيسي، على غرار العاصمة الإدارية الجديدة (مشروع القاهرة 2050) لم يجرؤ أحد في الإعلام المصري على الإشارة إلى أن جذور هذا المشروع تعود إلى عهد بائدٍ خاص بالرئيس مبارك، وذلك حينما أطلقه السيسي، من جديد، كمبادرةٍ محدودة تحت عنوان “حياة كريمة”، قبل نحو عامين.
تزامن الإطلاق الأول (غير الرسمي) لمشروع الريف الجديد، مشروعًا قوميًا لا مبادرة في عهد السيسي، مع ما يعرف بمظاهرات الموجة الثانية من سبتمبر/أيلول عام 2020، التي اندلعت من قرى ونجوع مصر، لا من المدن كما كان معتادًا، احتجاجًا على عنف النظام في تطبيق “قانون التصالح على مخالفات البناء”، واستجابةً لدعوة المقاول المعارض محمد علي، الذي سبق واستطاع حشد الشارع في نفس التوقيت من العام السابق لهذا العام، احتجاجًا على ما كشفه من وقائع فساد خاصة بالرئيس وعائلته (القصور الفارهة) في هذا التوقيت.
أطلق السيسي هذا المشروع القومي بالتزامن أيضًا مع إطلاقه مشروعًا إسكانيًا ضخمًا باسم “سكن كل المصريين” الذي يبدأ بإنشاء نصف مليون وحدة سكنية لمتوسطي الدخل فيما يعرف بـ”عواصم المحافظات”، وذلك بالتزامن مع مؤشرات خروج الإدارة الأمريكية السابقة المتهاونة مع السيسي من البيت الأبيض، إدارة ترامب، ومجيء رئيس يساري أكثر تربصًا بالسيسي، ومن هنا، وفقا لمحللين، نشأت الحاجة إلى “مشروعات قومية” تجدد شرعية الرئيس أمام العالم، وتساعد في التفاف الجماهير حوله، خاصةً أنه يسوق إلى أن حقوق الإنسان الحقيقية، هي حقوقه الأساسية في العمل والإسكان والحياة الكريمة، وأنه لا مجال للحديث عن الحريات السياسية في بلدٍ من بلاد العالم الثالث مثل مصر.
بالإضافة إلى تحسين أوضاع الناس، فإن المشروع يهدف إلى إحكام السيطرة “العسكرية” على الريف من خلال تعيين ضابط لكل قرية، والتوسع في تغيير ديموغرافيا البلاد من خلال توسيع سيطرة الجيش عليها في الاتجاهات الإستراتيجية الرئيسية.
في الاتجاه الشمال الغربي، تشرف القوات الجوية على مشروع زراعي ضخم يسمى “مستقبل مصر” (الدلتا الجديدة)، وفي الاتجاه الشرقي تشرف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة على تدشين “العاصمة الإدارية الجديدة”، وفي الحدود مع سيناء يجري نزع الطابع البدوي عن المجتمعات التقليدية بعد إزالة مدينة رفح، واستبدالها بتجمعاتٍ صغيرة من تصميم وإشراف الجيش.
كما يهدف المشروع إلى تعزيز رقابة النظام على الريف المصري، من حيث حركة الأموال والأصول من خلال تعزيز ما يعرف بالتحول الرقمي ومنظومات حصر الأراضي والأصول، جنبًا إلى جنب مع تمهيد الريف المصري للقبول بالتغييرات الديمغرافية التي بشر بها السيسي، من حيث خفض معدلات المواليد والاستعداد إلى الآثار السلبية المتوقعة من مشروع سد النهضة، ضمن حزمة إجراءاتٍ على رأسها: إجبار الفلاحين على الري المميكن ورفع أسعار المياه وإجبار المزارعين على التخلي عن زراعة الحاصلات المستهلكة للمياه وتبطين الترع بقيمة تصل إلى 70 مليار جنيه لتقليل هدر المياه.
أطلق الريف الجديد، على الهواء، من خلال وثيقة، وقع عليها الرئيس السيسي، وهو عرف صار متبعًا فيما يعرف بالجمهورية الجديدة، بعد تدشين وثيقة مشابهة في افتتاح قاعدة جرجوب البحرية، مطلع الشهر الحاليّ.
السيسي لا يزال يمارس “الوصاية الأبوية” على الشعب المصري، بدأت تلك الوصاية من جانبه حينما بادر بالتحرك ضد الرئيس المنتخب منذ 8 أعوام
خلافًا لما يدعيه النظام من كون الجمهورية الجديدة هي تدشين لحكم دستوري حديث، فإنها، في الواقع، تقوم على تعزيز حكم الفرد الذي ينتمي إلى الجيش وتوسيع نفوذ الجيش في كل طبقات الحياة المدنية والتوسع في الاقتراض من أجل تدشين المشروعات القومية وربط الاقتصاد المحلي بالمصالح الخارجية والتوسع في صفقات السلاح الضخمة والتخلي التدريجي عن الدعم وتبني سياسات مناهضة للإسلام السياسي وسياسات أقل تشددًا للاحتلال الإسرائيلي، وهو قوام “التجربة المصرية”، ذلك المصطلح الذي يتحدث عنه السيسي كثيرًا، ويسعى لنقله إلى كثير من دول المنطقة.
5 رسائل خاصة بسد النهضة
الرسالة الأولى فيما يخص أزمة سد النهضة وبالأخص بعد تدويل القضية في مجلس الأمن، وخذلان كثير من الدول للنظام المصري، هي ألا يقلق المصريون، وحاول السيسي نقل هذه الرسالة إلى الداخل بشتى الطرق، فحينما كان المجلس منعقدًا لمناقشة الملء الثاني منذ أسبوع، كان السيسي يمتطي دراجته في زيارة إلى العلمين الجديدة، في إشارة إلى أن كل الأمور تحت السيطرة، داخليًا وخارجيًا.
الرسالة الثانية، وهي نفس الرسالة التي أراد السيسي توجيهها إلى الرأي العام العالمي فيما يخص قضية سد النهضة، التي شدد عليها في كلمة المتحدث العسكري “غير الرسمي” للجيش والصديق المقرب من السيسي العميد ياسر وهبة خلال افتتاح القاعدة البحرية مطلع يوليو/تموز الحاليّ، أن الخيار العسكري ليس مطروحًا وحسب، بل هو محل اتفاقٍ بين المؤسسة السياسية والمؤسسة العسكرية، فـ”قبل ما يحصل حاجة لمصر، لازم أروح الأول أنا والجيش”، على حد قول السيسي في الإستاد.
هذه الرسالة ترتبط بالدور الذي لعبه الجيش لصالح السيسي منذ الـ3 من يوليو/تموز 2013، فحكم البلاد لم يكن مجرد صدفة، وإنما كان حلمًا قديمًا يتضمن رؤى وتفاصيل كثيرة عن شكل البلاد المرجو وحياة الناس المنشودة، كما أوضح السيسي في مستهل كلمته، وقد ساند الجيش السيسي في كل محطاته، بدايةً من تأييده في ترشحه للرئاسة بعد اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، إلى المشاركة في عمليات فض الاعتصامات بالقوة، إلى جانب الشرطة، وصولًا إلى تنفيذ المشروع القومي الأول الذي شد شريط باقي المشروعات، وهو حفر قناة السويس الجديدة في العام الأول لرئاسة السيسي مباشرةً.
الرسالة الثالثة، أنه بعد فشل محاولات ترسيم خط أحمر في ملف سد النهضة يتعلق بالملء الثاني، وذلك بعد إصرار وشروع الجانب الإثيوبي في هذا الملء دون موافقة دولتي المصب، إذ اكتفت إثيوبيا بمجرد إخطار مصر والسودان، فإن الخط الأحمر لم يعد مرتبطًا بقرار معين انفرادي من الجانب الإثيوبي، وإنما بات مرتبطًا بحالةٍ ووضع، وهو أن تتأثر حصة مصر التاريخية من المياة البالغة 55 مليار متر مكعب سنويًا، وهو خط أحمر فضفاض يعطي مساحة من الحركة لمتخذ القرار، قياسًا على ربط استخدام القوة الخشنة بقرار الملء الثاني.
الرسالة الرابعة، أن السيسي لا يزال يمارس “الوصاية الأبوية” على الشعب المصري، بدأت تلك الوصاية من جانبه حينما بادر بالتحرك ضد الرئيس المنتخب منذ 8 أعوام، فأيدته طائفة من المجتمع بمنحه “تفويضًا” لتسيير أمورها في الشهر التالي، ومنذ ذلك التوقيت، بات السيسي يستمرئ قمع صوت الجماهير رمزيًا، تارة بالقول:”متسمعوش كلام حد غيري أنا”، ومرة بنهر المجتمع عن الاستمرار في الحديث عن قضية “تيران وصنافير”، وصولًا إلى استخدام اسم فعل الأمر، كما يصفه خبراء اللغة والاتصال، قائلًا: “بلاش هري!“.
الرسالة الأخيرة، أن النظام في ذروة انشغاله المفترض بقضية سد النهضة، فإنه متيقظٌ للداخل بكل جوارحه، فالعداء الجذري للإخوان المسلمين لا يزال مستمرًا، كما شدد السيسي في مستهل كلمته، وذلك اتساقًا مع أحكام الإعدام الأخيرة التي أصدرها القضاء بحق قيادات الجماعة، وأعين النظام مصوبة على كل كبيرة وصغيرة في الفضاء الافتراضي الداخلي، بدليل اصطحاب المواطن الذي تعرض للصفع على يد محصل سعر الخدمة في أحد القطارات العامة، إلى مؤتمر تدشين مشروع الريف الجديد، وهي رسالة إلى كل من يهمه الأمر في الداخل: عيوننا مفتوحةٌ على أدق التفاصيل، دولة يناير/كانون الثاني 2011 العجوز المترهلة التي كانت تترك الأمور على عواهنها قد ولت.