بنظرات قوية وعيون يحددها الكحل العربي الأصيل، ووشم يعلو الذقن بقليل، وعباءة تكسو قوام ممشوق، وخلخال يتأرجح يمينًا ويسارًا أسفل الساق الممدودة للأمام، وشعر يتطاير فوق الأكتاف، وهمهمات بلغة غير مفهومة، استقبلتنا تلك الفتاة العشرينية الجالسة على الرصيف تبيع المسك والبخور، على أحد أرصفة مدينة كفر صقر بمحافظة الشرقية.
اقتربنا منها قليلًا فإذ بأعذب الألحان تطرب الأسماع، وهي تسوق لبضاعتها المطروحة على منضدة من الكرتون أمامها، صوت أجش وتمايل مع اللحن كأنك أمام مايسترو يقود أوركسترا داخل الأوبرا المصرية، تصول وتجول في محاسن بخورها، وتأخذك في جولات مكوكية لإقناعك بجودة المسك الذي تبيعه.
“شمة”.. فتاة لا يتجاوز عمرها 23 عامًا، تجلس القرفصاء تبيع بعض المنتجات العطرية وعيدان البخور الهندية، تظل على حالها هذا من العاشرة صباحًا وحتى أذان المغرب، يتناوب عليها شقيقاتها التسعة وأخاها الوحيد، يأتون بالطعام والشراب لها، ثم يعاودون كل إلى حيث عمله.
الغجر في مصر.. شريحة ليست بالقليلة، تعاني من التهميش والتجاهل، حتى وصفوا بأنهم “بدون المحروسة” فلا أوراق ثبوتية لهم، ولا حقوق يتمتعون بها كغيرهم من مواطني الدولة، اختاروا العزلة فاختارتهم، مالوا نحو الابتعاد عن المجتمع بتعقيداته فلفظهم، بنوا حصونهم الشاهقة بعيدًا عن مضايقات العامة، لهم عاداتهم الغريبة وطقوسهم المثيرة للجدل.. فماذا نعرف عنهم؟
أوضاع مأساوية
“منذ ولادتي لا أعرف لي بيتًا ولا بلدًا إلا تلك العشة (الخيمة) التي أحيا فيها مع والدتي ووالدي.. أما أخي فله بيته الخاص به، وهو من الطوب الني (اللبن) يعيش فيه مع أبنائه وزوجته”.. هكذا بدأت “شمة” تحكي قصتها بعد أن اطمأنت إلى أننا لا نسعى لإيذائها وأقاربها.
تعمل غالبية النساء في البيوت كخادمات، وبعضهن في قراءة الكف والطالع، أما الرجال فيعملون في صناعة المناخل وعمل المسامير وتدريب القرود
تضيف تلك الفتاة العشرينية أنها لا تملك بطاقة هوية ولا أي ورق يثبت متى ولدت، فقط هي تعرف والديها وأخواتها، وهذا عُرف غالب القرية التي تقطن فيها، التي تسمى على اسمهم “قرية الغجر”، فمن النادر أن تجد شخصًا يحمل أوراقًا رسميةً، فهم ليسوا بحاجة إليه.
“نعيش هنا من كدنا وتعبنا ومن عملنا” هكذا تجيب ردًا على سؤالها عن مصدر دخلها، مؤكدة أنهم لم يحصلوا على أي مساعدات أو منح من الحكومة أو الأهالي، لافتة إلى أنهم يفضلون البعد عن الناس والحياة بمعزل عن المجتمع، مضيفة: “ليسوا شبهنا، ولا يعرفون طباعنا، لذا البعد عنهم راحة”.
وتعمل غالبية النساء في البيوت كخادمات، وبعضهن في قراءة الكف والطالع، أما الرجال فيعملون في صناعة المناخل وعمل المسامير وتدريب القرود، بجانب الانضمام لبعض الفرق المسرحية والعمل كبهلوانات في الموالد، والغلبة في العمل للمرأة، كونها الأكثر إعالة للأسر.
“نرد” وهي فتاة بلغت الثلاثين من عمرها فتقول: “منذ أن ولدت وجدت نفسي أعمل خادمة في أحد منازل الكبار في الزقازيق (عاصمة محافظة الشرقية) ولا أعرف إلا والدتي، أما والدي فلا أعرف من هو، وليس لدي أي أوراق”، مضيفة “كتر خير الناس اللي عندهم أكرموني وأعطوني أكثر مما أتمنى دون أن يهمهم من أنا”.
وتضيف في حديثها لـ”نون بوست” أن أكثر من مرة طلب منها صاحب المنزل الذي تعمل فيه أن يتقدم لها بطلب لاستخراج شهادة ميلاد وتوفير أوراق ثبوتية لها حتى تستطيع أن تتحرك، لكنها رفضت، فهي تخشى الانخراط في المجتمع لما تواجهه أحيانًا من تنمر من البعض ممن لديهم صورة ذهنية مشوهة عن الغجر ومن ينتسبون إليهم.
عادات غريبة
يعتقد الغجر حزمة من العادات والتقاليد الغريبة، بعضها قد يتعارض مع القانون والعرف، لكن لهذه الفئة عرفها وقانونها الخاص دون أي اعتبارات أخرى، ومن أبرز تلك العادات منع الزواج من غير الغجر، فالفتاة الغجرية أو الشاب الغجري ممنوع من الزواج من خارج القبيلة وإلا سيعرض نفسه للعقاب.
البعض ذهب في تفسير هذا الانغلاق إلى إحساس الغجر بأنهم مرفوضون دائمًا من المجتمع ومهمشون بصورة كبيرة، ما دفعهم لكراهية هذا الوسط بصورة أو بأخرى، رافضين الانخراط بداخله صهرًا أو نسبًا، تجنبًا لأي مشاكل قد تقع مستقبلًا، ومع ذلك هناك بعض النماذج التي شذت عن تلك القاعدة.
ومن غرائب الزواج عندهم أن الزوج لا يدخل على زوجته إلا بعد 40 يومًا، تكون العلاقة فيها تحت الاختبار، حتى يتعود كل طرف الآخر، فإن سرت الأمور بشكل طبيعي وبدأ التآلف بين الزوجين كانت العلاقة الحميمية وإلا يكون الانفصال مبكرًا.
أما المهر فيتم تحديده بناء على مهارات الفتاة في الرقص والسرقة والعمل والتقليد وخلافه، وكلما زادت مهارات المرأة زاد مهرها الذي يكون عبارة عن قطع ذهبية، وكلما زادت عدد تلك القطع تبارت الفتاة أمام أقرانها بما لديها من إمكانات ومهارات ربما لا تتمتع بها غيرها.
وينحصر التقاضي عندهم كما هو حال الكثير من القبائل الحدودية في مصر لا سيما في الصعيد (جنوبًا) في المجالس العرفية، فلكل قبيلة كبارها من الرجال الثقات لديهم، وأي مسألة أو خلاف يتم حله وفق هذا المجلس العرفي (يسمى عندهم مجلس المغارم) الذي من المفترض أن يلتزم بقراراته وأحكامه الجميع.
وفي حال عدم الخروج بنتيجة مرضية للجميع من هذا المجلس يكون اللجوء إلى ما يعرف بـ”البشعة” وهي تلك السكينة المعدنية التي يتم تسخينها حتى يحمر لونها ثم توضع على لسان المشكوك في أمره أو المتهم، فإن كان بريئًا نزلت السكين على لسانه بردًا وسلامًا دون إيذائه، أما إن كان مذنبًا فيتعرض للارتباك الأمر الذي يفقده أعصابه فيتحرك فيصاب لسانه وهنا تثبت التهمة عليه.
المرأة.. عمود الخيمة
بحسب العادات الغجرية فإن المرأة هي عمود الخيمة ورأس سنام القبيلة والمسؤول الأول عن استمرارها وبقائها على قيد الحياة، فهي رب البيت ووزير ماليته، وعليها تقع مسؤولية العمل وجلب المال والإنفاق على الأسرة، هذا في الوقت الذي ربما يكون فيه الرجال في البيوت بلا عمل، لذا تحرص العائلات هناك على إنجاب البنات أكثر من الذكور، فهذا بالنسبة لهم مؤشر خير وبركة.
تحترف الغالبية العظمى من نساء الغجر، ثلاث مهن رئيسية
تقول “سُلامة” إن مكوث المرأة في البيت أمر مخزٍ وفاضح، وعلى المرأة أن تكون في مقدمة الصفوف نحو العمل والكد والبحث عن لقمة العيش، على عكس الأزواج، فكثير منهم قد لا يجد فرصة عمل ويظل في البيت يقوم بأعمال الطهي وخلافه في انتظار عودة زوجته.. لافتة إلى أن هذا ليس عيبًا كما في المجتمعات العادية.
وتحترف الغالبية العظمى من نساء الغجر، بحسب “سُلامة” ثلاث مهن رئيسية: الأولى: صناعة الخزف والحرف اليدوية وتسمى “خزانة”، الثانية: السرقة وتسمى “قصاصة”، أما المهنة الثالثة فهي الغناء والرقص في الموالد وتسمى “ربابة” هذا بخلاف مهن أخرى كالخدمة في البيوت وقراءة الكف.
ورغم تجريم السرقة في القانون المصري، فإن الغجر لا يرون في ذلك أي جريمة أو مشكلة، وعلى عكس ذلك فهم يعتقدون بأن السرقة حلال، إذ إن كل الأموال هي ملك لله، ولا بد أن توزع على الناس بالتساوي، وفي حال عدم قدرتهم على الحصول عليها بالطرق التقليدية فليس هناك حرمة في الحصول عليها عنوة بالسرقة.
وهناك قواعد تحكم مجال السرقة المنتشر بين الغجريات، على رأسها عدم سرقة امرأة غجرية لامرأة غجرية أخرى، بجانب عدم سرقة الفقراء والمحتاجين، وتجنب إيذاء كبار السن والعجزة في أثناء السرقة، مع تجريم سرقتهم، وفي حال مخالفة أي من تلك القواعد يتعرضن للعقوبات من كبار القبيلة ومجلس المغارم الخاص بها.
تاريخ الغجر في مصر
تتباين الأقاويل بشأن تاريخ وجود الغجر في مصر، غير أن الراجح منها يذهب إلى أن بدايتهم كانت في الفترة من 1546 و1549، حينها كان وجودهم في جنوب البلاد، في قرى الصعيد النائية وأطرافها الحدودية، وكان بمثابة الغرباء في أرض المحروسة لما بدر منهم من عادات وتقاليد لا تتناسب والمجتمع المصري آنذاك.
يسمى الغجر في مصر بأسماء عدة أبرزها الهنجرانية والتتر والمساليب، وهم ينقسمون إلى 3 أقسام رئيسية: الغجر والحلب والنور، وتذهب بعض الروايات إلى أنهم جاءوا من بلاد الشام والهند وسكنوا آسيا وشمال إفريقيا، غير أن امتهانهم للمهن التي يراها المصريون متدنية كانت السبب وراء العزوف المجتمعي عنهم.
تتميز حياة الغجر بالترحال، فهم لا يستقرون في مكان واحد لفترة طويلة، ولعل هذا يرجع إما إلى طبيعة عملهم التي تتطلب التنقل (الرقص في الموالد وقراءة الكف والسرقة) وإما لما يتعرضون له من مضايقات من المجتمع الذي يتعامل معهم على أنهم غرباء رغم مرور أكثر من نصف قرن على وجودهم في مصر.
ليس هناك إحصاءات رسمية بشأن أعدادهم الحقيقية في البلاد، كما أن الكثير منهم يتنصل من أصوله الغجرية أحيانًا هربًا من المضايقات، الأمر الذي يجعل من تقديم رقم محدد دال على أعدادهم على أرض الواقع غير موضوعي بالمرة، لكن كل المؤشرات تذهب إلى أن الأعداد تتجاوز عشرات الآلاف.
يميل الغجر لسكن المناطق المتطرفة والنائية والقرى والصحاري، كونها بعيدة عن المدن والأماكن المكتظة بالسكان، ما يقلل من احتكاكهم ببقية أطياف الشعب، لكن أبرز أماكن تمركزهم تنحصر في كفر الغجر بالشرقية وقرى طهواي بالدقهلية، بجانب حوش الغجر بسور مجرى العيون بمصر القديمة والمقطم ومنشية ناصر بالقاهرة.
كان الغجر مادة دسمة للكثير من الأدباء العالميين، كما هو الحال في رواية “مئة عام من العزلة”
وتحتضن محافظة الدقهلية أكثر من أربعة آلاف غجري: في مركز السنبلاوين 2000 غجري وفي طلخا 1500 وفي المنصورة والجمالية 500، هذا بجانب العشرات ممن يقطنون القرى الحدودية مع الشرقية ودمياط، وأغلبهم من الرحالة المتنقلين الذين يسكنون الخيام وليس لديهم منازل ثابتة.
وفي المقابل، ليس كل الغجر مشردين هكذا، لكن منهم من نجح في الانخراط بالمجتمع ممتهنًا العديد من المهن التي يصنفها المجتمع “محترمة”، وكثير منهم خلع عباءة الانتماء لتلك القبيلة وبدأ يحيا حياته العادية بين المصريين، كما أن لبعضهم شهرة فائقة كما هو حال الفنان الشعبي المعروف، الريس متقال والريس شمندي والفنانة الفلكلورية الشهيرة خضرة محمد خضر.
لم يتمركز الغجر في مصر وحدها، فلهم في العديد من دول العالم قصص وحكايات، بعضها مسل والآخر تراجيدي، غير أن السمة الأبرز التي تخيم على تلك الحكايات الممارسات العنصرية التي تستهدف هذه الفئة المشردة في دروب العالم، كما تقول الأغنية الشهيرة El Camino للفرقة العالمية جيبسي كينج “أجد نفسى حزينًا وحيدًا أبحث في الطرقات عن الدرب.. أنا مشرّد في العالم والدرب دربي أنا، أنا غجري وبشرتي سمراء وأسناني ذهبيّة، أنا المشرد في هذا العالم”.
فالغجر – عكس ما يعتقد الكثيرون – ليسوا أقلية أو طائفة نادرة الوجود، بل هم شعب مكتمل الأركان، وإن كانت سماته محل جدل وتقييم من الكثير من باحثي الاجتماع وعلوم الأنثروبولوجيا، فكان موطنهم الأساسي هو الهند ثم بدأت الهجرة الأولى الكبرى هربًا من الواقع هناك لينشطروا إلى جماعات متنقلة، متخذين من الترحال مصيرًا لهم في كل دولة، حتى باتت كل الدول أوطانهم.
ونتاجًا لهذا الوجود المجتمعي والحضور التاريخي، كان الغجر مادة دسمة للكثير من الأدباء العالميين، كما هو الحال في رواية “مئة عام من العزلة” لغابرييل غارسيا ماركيز، ورواية “أحدب نوتردام” لفيكتور هوغو، كذلك رواية “مزحة العذراء الصغيرة” للروائي الجزائري عمارة لخوص، وكتاب “نحن أولاد الغجر” للأديب المصري الراحل أنيس منصور.