“لأول مرة منذ عام 2002، قدم سفير إسرائيل لدى إثيوبيا أدماسو الالي، أوراق اعتماده عضوًا مراقبًا لدى الاتحاد الإفريقي”، هكذا أعلنت وزارة الخارجية الإسرائيلية في بيان لها، الخميس 22 من يوليو/تموز الحاليّ، انضمام بلادها لعضوية الاتحاد القاري مرة أخرى، دون تفاصيل توضح خلفيات هذا التحرك.
وزير الخارجية العبري يائير لابيد، علق على هذه الخطوة قائلًا: “هذا يوم احتفال بالعلاقات الإسرائيلية الإفريقية”، متابعًا “ذلك سيساعدنا على تعزيز أنشطتنا في القارة الإفريقية، ومع الدول الأعضاء في الاتحاد”، فيما أشار بيان الوزارة أن ما أسماه بالإنجاز “سيصحح الحالة الشاذة التي كانت موجودة منذ قرابة عقدين، وهو جزء مهم من تعزيز نسيج العلاقات الخارجية لإسرائيل”.
تأتي هذه الخطوة لتكسر حالة العزلة الإفريقية التي عانت منها تل أبيب منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، إثر حركات التحرر من الاستعمار الأجنبي للعديد من دول القارة وتصاعد الصراع العربي الإسرائيلي، ما جعل القضية الفلسطينية القضية الأبرز والأكثر مركزية بالنسبة للشعوب الإفريقية الراغبة في التخلص من ربقة الاستعمار.
وعلى مدار ما يقرب من عقدين كاملين حاولت دولة الاحتلال بشتى السبل البحث عن موطئ قدم لها داخل القارة السمراء لما تمثله من أهمية إستراتيجية تخدم الأجندة الإسرائيلية التوسعية في المنطقة، غير أنها فشلت في تحقيق هذا الهدف الذي ظل عصيًا لسنوات طويلة.
وفي الأعوام الأخيرة تحديدًا شهدت العلاقات الإسرائيلية الإفريقية طفرةً هائلةً في التقارب، قابل ذلك تراجع ملحوظ في الوجود العربي، وتقليص واضح للجهود الدبلوماسية الداعمة للقضية الفلسطينية إفريقيًا، لتكون النتيجة المنطقية قبول الدولة المحتلة بإجماع معظم دول القارة عضوًا مراقبًا في الاتحاد الإفريقي.. فما الذي حدث؟
استطاع الإسرائيليون في غضون أعوام قليلة أن يخترقوا جدار العزلة الدبلوماسية إفريقيًا، لتمتلك الدولة العبرية حتى كتابة هذه السطور علاقات دبلوماسية مع 40 دولة من بين 45 دولة تتكون منها القارة السمراء
إزالة العقبات
كانت هناك عقبات عدة في طريق تل أبيب نحو الانضمام للاتحاد الإفريقي، أبرزها الموقف السياسي الواضح من دولة جنوب إفريقيا التي تعتبر دولة الاحتلال نظام فصل عنصري، متبنية الرواية الفلسطينية في مسار الصراع العربي الإسرائيلي.
وظلت بريتوريا حجر عثرة أمام تحقيق الحلم العبري إفريقيًا، ومع انتخاب رئيسة جنوب إفريقيا نيكوزينا دلاميني – زوما رئيسة للاتحاد في 2012، خيمت حالة من التشاؤم على الأجواء الإسرائيلية بشأن الوصول إلى منصة هذا الحلم، وعليه كان تقليص الجهود الدبلوماسية في هذا الاتجاه، إيمانًا بمعارضة زوما لأي تحركات من هذا القبيل.
غير أن الوضع تغير نسبيًا بدايات 2018، حين انتخب رئيس رواندا، فول كاغما، زعيمًا للاتحاد، ما أحيا الآمال مجددًا لدى الإسرائيليين، لا سيما في ظل العلاقة القوية التي كانت تربط بين كاغما برئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، إذ تبادلا الزيارات خلال السنوات الأخيرة، الأمر تعزز أكثر مع تولي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي رئاسة المنظمة عام 2019.
وخلال تلك الفترة نجحت تل أبيب بفضل جهودها الدبلوماسية في فتح قنوات اتصال مع العديد من دول القارة، فيما استأنفت العلاقات الدبلوماسية مع دول أخرى مثل تشاد، الأمر الذي عزز من رصيد وثقل دولة الاحتلال داخل الاتحاد وهو ما كان له صداه القوي في إنهاء العزلة القارية.
ورغم رئاسة جنوب إفريقيا للاتحاد الإفريقي هذا العام، فإن ذلك لم يحل دون انضمام “إسرائيل” لهذا الكيان، ما السبب؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى أن الأنظمة التي تعاقبت على حكم جنوب إفريقيا طيلة العقود الست الماضية كانت ترسخ لسياسة “التضامن الكامل مع فلسطين من خلال المصير الموازي الذي عاناه كلا الشعبين تحت الاحتلال الاستعماري، وأن هناك ميلًا طبيعيًا لجنوب إفريقيا ما بعد الفصل العنصري للوقوف بحزم مع حقوق الفلسطينيين ومواصلة الدفاع عن كرامة الإنسان والحرية”، حسبما أشارت الدبلوماسية السابقة بحكومة جنوب إفريقيا والمستشارة السياسية زينات آدم.
غير أن الدبلوماسية السابقة كشفت عن حالة من الانقسام الواضح في السنوات الأخيرة في الموقف الرسمي لبلادها من القضية الفلسطينية، لافتة أن المواقف العلنية تؤيد حق الشعب الفلسطيني أما الممارسات والإجراءات والمواقف لا تعكس أبدًا هذا الموقف العلني، على سبيل المثال السماح للإسرائيليين بدخول البلاد دون تأشيرة مقارنة بالفلسطينيين، بخلاف حجم التجارة المنتعشة بين جنوب إفريقيا ودولة الاحتلال الذي يعكس قوة العلاقة بينهما، بحسب تصريحاتها لـ”الجزيرة“.
ضعف التشبث الجنوب إفريقي برفض انضمام “إسرائيل” للاتحاد، يمكن قراءته بصورة أكثر واقعية في ضوء مهرجان التطبيع الذي قادته الدول العربية الشقيقة للدولة الفلسطينية، وعلى رأسها الإمارات، هذا بجانب انخراط بعض دول القارة التي كانت في السابق حجر عثرة أمام تحقيق الحلم الإسرائيلي في هذا المضمار مثل المغرب والسودان، بخلاف الصمت الذي خيم على بعض الدول الرافضة سابقًا كالجزائر.
وأمام هذه الوضعية الجديدة، تخلي بريتوريا عن حماسها في رفض الطلب الإسرائيلي، وهرولة بعض الدول العربية للتطبيع مع دولة الاحتلال، فترت مواقف معظم الدول المتعاطفة مع القضية الفلسطينية، سواء من العرب أم الأفارقة، التي تجنبت الدخول في معارك جديدة مع تل أبيب بحكم المصالح المشتركة.. الأمر الذي عبد الطريق تمامًا لتحقيق الحلم الذي مر عليه أكثر من 60 عامًا كاملة.
الدول العربية التي سعت هي الأخرى لتعزيز وجودها ونفوذها في إفريقيا خلال العقد الأخير كالإمارات بوجه خاص، وكان يؤمل عليها البعض – افتراضًا – لعرقلة التمدد الإسرائيلي، تحولت بدورها إلى جسر سياسي لتعميق النفوذ العبري داخل القارة
اختراق كامل للقارة
في أعقاب حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، أغلقت العديد من السفارات الإسرائيلية في الدول الإفريقية، وبدأت مرحلة من الخناق الدبلوماسي على دولة الاحتلال، تعاطفًا مع مصر والقضية العربية، لكن سرعان ما خرجت تل أبيب من تلك الشرنقة خلال السنوات الأخيرة.
واستطاع الإسرائيليون في غضون أعوام قليلة أن يخترقوا جدار العزلة الدبلوماسية إفريقيًا، لتمتلك الدولة العبرية حتى كتابة هذه السطور علاقات دبلوماسية مع 40 دولة من بين 45 دولة تتكون منها القارة السمراء، بينهم 10 دول بها سفارات كاملة على أعلى مستويات التمثيل، في حين أن 15 دولة إفريقية لديها سفارات دائمة في “إسرائيل”.
وتميزت فترة حكم نتنياهو بالتوغل داخل مفاصل القارة في المجالات كافة، إذ تعززت العلاقات مع الدول الإفريقية في مجالات الأمن وبناء البنية التحتية، فيما تبارت دولة الاحتلال في تقديم المساعدات للحكومات الإفريقية في مجالات التكنولوجيا والسايبر والفضاء والتطوير الزراعي وتحلية المياه، وغيرها من مجالات التعاون المشترك، ليحقق رئيس الحكومة السابق شعاره الشهير “إسرائيل تعود إلى إفريقيا، وإفريقيا تعود إلى إسرائيل”.
تهدف الدولة العبرية من خلال جهودها الدبلوماسية الإفريقية لتدشين محور تحالفي جديد مع دول القارة، يحول دون التصويت ضدها في المحافل الدولية، أو على الأقل تلتزم تلك الدول الـ54 الحياد بدلًا من التصويت المضاد لها، كما حدث في السنوات الماضية.
يذكر أن الدول الإفريقية تبنت تصويتًا مناهضًا لـ”إسرائيل” في المحافل الدولية طيلة الـ1400 تصويت التي تمت منذ 1990، وعليه تأمل دولة الاحتلال في تغيير هذه المواقف لصالحها، مستغلة حالة التصدع التي تعاني منها العلاقات الإفريقية الإفريقية التي تحول دون التصويت ككتلة واحدة كما كان في السابق.
التوغل الإسرائيلي داخل القارة لم يقف عند حاجز المكاسب السياسية المتمثلة في فتح قنوات اتصال دبلوماسي مع معظم دول إفريقيا فحسب، بل تجاوز ذلك إلى تحقيق حزمة من المصالح الاقتصادية المحورية، فقد حققت عشرات الشركات الإسرائيلية مئات الملايين من الدولارات في صورة استثمارات داخل القارة، هذا بجانب استغلال ثرواتها المادية والنفطية والمعدنية التي تميزها عن غيرها من قارات العالم.
وتشير الأرقام إلى تنوع الاستثمارات الإسرائيلية في الدول الإفريقية، منها مثلًا 150 مليون دولار في كينيا، وقرابة 105 ملايين في نيجيريا، و70 مليونًا في أوغندا، مقابل 60 مليونًا في الكاميرون، و33 مليونًا في إثيوبيا، فضلًا عن توقيع “إسرائيل” اتفاقية مع منظمة “قوة إفريقيا” (Power Africa) التابعة لـ”وكالة التعاون والتنمية الأمريكية” (USAID) المتخصصة بإقامة مشاريع الطاقة في القارة الإفريقية.
هزيمة للدبلوماسية العربية
ما كان لـ”إسرائيل” أن تحقق تلك النجاحات في العمق الإفريقي بمعزل عن التراجع العربي الواضح والانسحاب شبه الكامل من القارة، وتذيل البعد الإفريقي قائمة أولويات العرب التي يتصدرها بالفعل البعد الغربي والأمريكي، فضلًا عن تباين الأجندات وتعارضها في كثير من الساحات والملفات.
منذ تسعينيات القرن الماضي والهوة بين العرب وإفريقيا تتسع يومًا تلو الآخر، لا سيما قوى الارتكاز العربي الأكثر تأثيرًا في المنطقة، وفي المقدمة منها القاهرة التي نسجت خيوطًا جديدة للتقارب مع الخليج والغرب – وفق معايير مستحدثة – على حساب العمق الإفريقي الجنوبي، وهو ما أدى في النهاية إلى تآكل ثقلها لحساب قوى أخرى، على رأسها إثيوبيا، تلك الدولة وثيقة الصلة بالكيان الإسرائيلي.
لم تبذل الحكومات العربية أي جهود دبلوماسية تذكر للتصدي للتوغل الإسرائيلي إفريقيًا، رغم ما يحمله من تهديد صريح للأمن القومي للعديد من الدول كالسعودية ومصر والسودان، وعلى العكس من ذلك هرولت تلك الدول للتقارب مع تل أبيب وفق أجندة جديدة من المعطيات التي تضع في الحسبان العداء لإيران والتصدي لجماعات الإسلام السياسي كأولويات تسبق القضية الفلسطينية وتداعيات التغلغل الإسرائيلي في مفاصل القارة الإفريقية.
إن كانت الجهود الدبلوماسية التي بذلتها “إسرائيل” بوابتها لتحقيق حلم الانضمام للاتحاد الإفريقي بما لهذه الخطوة من مكاسب على كل المسارات، فإن الأنظمة العربية كانت كلمة السر التي حولت هذا الحلم من الخيال إلى أرض الواقع
حتى الدول العربية التي سعت هي الأخرى لتعزيز وجودها ونفوذها في إفريقيا خلال العقد الأخير كالإمارات بوجه خاص، وكان يؤمل عليها البعض – افتراضًا – لعرقلة التمدد الإسرائيلي، تحولت بدورها إلى جسر سياسي لتعميق النفوذ العبري داخل القارة في ظل العلاقات الحميمية التي تربط بينها وبين تل أبيب، ولعل مشروع سد النهضة الإثيوبي خير دليل على هذا التجانس العربي الإسرائيلي الإفريقي غير المسبوق حتى ولو على حساب مصالح دولة عربية شقيقة.
وفي الوقت الذي أعربت فيه بعض المنظمات الإفريقية كتحالف الحملة العالمية لمقاطعة “إسرائيل” في جنوب إفريقيا “بي دي إس” (BDS) عن قلقها إزاء “التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا” الذي يتم تسهيله من خلال الضغط والابتزاز من نظام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المنتهية ولايته، بل وطالبت إدارة جو بايدن بإلغاء “صفقة القرن” والانتصار لحقوق الشعب الفلسطيني، يلاحظ برود سياسي غير مسبوق من الدول العربية التي اكتفت بدور المشاهد للتغير الواضح في ملامح الخريطة القارية، الأمر الذي يعكس بشكل كبير مكانة القضية الفلسطينية وملف الصراع العربي الإسرائيلي في قائمة أولويات العقل العربي الحاكم.
وفي الأخير فإن كانت الجهود الدبلوماسية التي بذلتها “إسرائيل” بوابتها لتحقيق حلم الانضمام للاتحاد الإفريقي بما لهذه الخطوة من مكاسب على المسارات كافة، فإن الأنظمة العربية كانت كلمة السر التي حولت هذا الحلم من الخيال إلى أرض الواقع، لتتواصل هدايا الحكام العرب للحليف الإسرائيلي الذي يبدو أن مكاسبه من الخذلان العربي ستتجاوز الانضمام لهذا الكيان إلى ما هو أبعد… ولعل الأيام القادمة تحمل الكثير من المفاجآت.