تعيش تونس أزمة مركبة متعددة الأوجه بين ما هو اجتماعي ومالي واقتصادي إضافة إلى السجالات السياسية الحادة بعد التخبط الحكومي في إدارة الأزمة الصحية الناتجة عن جائحة كورونا، الأمر الذي دفع الرئيس التونسي إلى إصدار أوامره للجيش بتحمل مسؤولية مكافحة الوباء بعد إقالة وزير الصحة المحسوب عليه من رئيس الحكومة هشام المشيشي، في خطوة توحي بعمق القطيعة بين الرئاسات الثلاثة وبأنه لا مؤشرات تلوح في الأفق لوضع حد لحالة الانسداد السياسي.
في ظل هذه الأزمة، ارتفعت الدعوات المطالبة للخروج إلى الشارع يوم 25 من يوليو/تموز من أجل تحميل الطبقة الحاكمة مسؤولية ما آلت إليه البلاد من تدهور اقتصادي وانهيار المنظومة الصحية بفعل حالة العطب السياسي وسوء إدارة الشأن العام.
حراك 25 يوليو
بدأ الحراك بدعوات على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي لأشخاص مجهولي الهوية السياسية والاجتماعية، غير أن ما يعرف بـ”المجلس الأعلى للشباب” المزمع تكوينه من عدة منظمات شبابية، الذي لم يحظ بعد بالإجماع وسط الشباب التونسي، كان أكثر الداعين للتحرك.
ففي بيان عنونه بـ”انتفاضة 25 جويلية 2021″ طرح المجلس عدة أسباب دفعته للدعوة إلى التحرك الشعبي وانتفاضة ثانية لتصحيح المسار، معطيًا جملة من الإجراءات التي تكفل وفق تصوره نجاح الخطوة ومن بينها: الاستنجاد بالجيش واعتقال جميع السياسيين والمستشارين ورؤساء الحكومات ووزراء ونواب وكتاب دولة ومعتمدين وحل البرلمان وجميع الأحزاب.
ويبدو أن الدعوة للنزول إلى الشارع لتحريك الرأي العام وتغيير الوضع القائم لم يلق استجابة إلا من فئة الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي، أي أن النداءات لم تجتز مرحلة الاستحسان الافتراضي، فيما تعمل بعض الوجوه التي تحوم حولها شبهات على تصدر المشهد مقدمة نفسها في الصفوف الأولى للحراك، ومن بينها:
فاطمة المسدي: نائب سابق بالبرلمان التونسي عن نداء تونس ثم كتلة الحرة لمشروع تونس عرفت بعدائها الشديد لحركة النهضة وفشلت في يونيو/حزيران 2020 رفقة عدد من الناشطين في قيادة حراك لإسقاط البرلمان.
محمد الهنتاتي: داعية إسلامي مثير للجدل بآرائه ومواقفه المشهورة كالإفطار قبل يوم العيد انتمى سابقًا لحركة النهضة ثم انقلب مدافعًا عن منظومة الثورة المضادة وأحد المساندين لقيس سعيد والداعين لتفعيل الفصل 80 وحل البرلمان.
المنجي الرحوي: سياسي تونسي ونائب مستقل بالبرلمان انتمى سابقًا لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد أحد مكونات الجبهة الشعبية التي قادها الراحل شكري بلعيد، أعلن مساندته لحراك 25 يوليو قائلًا إنه يساند دعوات النزول إلى الشارع ويدعم أي تحرك جماهيري سلمي واسع يستهدف كنس المنظومة الحاليّة المتمثلة في البرلمان والحكومة.
الأميرال العكروت: جنرال تونسي متقاعد من الجيش الوطني، دعا في وقت سابق الرئيس قيس سعيد إلى تفعيل الفصل 80 من الدستور لإعلان التعبئة العامة لمكافحة كورونا، وتوجيه كل موارد البلاد البشرية والمادية لمواجهة الوباء، وهي دعوة وصفها السياسيون للزج بالمؤسسة العسكرية للانقلاب على المسار الديمقراطي.
إضافة إلى هذه الأسماء، يبدو أن بعض الأحزاب في تونس خاصة التي تُمثل حزامًا سياسيًا للرئيس قيس سعيد التي أعلنت في الظاهر رفضها الحراك لعدم وجود شخصيات وازنة ومؤثرة، ستعمل على الاستثمار في نتائجه حال نجح في تحريك الرأي العام وستعمل على جني ثماره بما يخدم أجندة ساكن قرطاج القائمة على تعفين الوضع العام وترذيل النخبة السياسية.
وهو الموقف الذي أعلنه صراحة أمين عام حركة الشعب زهير المغزاوي لبعض وسائل الإعلام العربية بقوله: “لم نرَ دعوات واضحة من قيادات بارزة في بعض الأحزاب، لكننا نساند كل حراك شعبي مدني وسلمي يطالب بإسقاط المنظومة والكوارث التي تسببت فيها، رغم خطورة الوضع الصحي في البلاد”.
تحرك خافت
رغم محاولات الحشد الفيسبوكي، شككت أطراف سياسية تنتمي إلى الائتلاف الحاكم في نجاح هذا التحرك الاحتجاجي، مشددة على الاهتمام بأولويات أخرى على غرار معاضدة جهود الحكومة في التصدي للوباء، واتهمت القائمين على هذه الدعوة بالعمل على ضرب الاستقرار وتعميق الأزمة التي تعيشها البلاد.
وفي السياق ذاته، أشار القيادي بحركة النهضة ووزير الخارجية الأسبق رفيق عبد السلام إلى أن “احتجاجات 25 يوليو المزعومة ستقودها القوى الثورية المغوارة، يتقدمها نجوم الفشل الثلاث: منجي الرحوي وفاطمة مسدي ومحمد الهنتاتي، ستكون مراهنة على الخيبة مجددًا”.
بدوره، طلب عصام الشابي، الأمين العام للحزب الجمهوري، من النيابة العامة فتح تحقيق بشأن بيانات المجلس الأعلى للشباب الداعية لمحاكمة الطبقة الحاكمة، فيما أكد حزب العمال في بلاغ له أنه لن ينخرط في مسيرات 25 جويلية أو يسير وراء دعوات مجهولة المصدر تقف وراءها أوساط غير معلومة أو مشبوهة.
وأضاف أن بعض الداعين لهذا التحرك له علاقة بالمخابرات الصهيونية أو بأوساط يتناقض طرحها السياسي تمام التناقض مع قناعات الحزب ومواقفه مثلما جاء في بيان ما يسمى “المجلس الأعلى للشباب”.
أصحاب هذا الطرح يُراهنون على عدة نقاط تحول دون نجاح الحراك في حشد الشارع من أهمها ما يلي:
– غياب الوضوح في طرح البدائل السياسية للمنظومة القائمة ومن سيقود مرحلة البناء الجديدة، وتخوف التونسيين من الزج بالجيش التونسي في أي حراك مدني يهدف للتغيير السياسي السلمي، والأهم من ذلك كله الشكوك المتزايدة بشأن من يقف وراء هذا التحرك لا سيما أن عددًا من الأسماء البارزة التي تخدم ضد الثورة التونسية أعلنت في وقت سابق رفضها دعم المظاهرات على غرار رئيس الحزب الدستوري الحر عبير موسي.
– فشل الشارع التونسي بعد الثورة في إسقاط المنظومة السياسية التي على مساوئها تبقى نتاج صناديق الاقتراع وتفاهمات الأحزاب التي أفرزها هذا الاستحقاق، فحتى اعتصام الرحيل الذي أعقب الاغتيالات السياسية في 2013 لم يسقط منظومة الحكم آنذاك بل أنتج حكومة التوافق ولم يقص حركة النهضة الإسلامية.
– فشل حركات تجييش الشارع واستغلال الأزمات في ضرب التحول الديمقراطي “البطيء” الذي تعرفه تونس منذ 2011، فقد أثبتت التجارب ضعف القائمين على مثل هذه التحركات في تنظيم صفوفهم وفي إقناع الرأي العام بطرحهم المخالف لمقومات الانتقال السلمي، ويُمكن ذكر حراك السترات الحمراء الذي استلهم التجربة الفرنسية.
على الجانب ذاته، فإن فشل الحراك قد يبدو أمرًا محسومًا خاصة أن الداعين لما يعرف بالانتفاضة ثانية ليس لهم أي وزن سياسي في البلاد ويُشك في ولاءاتهم وعلاقاتهم المشبوهة التي حاكوها من خارج حدود الجغرافيا، وبالتالي فإن السواد الأعظم من التونسيين ينظر إلى هذه الفعاليات التي تقف وراء هذه الدعوات بعين الريبة ويرى أنها تأتي في صالح جهات خارجية تريد ضرب الانتقال الديمقراطي في تونس.
فالمجلس الأعلى للشباب لا وجود له فعليًا على أرض الواقع كمؤسسة أو منظمة جمعياتية ناشطة سياسيًا أو اجتماعيًا، ما يعني أنها مجرد واجهة لجهات تعمل من الغرف المظلمة على تعفين وتأزيم الوضع السياسي.
على عكس الفوضويين وطرحهم الدوغمائي الاستئصالي، فإن تونس التي تُكافح في حربها ضد وباء كورونا ليست بحاجة إلى تغيير المنظومة السياسية أو نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي كما يروج الرئيس قيس سعيد، بل إن خروج مهد ثورات الربيع العربي من عنق الزجاجة لا يتطلب إلا جلوس كل القوى السياسية إلى طاولة الحوار وتدارس ملامح الحكومة المقبلة إن كانت سياسية أو حكومة إنقاذ مصغرة من مهامها قيادة البلاد في هذه المرحلة الحساسة.
دون ذلك، ستبقى تونس رهينة التناطح السياسي بين مثلث السلطة والصراعات الهامشية التي تأكل من جهود التنمية والإنعاش الاقتصادي وستحول دون وفاء الدولة بالتزاماتها الصحية تجاه المواطن الذي تُهدده الأزمات من كل جانب.