بعد عقد من الثورة نكتب بألم أن قيم الثورة لم تدخل عقول التونسيين إلا نزرًا يسيرًا وأن مواقفهم الفكرية عامة والسياسية خاصة لا تزال هي نفسها لا نرى أثرًا فيها لأفكار الثورة وقيمها وطموحاتها، بل إننا نعاين أن بعض الفصائل السياسية تردت بعد موقع المعارضة لنظام بن علي إلى التنسيق السياسي والميداني مع سلالته الفاشية التي تشكل خطرًا حقيقيًا على الديمقراطية وعلى الحريات وعلى مستقبل كل تغيير إيجابي في البلد.
بعد عقد من الثورة سنكتب بثقة أن الرجعيين والمحافظين الحقيقين ليسوا الإسلاميين، بل هم اليسار والقوميون والفاشيون الذين يرابطون على مواقف استئصالية عاشوا بها ومنها ونراهم يموتون عليها وهم الذين يعيقون بكل قوة تحول الثورة إلى مشروع مجتمع شامل.
الفرز يجري لكن بثمن مكلف جدًا
كشفت الثورة خرافة اليساري الثوري التقدمي كما كشفت نفاق القومي الفاشي عابد البيادة العسكرية المتخفي بالديمقراطية، فكان التجمعي عدوًا مشتركًا في الظاهر، لكن الثورة كشفت أن من كان يعارضه سابقًا بأعلى الشعارات الثورية والحداثية هو نسخة رديئة منه، وقد منحتنا الثورة فرصةً كاملةً لاختبار مصداقية خطابه فإذا هو فاشي عنصري إقصائي وعميل أيضًا لقوى الاحتلال البغيض وكشفت لنا أنه مستعد لرهن البلد (الأمة) لقوة أجنبية بشرط تخليصه من عدو داخلي لم يقبل أن يكون شريكًا في الوطن لمجرد أنه إسلامي، دون أن يطرح على نفسه سؤالًا معرفيًا: هل هذا الإسلامي مختلف عنه فعلًا في الفكرة والبرنامج السياسي.
الثمن الذي ندفعه الآن هو ثمن مكلف جدًا ومؤلم نعم وقد رفع الكلفة الاستئصالي الحداثي والقومي الذي هو في عمق فعله قطري متخلف عن فكر العروبة الجامع الذي كتب فيه القوميون المؤسسون دون أن تكون الخريطة السياسية قد اتضحت له بكل حدودها.
في تونس رأينا يسار الحداثة يدعو فرنسا الاحتلال إلى إنقاذ الديمقراطية من الخوانجية، ورأينا القومي العربي يستدعي الجيش الروسي إلى إنقاذ العروبة من الخوانجية بدعوى أنهم داعش ويمكننا أن نزيد بكل أريحية، لقد رأينا القومي العربي واليساري التقدمي (التحرري طبقًا للخطاب السائد) يقف مع اتفاق أوسلو ونظام عباس الخياني الذليل من أجل ألا تنال حركة حماس مكانة في قيادة النضال الفلسطيني من أجل تحرر الأرض والمستقبل.
الخريطة تتضح لنا رغم قتامة اللحظة السياسية السائدة قطريًا، فكل الخيارات الخيانية مقبولة من أجل ألا يتمكن الإسلامي من السلطة في قطره ويخطط (ربما) لأخذ زمام قيادة الأمة، ولا نعلم رغم هذا خطة الإسلاميين، لكن لدينا يقينًا أن أدعياء الحداثة والتقدمية وأدعياء العروبة والوحدة يشكلون طابور المحافظة والرجعية العربية للقرن الواحد والعشرين، لقد كشفتهم الثورة وكشفت زيف خطابهم المدعى ونسجل هذا في مكاسب الثورة.
نحن ندفع ثمنًا مكلفًا كنا في غنى عنه منذ اليوم الأول للثورة، لكن أظن أن المرور بمرحلة الفرز كانت ضرورية ليعرف كل أناس مشربهم ويصطفي الشعب قيادته للمستقبل القريب والبعيد.
لم تكونوا إلا ميليشيا بن علي ومبارك
ما كان لنظام بن علي ونظام مبارك ونظام علي صالح اليمني وحتى نظام الوحش الآدمي المسمى العقيد القذافي أن يحكموا لعقود دون هذه الميليشيا الفكرية المسماة تيار الحداثة وتيار القومية، فوصلنا إلى قناعة ثابتة أنتم ميليشيا ومرتزقة وأقل من الذكاء الضروري لبناء تجارب ديمقراطية ونحمد الثورة التي كشفت زيف خطابكم.
كم كانوا يدفعون لكم؟ لا ندري لكن النتيجة عارية أمام التحليل، أنتم اشتغلتم كميليشيا طيلة نصف قرن وقد وصلتم إلى نهاية خطابكم وتعريتم ولن نخجل منكم نحن مرابطون على مبادئ الثورة الشعبية الفقيرة إلى التنظير، لكن الغنية بتجارب فاعلة في الفرز الديمقراطي.
كل يوم يعطينا دليلًا إضافيًا أنكم لا تتغيرون بل تعملون ضد كل حركة تغيير، وفرص المشاركة في البناء الديمقراطي أكبر منكم وأبعد أفقًا، وسيفوز الإسلامي في المدى المتوسط والبعيد وإن كان يعاني في المدى القريب، ويدفع من لحمه الحي كلفة التدرب على الديمقراطية.
الديمقراطية تدرب الإسلامي على المراجعة والنقد الذاتي إلى درجة ألا يكون إسلاميًا في المدى المتوسط (وهذا موضوع آخر فصلنا فيه قولًا كثيرًا ولدينا المزيد) لكنه يتأهل للحكم لأنه تيار يراجع نفسه ومقولاته وموقعه بينما ترابطون على موقف استئصالي يستفيد منه فقط أعداء التغيير في الخارج والداخل، وعندما يتطور الإسلامي ليصير قوة حكم ستكونون خرجتم من التاريخ الآني والمستقبلي وسيكون الإسلامي قوة حكم.
العالم يتغير أيها الأغبياء
هذه قناعة، القرن الواحد والعشرين يأتي بحركة تغيير شاملة نحن هنا في تونس (وفي مصر) جزء منها، والقوة من حولنا تغير مواقعها ومن كان ضعيفًا في الخمسينيات صار قوةً دوليةً ولديه قدرة تفاوضية جديدة لفرض حقوق ومكاسب ولإعادة ترسيم خريطة العالم، فخريطة الأفكار القديمة سقطت وهناك خرائط جديدة ترسم وأفكار جديدة تبني وتبينها قوة صاعدة من حولنا (رأيت صورة أردوغان تقفز إلى شاشتكم الرمادية) ونحن نراكم مرابطين على أفكاركم القديمة (نشك في أنكم تقرأون ما يجري حولكم).
الديمقراطية السياسية غير الاستئصالية موجودة في قلب حركة التغيير الكونية الصاعدة، وفي هذه الحركة يوجد مكان للإسلاميين ولا مكان لكم.
أسهل عليكم الهروب من الحقيقة هذه الورقة مدفوعة الأجر، لكن الحقيقة ستؤلم عقولكم إلى متى تخوضون حرب الاستئصال الممولة فرنسيًا؟ لا إجابة لديكم لأن ممولكم يخرج من الخريطة الدولية للفعل السياسي المؤثر، فمتى ستقفون على حقيقة فاجعة أنكم راهنتم على الجواد الخاسر وأن رهانكم جر عليكم خسارات بلا حساب؟
لنختم بما يحزن قلوبكم لو كنتم قادرين على القتل على طريقة بن علي ما ترددتم لحظة وهذا أكبر دليل على غبائكم السياسي، بن علي مات ونظامه تفكك وأنتم فلول الاستئصال السياسي وموعدنا المستقبل حيث الديمقراطية والحرية تتقدمان في هشيم أيامكم التعيسة، لقد كان مؤتمر نقابتكم الانقلابي أكبر الأدلة على عجزكم على العيش في وضع ديمقراطي، نحن المجهولون نراقبكم ولدينا الشجاعة الكافية لخوض معارك التحرر الوطني ودفع الثمن.