“من أجل أن يفهم المرء العالم، عليه أن ينصرف عنه في بعض الأحيان”.
ذكرت الجملة في أحد مؤلفات ألبير كامو، لتلوح بما هو ممكن، مشيرة إلى قيمة العزلة، رافضة صورتها كعادة مضادة للعالم، لتخلع عنها ثوبًا رماديًا لا يفضي لشيء إلا الإيغال في المرض النفسي والانقطاع عن الحياة، ويقيمها كعامل مساعد على فهم العالم والنظر إليه من الخارج. وجود بعض من هذه الأفكار داخل فيلم “خنزير” أضفى بعدًا نقل القصة بل أنقذها من التحول لقصة انتقام رخيصة إلى شيء أكثر هدوءًا وأقل سرعةً.
نظرية فرويد في التحليل النفسي عرفت عدة وسائل كحيلٍ نفسية يستخدمها العقل لحماية نفسه من الذكريات السيئة التي تخلفها مواقف بعينها لا يستطيع المرء تجاوزها في الغالب، من خلال دفع تلك الذكريات عنه بل إغراقها بشكل تام ودفنها في أبعد بقعة داخل العقل الباطن، بحيث يحدث فصلٌ تام بين الشخص وتلك الذكريات، وعليه لا يمكن لتلك الذكريات أن تثير أي نوع من القلق.
تصنف العزلة كواحدة من تلك الحيل النفسية، يصنع من خلالها العقل عازلًا داخليًا يقلل من خلاله التماس الحادث بين الشخص وهذه الأفكار في محاولة اقتطاع شبه كامل لتلك الوقائع من الذاكرة، ويكون العقل ما يشبه فجوة يملأها بأفكار ومشاعر إيجابية داخل بيئة أكثر راحة، بحيث إذا حاولت تلك الأفكار النهوض مرة أخرى وهو شيء مرجح، لا ترقى إلى السطح وتظل غارقة في غياهب العقل الباطن.
إنها حيلة نمارسها لحصر أنفسنا داخل بقعة مريحة، يأخذها البعض كاستراحة محارب، والبعض الآخر كملاذ لطرد الأفكار الأشد قسوة، ومراوغة عقلية للآلام الأثقل وطأة، ومحاولة للفرار من ممارسات والأخذ والرد مع جزءٍ من كلٍ مؤذٍ في منتهاه.
تلك البنية المخفية في مقبرة العزلة، ظهرت بالتدريج وعلى استيحاء في حياة البطل روبن، تأسس على هامشها مهزلة أو كما يصفها البعض مأساة رجل يبحث عن خنزيره.
فيلم “خنزير”
فيلم “خنزير – PIG” يبدأ من أصوات الطبيعة، من الأرض الطينية والنهر والأشجار السامقة في غابة مجهولة الموقع، يؤسس ذاته على السكون والحركة الطبيعيين، ويحدد موقفه من الصخب وحركة المدينة المصطنعة، فمنذ البداية، يلف شعورًا أبوكاليبسيًا الهواء، ويعطي انطباعًا رماديًا عن وجود ندبات لثمتها أوراق الشجر وخيوط الدخان وآلام مدفونة في قاع النهر.
يقطع صمت الطبيعة صخبًا إنسانيًا لرجل الكوخ روبن فيلد – نيكولاس كيدج – الذي يرتع في الغابة وحيدًا بصحبة صديقه الوحيد ومؤنسه في وحشة الليالي، خنزيره الذي يتنشق تراب الأرض الطري، ليدله على مكان ثمرة الكمأة Truffle النادرة، لينزعها بسكينه من الأرض، ويعود للمنزل.
تبدأ القصة حينما يأتي شابًا يدعى أمير – الممثل أليكس وولف – بسيارة فارهة إلى حيث يقطن روبن، يبادله الثمرات التي حصدها بمعونة أسبوعية من الطعام والشراب والحاجات الأساسية حتى لا يضطر روبن للذهاب نحو المدينة، وفي ليلةٍ ما، يسطو ثلةٌ من اللصوص على كوخ روبن، يفقدونه الوعي، منصرفين إلى سرقة خنزيره، وحين استيقظ في صبيحة اليوم التالي، عزم على الانطلاق نحو المدينة واستعادة خنزيره مهما كان الثمن.
الخنزير الذي أحب
يبدأ روبن رحلته في البحث عن خنزيره، دون تردد وبجسارة غير معهودة في تلك المواقف إلا في المثيولوجيا والحكايات الشعبية، لأن حيوان مثل الخنزير يمكن استبداله بسهولة في ظل ظروفٍ عادية، أما في ظل محاكاةٍ أسطورية ينسلخ العادي من كونه عاديًا، ليطور علاقة لا تخضع إلى المنطق أكثر ما تخضع إلى العاطفة والدلالة والرمزية، يمكن أن تتحول طيورًا طبيعية إلى فائل شرٍ ونبوءة هلاك، أو تحمل حيوانات أرواح أصحابها داخلها، أو تشير إلى عقابٍ سماوي، أو ترمز إلى ما هو عاطفي وأخلاقي وديني مثل الشرف أو التقرب إلى الآلهة.
والحق أن قصة الفيلم ليست أشبه بمحاكاة أسطورية أو حتى تقترب من ذلك النمط، فهي أبعد ما يكون عن ذلك القالب، بيد أن هناك بعض الملامح عندما توضع في سياقها الصحيح تجلي وراءها سحائب مظلمة.
في أول الأمر سيبدو الفيلم أشبه بأحد أفلام انتقام جون ويك John Wick إلا أن الحكاية تلفظ الحركة وتكثف الدراما بشكل يخلع عنها رداء الانتقامية المعهود، العلاقة بين روبن والخنزير لم تكن علاقة نفعية في أساسها، بل علاقة ونسٍ وارتباط معقود بمسافة زمنية لا يقطعها سوى الأصدقاء الحقيقيين، في العزلة تنمو العلاقة بين الأرواح بسرعة أكبر وأنا أقصد هنا بالأرواح كل شيء، حتى الجماد، يتقبل الشخص داخل العزلة جميع الأرواح الجديدة، يتسامح معهم، معرفته بهم تكتسب عمقًا وحركته تصبح أخف، مع كل لمسة يخلف الشخص وراءه ندفًا من روحه.
وهذا بالضبط ما جعله مصممًا على استرجاع الخنزير، لأن الاثنين يحملان أجزاءً من بعضهم البعض، افتقاد ركن مهم في حياة الشخص الانطوائي يشي بانهيار عالمه، ولأن عالمه صغير جدًا، مؤلف من حاجياته الأساسية، اكتسب الخنزير قيمته الأثيرة.
الخروج إلى المدينة…هوامش التكوين
التحرر من الكوخ في الغابة، والانفلات من معرفة توفر نوعًا من الراحة والأمان، يعني بالضرورة إثارة جرحٍ قديم وانفتاح حفنة الذكريات المقرحة والانجبار على التعاطي مع تلك البثور المتناثرة والهيجان الملازم لتلك البقع، وهذا يحيلنا إلى فصل آخر من القصة، فصلٍ يندرج تحت بند المكاشفة، علاقة جديدة كان يتجنبها روبن كل تلك السنوات، فيضان من الذكريات انفرط حجره، وهذه المبارزة بين القديم والمعاصر صنعت درما ثقيلة، لا تخلو من العنف.
روبن يتجه للمدينة، يحدث تماس بينه وبين القديم، وتظهر شخصية أمير لتلعب دور المراقب المتلقي للمعرفة، مثل المشاهد في المنزل أو في قاعات السينما، تعمل عيناه كوثيقة اجتماعية تجمع شتات هذا الرجل من عدة أماكن مختلفة، وتحاول – دون شعور منها – إعادة تشكيل روبن فيلد القديم.
لذلك كان أمير – بشكل خاص – شاهدًا على عملية المكاشفة التي خاضها روبن، وانبعاثه من مجرد شبح غريب الأطوار يقطن فيما يشبه الكوخ بصحبة خنزير، إلى أسطورة متجسدة في مغازل شبكة ذكريات تصل أصداؤها إلى أطراف المدينة.
فيما تنكشف تفاصيل مخفية رويدًا رويدًا، تنسحب قدم روبن فيلد في تيار الماضي، دون أن يشعر يجذب أفرادًا آخرين معه، أشخاصًا كانوا جزءًا من ماضيه، تتكشف شخصية فيلد الحقيقية، شخصٌ كان يثمن في الماضي وصار حاضره رمادًا، طاهيًا كان يملك مطعمًا في مدينة بورتلاند، ذا ذاكرة – تقريبًا – فوتوغرافية، ما زال يذكر جميع الوجوه التي قدم لها الطعام مرة، والسحنات الذي عملت معه حتى لو لفترة قصيرة، شخص قوي ومتهور عكس طبيعته التي نراها الآن، كان جزءًا من قتالات المطاعم غير الشرعية في شبابه، كأنه كان رجلًا شقيًا، يعرف كل بورتلاند، لكنه لا يريد أن يعرف نفسه.
يتحرك فيلد من خيط إلى آخر، حتى يذهب إلى مطعم فخم يعمل به أحد مساعديه السابقين، من هنا يظهر جزء من شخصية فيلد، جزء شبه أسطوري، كأنه موازٍ للمسيح أو ما شابه، لكن بشكل مناقض، كرجل يعرف الحقيقة المطلقة، عينيه مجلوةً ببريق مدينة كاملة، لا يملك الكثير من الوقت في هذا العالم، وعندما يتحدث يقول الحقيقة غير المرئية، كأنه يلتف في مسوح كاهن، لكن كاهن يبتلع الذي أمامه، يمتص حضوره تدريجيًا ويلقنه الصدق، لا أحد يهتم لأي أحد في هذا العالم.
ويكتشف بعد ذلك أن من خطف الخنزير هو والد أمير – الممثل آدم أركين – الذي يحاول المخرج أن يكثف حياته في لقطات قصيرة وخاطفة، أمه شبه ميتة في المشفى، ووالده فاحش الثراء، مسيطرًا على أنحاء بورتلاند، يعاني من اكتئاب حاد، ويختبئ منه داخل عزلة مزيفة، مثل فليد، الذي يختبئ من ماضٍ مجحف.
والجدير بالذكر في نهاية الفيلم، سيلاحظ المشاهد مدى تشابه شخصيتي فليد ووالد أمير، كلاهما يهرب من ماضيه السيئ بحاضر مصنوع بحرفة يديه، كلاهما يفتقد لجزء لا يستطيع تعويضه، كلاهما يلوم نفسه على كل شيء، كلاهما ميت من الداخل، كلاهما يعمل في صناعة ثمرة الكمأة، سواء بشكل هامشي أم أساسي، بيد أن ما فعله والد أمير كان رد فعل دفاعي آخر لا نعرف فحواه، لكنه محاولة للشعور بالقوة، بالسلطة كشخص مسيطر على هذه الصناعة.
نلاحظ مدى تغير شخصية فيلد، من عجوز مسالم صامت، إلى شخصٍ عنيف عصبي، يتحدث أكثر، وجهه غارق في الدماء، عينيه زجاجيتين، يمكنه تحمل الكثير من الضربات في مقابل معلومة واحدة تساعده.
هذه هوامش إعادة تكوينه، لقد غاب في الماضي والتزم بقواعده، لذا يجب أن يصبح روبن فيلد المدينة، وليس الكوخ، المدينة كانت بمثابة المصيدة، حيث تتكاثر عليه الذكريات وتهدم حاضره، لكنه قرر المواجهة هذه المرة وعدم التخلي.
أمير.. كشخصية ما بعد حداثية
أمير هو الجزء الأكثر حداثة في المنظومة التي تبدو في داخلها متهالكة، ممثلًا للثورة على العادي، ومجبولًا على الخروج من عباءة والده السلطوي ذي النظام الأبوي الصارم، يركب سيارة رياضية فخمة ويرتدي ملابس أنيقة، يخضع لكل مظاهر القولبة الاجتماعية الحديثة، ورغم ذلك لديه شعور شاب بهيجان إثبات الذات، يخرج لسوق العمل بمفرده، ويحاول صناعة اسم خاص به، خارج منطقة عمل أبيه.
يصنع أمير بعفوية مثالًا للشاب المابعد حداثي، الذي يفتقد للمركزية، صوته يأتي من رأسه، يلعن التقليدي، ويحاول عدم إعادة تجربة أبيه القاسية، بيد أنه من وقت لآخر يبدو شخصيةً تابعةً، تدفعه عاطفة جياشة لمساعدة روبن فيلد، بما يتشارك فيه مع والده من خصالٍ، يشعر أنه والده، وعلى الرغم من شخصيته المستقلة، يشعر بالفخر عندما يسمح له فيلد بأن يستخدم اسمه لكي يجمع له أشياء تساعده على إيجاد الخنزير، ففي داخله يفخر بأسطورة روبن فيلد الشيف الذي يعيش باسمه داخل الجدران وفي أروقة العقول.
نيكولاس كيدج وروبن فيلد
تسير شخصية روبن فيلد بمحاذاة شخصية نيكولاس كيدج الحقيقية، أسطورة سينمائية موازية لأسطورة في الطهي على المستوى المحلي، الاثنان سقطا في نفس الهوة، عملوا لعقود وأحدثوا فرقعة عالية وانطفأوا في شربة ماء، الاثنان لم يجدوا بدًا من الاعتماد على الآخرين، عرفوا ألا يوجد أحد بانتظارك في الجهة الأخرى.
الاختلاف أن كيدج حاول العمل أكثر، ولم يرفض التعاطي مع الوسط الاجتماعي، أما روبن فيلد فأمسك عن البوح وقرر الانعزال، فيما غرق نيكولاس كيدج في أفلام من فئة الـB – Movies ذات الإمكانات الرديئة لكي ينقذ نفسه، بيد أن كليهما تعرضا للحرمان من شيء ثمين.
هذا التماس الحادث صنع نوعًا من التوحد بين الممثل والشخصية، لتخرج لنا كشيء استثنائي، يجمع كل شيء ولا يبوح بأي شيء، كسراب يرسم أشكالًا هوائيةً لكن لا نستطيع التأكد منها، لقد قدم نيكولاس كيدج واحدًا من أفضل أداءاته على الإطلاق، من المرجح أن يترشح به لجائزة الأوسكار، ساعده على ذلك سيناريو جيد وإخراج متماسك من المخرج الشاب مايكل سارنوسكي، في أول تجربة لفيلم روائي طويل بالنسبة له.
قسم سارنوسكي الفيلم لثلاثة فصول، كل فصل يحمل اسم وصفة طعام معينة، كنبوءة مخفية لما سيحدث مستقبلًا داخل الفصل، وكإسقاط على روبن فيلد الذي كان طاهيًا ماهرًا قبل أن يعتزل المدينة، ومحاولة لصنع مقاربة بين تلك الوصفات والحياة التي يعيشها أهل المدينة، تلميحًا بأن أي شيء في الحياة له وصفة حتى المواقف الصعبة، بيد أن النهاية تناقض ذلك، فبعد رجوع فيلد إلى الكوخ مرة أخرى، ويحاول سماع الشريط الذي يحتفظ به منذ زمن، كأنه اكتسب جسارة من مغامرته داخل المدينة، إنما لا يحدث ما يرتقبه البعض، لا يستطيع سماع الشريط، بل يطفئ التسجيل، ويكتفي بالعيش فقط، لا ينتظر أي شيء، دفع كل الأشخاص وسد كل منافذ البوح والمكاشفة مرة أخرى واسترد آليات دفاعه المستميت عن حقه في الحياة دون ذكريات تؤرقه، كشخصٌ قطع كل أطرافه، واكتسب خفة بحيث لا يكون موجودًا بعد الخنزير إلا عندما يراه أحد الأشخاص في كوخه، وهذا مستبعد بعد موت الخنزير.
يترك المخرج نهاية مفتوحة، في حكاية رجل اكتسب الخفة من التخلي، وأثبت عدم وجود وصفة حقيقية للسعادة.