لم تكشف الانتفاضة الفلسطينية الأولى أو انتفاضة الحجارة عام 1987 عن حالة الغليان في نفوس الفلسطينيين فحسب، وتأكيد الحنق الفلسطيني على قوة الاحتلال الغاشمة على أرضه، بل أيضًا سَبَرت غور حجم امتداد فكر حركة الإخوان المسلمين في مصر إلى الأراضي الفلسطينية، حيث تتوّجَ ذلك بتأسيس حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في قطاع غزة المحاصر، على يد شيخها الشهيد أحمد ياسين وعدد من عناصر الإخوان المسلمين.
التربية الإيمانية: مرحلة الإعداد الأولى
اهتمَّ فكر حركة حماس، قبل تحوّرها إلى حركة رسمية، بالتربية الروحية والإيمانية لعناصرها ومنتميها على الرؤية الإسلامية، ووفق ما أدرجه مؤسِّس الإخوان المسلمين حسن البنا.
وبذلك، وعبر “المجمع الإسلامي” مهد انطلاقة الحركة في فلسطين المحتلة، استطاع الشيخ المُقعَد أحمد ياسين، ومن على كرسيه المتحرِّك، زرع البذور الأولى لفكر حماس في نفوس ثُلة من الشباب الفلسطيني الثائر، خاصة في قطاع غزة المحاصر.
يرى مراقبون أنه إلى جانب رؤيتها النضالية، استطاعت التربية الإيمانية، التي تعدّ مبدأً أساسيًّا في ألف باء الحركة، توفير حاضنة شعبية كبيرة لها فور الإعلان عن تأسيسها مع شرارة الانتفاضة الأولى، وهو ما شكّل اختلافًا مهمًّا بين تيارَين إسلاميَّين كبيرَين: الجهاد الإسلامي وحماس.
فبينما يرى قارئون لتاريخ الحركات الفلسطينية، أن الجهاد الإسلامي ارتأت في الحالة الفلسطينية ضرورة مُلحّة للتوجه إلى الجهاد ضدّ خطوط العدو مباشرة، مع تجاوز الاهتمام الكبير في التربية والتنشئة، تعتقد الأخرى أن إعداد روح الشباب وبنائها لا يقلّ أهمية عن الجهاد في الثغرات.
ولاحقًا مع تصاعُد اشتعال الساحة الفلسطينية إبّان انتفاضة 1987، ذابت الخلافات حول التربية والجهاد بين الحركتَين، وقد توحّدت أعمالهما الجهادية ضد العدو، وفتحوا النيران ضد الاحتلال الصهيوني في كل نقاط التماسّ.
يذكر جيل الربع الأخير من القرن المنصرِم، الدور الكبير الذي لعبته المساجد في التربية الإيمانية والإسلامية في صفوف أبناء حماس، وما رافقته من حركة الصحوة الإسلامية التي كانت تعيشها الأمة العربية في تلك الفترة بدور كبير من الإخوان المسلمين، واستمرت المساجد في الضفة الغربية المحتلة بتخريج أفواج من أبناء حماس وقد تشبّعوا فكرها ومبادئها، حتى حدوث الانقسام الداخلي الفلسطيني عام 2007.
فبعد رفض حركة فتح لنتائج الانتخابات التشريعية التي فازت بها حماس عام 2006، وسيطرتها على الضفة الغربية المحتلة، شرعت مباشرة في إغلاق جميع المؤسسات الإسلامية والخيرية التي تديرها حماس، ولاحقت جلسات تحفيظ القرآن والدروس الدينية في المساجد، وفرضت مع توليها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية معايير محدَّدة للخُطب والدروس الدينية، بينما تستمر المساجد حتى اللحظة في لعب دورها في قطاع غزة المحاصر مع سيطرة حماس عليه.
القسّام: رعب “إسرائيل” الأول
بعد ما يزيد عن 50 عامًا على استشهاد الشيخ المناضل عز الدين القسّام، في معركة يعبد قضاء مدينة جنين المحتلة عام 1935 ضد الانتداب البريطاني، عادَ اسمه ليظهر مرة أخرى على أيدي مقاومين فلسطينيين عام 1991، حيث تطور اسم نضال “المجاهدون الفلسطينيون”، التي كانت تنفِّذ عملياتها النوعية ضد الاحتلال الصهيوني منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، إلى “كتائب الشهيد عز الدين القسّام” كجناح عسكري لحركة حماس.
واستطاعت كتائب القسّام خلال 30 عامًا أن تكون رأس حربة المقاومة الفلسطينية، فبعدما شاركت جنبًا إلى جنب بانتفاضة الحجارة في سنتَيها الأخيرتَين قبل أن تُعلِنَ اتفاقيات أوسلو وأد الانتفاضة، اشتعل اسمها منتصف التسعينيات مع عمليات هزت الكيان المحتل.
وقد انضمَّ إليها عدد من العقول الشابة التي هندست الرعب لـ”إسرائيل”، فتحولت غرفة استخبارات الأخيرة إلى مقرِّ اجتماعات لكيفية اغتيال تلك العقول المدبّرة للقسّام، فاغتالت يحيى عياش، وعماد عقل، والشقيقَين عماد وعادل عوض الله، وغيرهم الكثير.
أما في قطاع غزة المحاصر، البؤرة الأولى والحضن العميق لحركة حماس وذراعها العسكري كتائب القسّام، فقد أفضى نشاط المقاومة في القطاع، متسلحةً بحاضنة شعبية، إلى إرهاق “إسرائيل” في حماية مستوطناتها والمستوطنين، ما أدّى إلى انسحاب إسرائيلي كامل من أراضي القطاع عام 2005، وإخلاء المستوطنات، ويكون بذلك القطاع أول التراب الفلسطيني الذي استطاعت المقاومة تحريره بالكامل من الاحتلال.
وفي سياق مماثل، تشهد ما يعرَف بمستوطنات غلاف غزة، رحيلًا نشِطًا من المستوطنين باتجاه المدن المحتلة في الشمال، وقد كانت الصواريخ القسّامية والفلسطينية أرقًا لهم مع كل صفارات إنذار تدوي لديهم.
بات العالم اليوم يعرفُ كتائب القسّام وقد استطاعت أن تدكَّ قواعد الاحتلال الإسرائيلي، وترسل -إلى جانب فصائل المقاومة الأخرى في غزة- المستوطنين إلى الملاجئ، بعد أن طوّرَت منظومة عسكرية متكاملة الوحدات، منها الصواريخ التي أُعلن في معركة سيف القدس الأخيرة أن مداها يصلُ إلى جميع أنحاء فلسطين المحتلة من شمالها إلى جنوبها، ومن غربها إلى شرقها، ووحدة المتفجّرات، والهندسة، والضفادع البشرية، والأنفاق التي أظهرت الحرب الأخيرة في القطاع بناء كتائب القسّام منظومة أنفاق كاملة تحت الأرض، ووحدة الظل.
أما وحدة الظل، فهي الحكاية الأخرى لكتائب القسّام، ومن خلالها تستطيع القسّام أن تخفي الجنود الإسرائيليين الأسرى لديها، وقد نجحت هذه الوحدة في إخفاء الجندي جلعاد شاليط الذي أسرَته المقاومة لمدة 5 سنوات قبل أن تعقد حركة حماس صفقة تبادُل أسرى حرّرت بموجبها ما يزيد عن ألف أسير فلسطيني من سجون الاحتلال.
وخلال حرب 2014، التي دامت 50 يومًا ونيفًا، دخلت فيها القوات الإسرائيلية بريًّا قطاع غزة المحاصر، أعلنت القسّام أسر الجندي شاؤول آرون وأسرى آخرين، بينما تخفي أحوال الجنود الأسرى لديها وأوضاعهم، وتربط أي معلومة عنهم بثمن ستدفعه “إسرائيل” مقابله.
لم تكن حماس وذراعها العسكري كتائب القسام لتصلا إلى ما عليه الآن، لولا الحاضنة الشعبية الواسعة لهما، رغم ملاحقة الاحتلال لمنتميها في الضفة الغربية المحتلة من جهة، وخوض الحروب على المدنيين في قطاع غزة المحاصر بشنِّ غاراتها الدموية على أهالي القطاع تحت عنوان “القضاء على حماس والجهاد”، وتضييقات السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية على أتباع الحركة فيها من جهة أخرى.
وأيضًا من ناحية أخرى، هناك مصر التي تشترك في حدودها مع قطاع غزة عبر معبر رفح البري، والحصار الذي تفرضه على أهالي القطاع في سبيل قطع أي إمداد مادّي أو عسكري قد يصل إلى المقاومة هناك.