شهدت سبعينيات القرن العشرين أحداثًا عربية وإقليمية، كان لها تأثير على القضية الفلسطينية، فمع انتهاء حرب أكتوبر/ تشرين الأول أو حرب رمضان عام 1973، التي خاضتها مصر وسوريا ضد الاحتلال الإسرائيلي، اتجهت الأضواء إلى الدور الفعّال الذي مارسته المقاومة الفلسطينية في الحرب، وتنفيذ هجماتها بالتنسيق مع المقاومة في سوريا ومصر.
أشعل هذا الدور الشرارة الأولى لفكرة تشكيل خطّ مقاومة مشترَك عربيًّا وفلسطينيًّا، لوقف توغُّل “إسرائيل” التي كانت تضع يدَيها حينها على صحراء سيناء في مصر، وهضبة الجولان في سوريا، ومزارع شبعا في لبنان، وصولًا إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي كاملًا على الأراضي الفلسطينية.
ومع تتالي الأحداث في المنطقة، نجحت الثورة الإسلامية في إيران، وأنهت النظام الملكي المطبِّع مع “إسرائيل” وتحويله إلى جمهورية إسلامية، ما انعكس على القضية الفلسطينية من إغلاق السفارة الإسرائيلية في طهران وتحويلها إلى سفارة فلسطين، وصعود إيران كداعمٍ للمقاومة في فلسطين المحتلة.
هذه التغيُّرات، خاصة الثورة الإيرانية، أسهمت بشكل كبير في تأسيس حركة إسلامية في فلسطين المحتلة، تقف إيران في ظهرها وتساندها بشكل مباشر، ما أفضى إلى تأسيس حركة الجهاد الإسلامي، كأول حركة إسلامية في الساحة الفلسطينية، وسط الأحزاب العلمانية مثل حركة فتح واليسارية مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي سعَت من خلال مؤسِّسها الدكتور فتحي الشقاقي إلى إعادة بثّ الفكر الإسلامي والدعوة والجهاد في سبيل مقاومة المحتل.
مباشرةً إلى ميدان القتال
لم يطل الأمر كثيرًا بعد الإعلان عن تأسيس حركة الجهاد الإسلامي عام 1978، حتى باشر أفرادها تشكيل الخطوط الأولى لعملها العسكري عام 1981، ونفّذت خلاياها العسكرية عمليات ضد الاحتلال بشكل فردي، قبل أن تحوَّل جهود أفرادها إلى جناح عسكري منظَّم مع اندلاع الانتفاضة الأولى، وتطوّرت مسمياتها من “سرايا الجهاد” إلى “سيف الإسلام” ثم “القوى الإسلامية المجاهدة (قسم)”، لتستقرَّ على تسمية “سرايا القدس” في نهاية المطاف.
ومنذ بدء هجماتها على الأرض، شرعَ الاحتلال الإسرائيلي بملاحقة أفرادها، ورغم حملة الاعتقالات التي طالت كوادرها، واصلت السرايا عملياتها، واتَّقدت الروح النضالية فيها من جديد، خاصة بعد تمكُّن 6 من عناصرها من الهرب من السجن الإسرائيلي في غزة عام 1987.
ويسجِّل التاريخ لسرايا القدس أنها أول من أدخل العمليات الاستشهادية بواسطة المتفجّرات ضمن وسائل المقاومة الفلسطينية، وكانت البداية بتنفيذ الشهيد أنور عزيز أول عملية استشهادية في قطاع غزة أواخر عام 1993.
كما أن في عملية بيت ليد عام 1995، وضعت حجر الأساس لأول عملية استشهادية مزدوجة، وهو ما قام به منفِّذا العملية من التفجير تباعًا، ما ألحق أكبر ضرر بالمحتل بمقتل 19 جنديًّا إسرائيليًّا وجرح 62 آخرين.
وخلال انتفاضة الأقصى، نفّذت السرايا أول عملية استشهادية عام 2000، وفي العام نفسه وقعت أول عملية تفجير في انتفاضة الأقصى بسيارة مفخَّخة في مدينة القدس المحتلة، وقد تبنّتها السرايا، وأسفرت عن قتل ابنة الحاخام المتطرِّف إسحق ليفي ومحاميها.
ولعلّ الفارق في مسيرة سرايا القدس في الضفة الغربية المحتلة، يكمن في أحداث مخيم جنين عام 2002، معقل السرايا في الضفة، والمجزرة التي شنّها الاحتلال اتجاه المخيم التي أسفرت عن استشهاد 58 شخصًا وفق بيانات الأمم المتحدة، و500 شهيد بحسب السلطة الفلسطينية، وفيها وقعت مواجهات بين أفراد من سرايا القدس اغتالت فيها “إسرائيل” قائد السرايا في شمال الضفة محمود طوالبة، وعددًا من المقاومين.
أما في غزة، تُعتبَر سرايا القدس من أول الأجنحة العسكرية التي قامت بصناعة الصواريخ، وساهمت بشكل كبير في تطوير منظومتها، كما أنها أول من قامت بقصف مدينة تل أبيب المحتلة بصاروخ “فجر 5″، وتقف سرايا القدس جنبًا إلى جنب مع كتائب القسّام وفصائل المقاومة الأخرى في ردِّ أي عدوان إسرائيلي على القطاع.
في ظل الاحتلال: لا حكم ذاتي أو انتخابات
في عام 1993، وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل” اتفاقية أوسلو للسلام، وقد لاقت الاتفاقية معارضة من بعض القوى الفلسطينية لا سيما حماس والجهاد الإسلامي، وقد رأت الأخيرة في الاتفاق تنازُلًا واضحًا عن الأرض الفلسطينية، وسلامًا مع محتلٍّ يجثم فوقها، وتضييعًا لحقِّ اللاجئين والعودة.
ومن ضمن ما أفرزته أوسلو، إقامة سلطة حكم ذاتي في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر، بعد انسحاب الإدارة المدنية الإسرائيلية منها، وعليه قامت أول انتخابات تشريعية ورئاسية عام 1996، قاطعتها الجهاد الإسلامي وعبّرت عن رفضها ومقاطعتها بشكل تامّ أي انتخابات في الأراضي الفلسطينية، ما يعني -أي إجراء الانتخابات- تأسيسًا لأمر واقع يقود إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967، وما يحمله ذلك من تنازُل عن باقي الأرض المحتلة، واعترافًا بسيادة “إسرائيل” عليها، وقبولًا في نهاية المطاف بحلِّ الدولتَين الذي تعارضه الجهاد وبشدة.
بين الجهاد وحماس: يجمعهما الوطن
في الانتفاضة الثانية، كانت العلاقة بين الحركتَين في أمجادها وقد جمعتهما العمليات الاستشهادية في الداخل المحتل، واستمرت الحميمية إلى أن انخرطت حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، ما رأته الجهاد الإسلامي وفاقًا مع تيار أوسلو ومؤسسات “التسوية”.
وفي أعقاب الانقسام الفلسطيني عام 2007، توتّرت العلاقة بين الطرفَين ووصلت إلى حد الاشتباك أحيانًا، إلا أن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2008 أعاد العلاقات إلى أمجاد قوتها، وخلق بيئة استثنائية بين الحركتَين، ولم تذكر الوقائع بعدها حدوث توترات كبيرة بين الجهاد الإسلامي وحماس.
وبينما يجمعُ الحركتَين التيارُ الإسلامي، فقد عزّز انضمام حماس إلى ما يعرف بـ”محور المقاومة” مع “حزب الله” وطهران من علاقتها مع الجهاد الإسلامي ورفع درجة التنسيق بينهما، كما أن الموقف الرافض الذي تبنّته كل من الجهاد وحماس اتجاه أوسلو والتنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال، أسهمَ في تقوية العلاقات بينهما.
وفي غزة، البيئة الحاضنة للمقاومة الفلسطينية، كان لا بد لـ”أخوة الدم والسلاح” أن يضعوا خلافاتهم السياسية جانبًا، وأن يتوحّدوا في صفوف القتال ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما سطرته المقاومة بعمليات نوعية ضد الأهداف الإسرائيلية، متحدّين معًا الحصار الذي يفرضه الاحتلال ومصر عليهما وعلى القطاع بشكل عام، في سبيل تقويض تطورهما العسكري.
واليوم بعد مرور ما يزيد عن 40 عامًا من انطلاقتها، ما زالت حركة الجهاد الإسلامي تحتفظُ بحضورها القوي في الساحة الفلسطينية، واستطاعت تطوير بنيتها العسكرية إلى حد وصلت فيه صواريخها عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة.