على مناطق مختلفة من الأرض الفلسطينية، رفعت حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” راية الكفاح المسلح في وجه الاحتلال منذ تأسيسها عام 1965، وقد شنت عملياتها الفدائية من خلال قواعد شعبية مختلفة مثل الفهد الأسود والصقور والعاصفة، واستمرت في نضالها المسلح، وأطلقت مخيمات الأشبال والزهرات في الوطن والشتات لاستقبال الشباب الفلسطيني ذكورًا وإناثًا وإعدادهم لحمل السلاح.
في نقيض المفاوضات
استمرت العمليات الفدائية عبر قواعد فتح الشعبية دون ظهور شكل تنظيم عسكري يوازي الأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية الأخرى، وقد أسهم توجه بعض القيادات في الحركة لمسار التفاوض مع الاحتلال الذي أسسته اتفاقية أوسلو عام 1993 في تأخر ظهور جناحٍ عسكري.
ومع الإرهاصات التي خلفها فشل قمة كامب ديفيد الثانية في يوليو/تموز 2000، التي سعى الأمريكيون فيها إلى طرح حلول للقضية الفلسطينية تصب في مصلحة الإسرائيليين، واندلاع الانتفاضة الثانية أو انتفاضة الأقصى أواخر سبتمبر/أيلول من العام نفسه، أعلنت بعض القيادات النضالية الذين عاصروا الانتفاضة الأولى تأسيس “كتائب شهداء الأقصى” كجناح عسكري رسمي لحركة فتح.
ومنذ تأسيسها، لم تكن العلاقة بين الكتائب والمكتب السياسي لحركة فتح واضحة، ففي الوقت الذي نفذت فيه الكتائب عملياتها ضد المحتل، خاصة في أوج الانتفاضة الثانية، كان مكتبها السياسي يواصل مسيرته التفاوضية مع “إسرائيل”، للعمل على حل الدولتين والوصول إلى إستراتيجية لتنفيذ مقتضيات اتفاقية أوسلو.
انتفاضة الأقصى: ذروة الكتائب
كانت السنوات الأولى لتأسيس كتائب شهداء الأقصى ذروة عمل الكتائب وعملياتها الفدائية، وقد ساعد في ذلك الروح الثورية التي كانت متقدة خلال الانتفاضة الثانية، وحالة رفض السكوت والمفاوضات بين الشباب الفلسطيني المُنتفض، وما قابلها من اعتداءات إسرائيلية وحشية بحق الفلسطينيين وانتهاكات المقدسات الإسلامية.
وفي عودة إلى الشريط النضالي الفلسطيني بداية القرن الـ21، تشير الوقائع إلى أن كتائب شهداء الأقصى عملت إلى جانب كتائب الشهيد عز الدين القسام (الذراع العسكرية لحركة حماس)، وسرايا القدس (الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي) من أجل تغيير معادلة الاستسلام والانهزامية والتسوية التي حاول الاحتلال ومن ورائهم الأمريكان فرضها على الفلسطينيين في قمة كامب ديفيد الثانية، وذلك بتأجيج الأوضاع الميدانية المتمثلة في اندلاع الانتفاضة الثانية.
وخلال انتفاضة الأقصى، احتلت كتائب شهداء الأقصى المرتبة الثانية من حيث العمل الفدائي في الميادين المشتعلة، بعد كتائب الشهيد عز الدين القسام، وتسجل الإحصاءات سقوط 184 قتيلًا إسرائيليًا خلال العمليات التي نفذتها كتائب شهداء الأقصى، وهو ما نسبته 18.4% من مجمل عدد الخسائر البشرية التي لحقت بالاحتلال الصهيوني خلال الانتفاضة وحتى عام 2005.
ولعل أبرز عمليات الكتائب، عملية العفولة المشتركة بين الكتائب وسرايا القدس في أواخر عام 2001، التي فتح فيها منفذا العملية النيران على المستوطنين في مدينة العفولة المحتلة شمال فلسطين، ما أوقع 4 قتلى إسرائيليين وإصابة آخرين، قبل أن يرتقي منفذاها بعد اشتباك مع الشرطة الإسرائيلية.
ومن ضمن العمليات أيضًا، عملية الخضيرة عام 2002، وفيها اخترق أحد عناصر كتائب شهداء الأقصى، عبد السلام حسونة، التحصينات الإسرائيلية مقتحمًا صالة أفراح في بلدة الخضيرة شمال مدينة تل أبيب المحتلة، وصوب بندقيته تجاه المستوطنين ما أدى إلى سقوط 6 قتلى إسرائيليين، وإصابة أكثر من 30 آخرين، قبل أن يستشهد خلال العملية، وكذلك مقتل 6 جنود إسرائيليين وإصابة العشرات في عملية استشهادية مزدوجة نفذتها الكتائب في مدينة تل أبيب المحتلة عام 2003.
الغياب بعد الحضور
في إطار اعتداءاتها في الضفة الغربية وقطاع غزة، نفذت “إسرائيل” عدة عمليات اغتيال بحق المقاومين والقادة العسكريين من جميع الفصائل السياسية والأجنحة العسكرية، فيما لاحقت الكثيرين واعتقلتهم، ومن ضمنها كتائب شهداء الأقصى، التي قدمت عشرات الشهداء أبرزهم معاطف عبيات قائد مجموعات جنوب الضفة الغربية وجهاد العمارين ومجدي الخطيب من أكبر قادة الجناح في قطاع غزة ورائد الكرمي ونايف أبو شرخ، كما اعتقلت المئات أهمهم قائدها الأسير مروان البرغوثي.
هذه الاعتقالات والاغتيالات التي طالت معظم قادة الكتائب كان لها تأثير كبير على عمل الكتائب بعد أن أسدلت الانتفاضة الثانية ستائرها، خاصة في ظل عدم الاتفاق الكامل بين القيادات في حركة فتح على وجود جناح عسكري مسلح يتبع لها، وبحكم أن حركة فتح هي الفصيل المسيطر على منظمة التحرير الفلسطينية التي غيرت دستورها لنبذ الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي، وفي إطار العملية التفاوضية التي خاضتها المنظمة وحركة فتح مع الاحتلال.
وفي الأثناء، بينما كان الحصار الإسرائيلي يشتد على الرئيس الراحل ياسر عرفات في مقر المقاطعة برام الله، وتتزامن معه اعتداءات إسرائيلية وحشية تجاه الفلسطينيين، جرت اجتماعات مغلقة بين عدد من قيادات حركة فتح وعدد من قيادات السلطة الفلسطينية من حركة فتح، لتخرج بعد اجتماعات مطولة بمواقف وصفتها بعض القيادات الفتحاوية الأخرى بـ”العار”، ودعت فيها إلى عدد من المواقف التي تقوّض الانتفاضة، منها دعوتها إلى حل كتائب شهداء الأقصى وجميع الأجنحة الفدائية المسلحة.
وبعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005، لاحظ مراقبون بدء تغلغل الأجهزة الأمنية الفلسطينية داخل الكتائب بشكلٍ أكبر مما كان عليه، وأصبحت الأجهزة الأمنية تستفيد من كتائب الأقصى لحماية وجودها وأداة لتنفيذ مهماتها غير الرسمية، وقد انعكس ذلك على الانتماء لروح الكتائب المواجه للعدو، وأفرز ذلك حالة تخبط وفلتان أمني كانت تجمعات كثيرة من كتائب شهداء الأقصى جزءًا منها.
وقد استمر التراجع وغياب حضورها العسكري والخلافات الداخلية إلى أن أصدر الرئيس الفلسطيني ورأس حركة فتح محمود عباس مرسومًا رئاسيًا يقضي بحل كتائب شهداء الأقصى عام 2007 وعفت “إسرائيل” بموجب اتفاقية مع رئيس الوزراء آنذاك سلام فياض عن 180 مقاتلًا من كتائب شهداء الأقصى مقابل تسليم السلاح والحصول على وظائف في الأجهزة الأمنية.
اليوم، يرى الفلسطينيون في الضفة الغربية أن سلاح الجماعات التي تحمل اسم كتائب شهداء الأقصى، هو ذاته سلاح الأجهزة الأمنية الذي يوجه صوب المقاومين ويلاحقهم بحكم التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال، وفي الوقت ذاته ما زال طيف كتائب الأقصى في قطاع غزة حاضرًا في القطاع تحت اسم لواء العامودي، وتشارك فصائل المقاومة الأخرى في عملياتها ضد الاحتلال ورد أي عدوان إسرائيلي على القطاع.