على خلاف انتفاضة الحجارة عام 1987، تميّزت انتفاضة الأقصى أو الانتفاضة الثانية عام 2000 بكثرة الهجمات العسكرية والعمليات الفدائية، التي نفّذتها الفصائل وقوى المقاومة الفلسطينية في الأوساط الإسرائيلية، التي شهدت أدوات المقاومة المستخدَمة في الانتفاضة الأولى من الحجر والزجاجة الحارقة إلى أول قصف فلسطيني صاروخي نفّذته كتائب القسّام، الجناح العسكري لحركة حماس.
وفي إطار هذه التطور الذي شهده النضال الفلسطيني، ظهرت حركة كفاح مسلح جديدة في الميدان، لتنضمَّ إلى جموع الأحزاب والقوى السياسية في الساحة الفلسطينية، فمع أول شرارة انطلقت أواخر سبتمبر/ أيلول 2000، أعلن عدد من الشباب الفلسطيني تأسيس لجان المقاومة الشعبية وجناحها العسكري “ألوية الناصر صلاح الدين”.
جمعهم السلاح وفرّقتهم السياسة
جمعَت لجان المقاومة الشعبية وجناحها العسكري منذ تأسيسها تحت مظلتها شبابًا فلسطينيًّا من مختلف التيارات والتوجهات، من منتمي التيار الاشتراكي اليساري، إلى معتقدي التيار الإسلامي المعتدل، وحاملي راية العلمانية، وقد شكّلت شعبية انطلاقتها والروح الثورية المتقدة إبّان الانتفاضة بيئة خصبة لإذابة الفوارق الفكرية بين منتميها، خاصة أن فوَّهة السلاح جمعتهم أكثر ممّا جمعهم أي شيء آخر.
ومع بدء أحداث الانقسام الفلسطيني عام 2007، بدأ هذا التنوع الأيديولوجي الذي احتفت به “اللجان” في الاصطدام بالواقع السياسي الفلسطيني، فتأثّرت البنية الشعبية لـ”اللجان” بأحداث الانقسام، وبدأت الخلافات تطغى بين عدد من شبابها، لا سيما المعتقدين بفكرَي حركتَي حماس وفتح، الحركتَين الرئيستَين في انقسام البيت الفلسطيني، وقد أنتجت هذه الخلافات تشويشًا في عمل “اللجان” وأضعفت من أدائها، خاصة في الميدان السياسي.
وإلى جانب الانقسام، فإن النقطة الشعبية التي انطلقت منها “اللجان”، واختلاف معتقدات منتسبيها، جعلت من تأسيس أيديولوجيا ورؤية سياسية واضحة أمرًا صعبًا عليها، فما يراه اليسار غير الذي يريده التيار الإسلامي، وهو بالتأكيد مختلف عمّا يطمح له العلمانيون.
وبناءً على ذلك، اتّسمت لجان المقاومة الشعبية، وفق محلِّلين، بضعف الحضور السياسي، إذ لم تقدِّم أية رؤية سياسية جديدة في الساحة الفلسطينية، بينما برزَ دورها بشكل كبير في العمليات النوعية العسكرية.
نوعية العمليات: حينما يعود صلاح الدين!
تميّزت لجان المقاومة الشعبية وجناحها العسكري “ألوية الناصر صلاح الدين” بعملياتهما النوعية ضد الاحتلال، وخلال العقدَين الماضيَّين نفّذت الألوية عمليات فدائية ألحقت قتلى في صفوف الجنود الإسرائيليين، فقد استطاعت هدم أسطورة دبابة ميركافا -الأكثر تحصينًا في العالم- من خلال تدميرها بشكل كامل لأربع مرات متتالية، كما استهدفت في عملية استشهادية حافلة أمن إسرائيلية قرب معبر رفح.
وقد نفّذت عمليات مشتركة مع الأجنحة العسكرية الأخرى، أذاقت فيها الاحتلال معنى وحدة السلاح والعقل الفلسطيني، فقد شاركت مع سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، في عملية “البرق الصاعق” التي أوقعت 5 مستوطنين قتلى بحسب الوثائق، حيث في سبيل الإعداد للعملية، تخفّى منفِّذا العملية داخل صناديق خضراوات محمّلة على دابة، ومزوَّدة بكاميرات للرصد وجمع المعلومات من قلب مستوطنة كيسوفيم.
ونفّذت ألوية الناصر صلاح الدين مع كتائب القسّام وكتائب شهداء الأقصى، عملية “زلزلة الحصون” في معبر المنطار شمال شرق غزة، التي أسفرت عن مقتل 7 جنود إسرائيليين وإصابة آخرين.
الوهم المتبدِّد: اعتقال شاليط
ما زال العالم يذكر حين استيقظ في يونيو/ حزيران 2006 على عملية هزّت أركان الاحتلال الإسرائيلي، حينما وقع الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في قبضة المقاومة الفلسطينية، في عملية “الوهم المتبدِّد” التي اقتحمت فيها ألوية الناصر صلاح الدين وكتائب القسّام في خطة مشتركة خطوط العدو، واقتادت شاليط من دبابته عبر الأنفاق إلى مكان مجهول لمدة 5 سنوات، قبل أن يتم الإفراج عنه في صفقة تبادُل أسرى أفرجَ الاحتلال على إثرها عمّا يزيد على ألف أسير فلسطيني.
كمين العلم: الخط الفارق
لم يهُنْ لذلك الجندي الإسرائيلي رؤية العلم الفلسطيني مرفرفًا قرب المنطقة الحدودية، بين قطاع غزة المحاصر والداخل الفلسطيني المحتل، فسارعَ بخطواته المغرورة إلى السياج المنصوب على الحدود ليزيلَ العلم، إلا أن اللحظة التي اقتلعت فيها عنجهيته العلم، اقتلع هذا العلم روحه، بعد انفجار عبوات زُرعت في ساريته، كانت ألوية الناصر صلاح الدين قد أعدّتها، في كمين نوعي عُرف باسم “كمين العلم”، وثّقته بعدسة كاميرتها.
وقد وُصفت هذه العملية، التي جاءت ردًّا على تصعيد إسرائيلي ضد غزة عام 2018، بالعملية النوعية التي استطاعت فيها الألوية هزّ كيان الاحتلال، وخدع وحدة هندسة المتفجّرات لديه، وما أبرزته المشاهد من ضعف الذكاء الحربي لدى جنود الاحتلال.
بعد عقدَين على التأسيس: من يروي وجودها؟
لم تحظَ لجان المقاومة الشعبية بالقاعدة الجماهيرية الواسعة في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصرة، كمثيلتها من الحركات مثل حماس وفتح بالإضافة إلى الجبهة الشعبية.
وعلى الرغم من قلّة شعبيتها وغياب دعم القوى الإقليمية الكبرى لها، إلا أنها ما زالت حاضرة في النضال الفلسطيني، وقد استطاعت تطوير صواريخها الخاصة، ومشاركة فصائل المقاومة الأخرى في قصف المدن المحتلة في أي تصدٍّ للاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة، وما زالت تطوِّر من عملياتها الفردية والمشتركة ضد الاحتلال.
ترى القراءات لواقع “اللجان” وجناحها العسكري، أن استمرارها في العمليات النوعية ضد الاحتلال، بالإضافة إلى ما تفيده الأخبار من وجود “دعم مادي من حزب الله اللبناني لها، في إطار دعم محور المقاومة”، سببان رئيسيان في استمرار ضخّ الدم في شريان حياة الحركة، على مدى عقدَين من الزمن، ورافدان في ضمان ديمومة كفاحها المسلح ضد الاحتلال.
واليوم بعد أكثر من 20 عامًا على تأسيسها، انحسرَ دور لجان المقاومة الشعبية بشكل كبير وسط جمود رؤيتها السياسية، كما تقلّصَ دورها بشكل كبير في الضفة الغربية المحتلة مع ملاحقة الاحتلال والسلطة الفلسطينية للمقاومين الفدائيين، ضمن تنسيق أمني بدأت فصوله منذ توقيع اتفاقية أوسلو.
ومع ذلك، ما زالت “اللجان” تحضر بقوة بشكل منفصل في المقاومة المسلحة في قطاع غزة المحاصر، وتقف في غرفة العمليات المشتركة مع فصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى.