بعد تصدير القضية الفلسطينية إلى العالمين العربي والغربي، بدأ الفلسطينيون يبحثون عن كيان يوحد الجهود الداخلية الفلسطينية ويقدم رؤية تحرير فلسطين على أساس الكفاح المسلح، ويمثلهم خارجيًا في المحافل العربية والدولية، ويكون في الوقت ذاته جسدًا يجمع الفلسطينيين في الداخل والشتات ومخيمات اللجوء تحت مظلته.
تزامنت هذه المحاولات مع ظهور الحركات والأحزاب الفلسطينية التي آمنت بالكفاح المسلح كحل وحيد للقضية الفلسطينية، بداية من حركة “القوميين العرب” التي أسست فرعها الفلسطيني، وبداية التحركات الأولى لإنشاء حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، عدا عن النشاط الفلسطيني الواضح في الحزب الشيوعي العربي.
اللجوء والنضال: لبنة التأسيس
بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، التهبت مشاعر الثورة والنضال في صفوف الفلسطينيين الذين رأوا في قدرة مصر على رد العدوان أملًا يمكن استلهامه في قضيتهم، وبدأت فكرة تشكيل منظمة مقاتلة تتبلور لدى الفلسطينيين لا سيما اللاجئين المثقفين في قطاع غزة، وتحوّرت هذه الأفكار لدى “رابطة الطلبة الفلسطينيين” إلى النواة الأولى لانطلاق المنظمة.
أفضت القمة العربية الأولى عام 1964، بدعوة من الرئيس المصري جمال عبد الناصر، إلى عقد مؤتمر فلسطيني عُرف لاحقًا باسم المجلس الوطني الفلسطيني الأول لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفيه أعلن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني في مختلف الأماكن، وانتخب أحمد الشقيري رئيسًا لها، واختيرت القدس كمقر لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، كما قرر المؤتمر إعداد الشعب الفلسطيني عسكريًا وإنشاء الصندوق القومي الفلسطيني.
ما بعد النكسة: توسع المقاومة والفداء
عززت هزيمة 1967 مكانة المنظمات الفدائية وحطت من مكانة منظمة التحرير الفلسطينية، بسبب ارتباط رصيدها برصيد الأنظمة العربية التقدمية، ولقيت المقاومة الفلسطينية تأييدًا جماهيريًا، بل اكتسبت “صفة تمثيلية” للشعب الفلسطيني، في إطار ترجيح فكرة الحرب الشعبية لمواجهة الوجود الصهيوني، لا سيما أن احتلال “إسرائيل” للضفة الغربية وقطاع غزة وسّع خطوط مواجهتها.
ومع تنامي حركة المقاومة الفلسطينية في أعقاب الحرب، أصبح العامل الفلسطيني للمرة الأولى منذ نكبة 1948 مهمًا وفعالًا في الصراع، واطّرد العمل الفدائي، وطرحت ظاهرة تعدد التنظيمات الفدائية نفسها في ساحة النضال الفلسطيني.
إلا أن الهزيمة التي لحقت بالعرب في حرب حزيران التي تزامنت مع خلافات بين أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة وتصاعد حركة فتح – التي لم تكن ملتحقة بالمنظمة بعد – في الميدان الثوري، دفعت رئيسها أحمد الشقيري إلى الاستقالة، وتزعمت حركة فتح في أعقاب الحرب واستقالة الشقيري، المطالبة بتجديد المنظمة، ورفعت شعار استبدال قادة الكفاح المسلح بـ”ثوار المكاتب”.
وفي يناير/كانون الثاني 1968 دعت حركة فتح إلى عقد مؤتمر عام في القاهرة، من أجل بحث إقامة الوحدة الوطنية وتدعيم الكفاح المسلح وتنميته، وبعد عدة اجتماعات، اتُّفق على تشكيل المجلس الوطني في دورته الرابعة بشكل يضم أحزابًا فدائيةً ومنها فتح، وتمكنت الأخيرة من السيطرة على الشبكة الإدارية والمالية وجيش التحرير.
المنظمة والدول العربية
تميزت العلاقة بين المنظمة والعديد من الدول العربية بفترات من الشد والجذب بحسب انسجام المواقف السياسية لهذه الدول أو اختلافها مع توجهات المنظمة، ففي الأردن، شهدت العلاقة خلال سنوات حكم الملك حسين تأزمًا وصل في بعض الفترات إلى حد الانفجار كما حدث عام 1970 – 1971 أو ما يعرف باسم أيلول الأسود، حين تحرك الجيش الأردني لوضع نهاية للمنظمات الفلسطينية الموجودة في المدن الأردنية التي أرادت إحداث تغيير في الأردن، وتجددت الصدامات بين منظمة التحرير والحكومة الأردنية إلى أن انتهت بخروج المنظمة من الأردن نهائيًا ومعها جميع الفدائيين وأسلحتهم إلى لبنان.
وفي لبنان، اصطدمت منظمة التحرير الفلسطينية بالحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، والاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، والعدوان الإسرائيلي العنيف على بيروت، ما أدى إلى إخراج المنظمة والقوات الفدائية إلى تونس.
أما تونس، فقد لعبت دورًا عربيًا مهمًا خاصة بعد انتقال مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس عقب اتفاقية كامب ديفيد، واستقبلت في 1982 زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وعناصره الذين كانوا في بيروت إثر الحصار الإسرائيلي المفروض عليها.
وفي أواخر الثمانينيات شنت “إسرائيل” من خلال عملائها حملات اغتيال وغارات على مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، فاغتالت اثنين من أكبر قادة المنظمة وهم: خليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد)، واتخذت المنظمة من تونس مقرًا لها طوال نحو عشر سنوات، قبل أن يمهد اتفاق أوسلو بين المنظمة والاحتلال الإسرائيلي عام 1993 الطريق أمام عودتها إلى الضفة الغربية وقطاع غزة.
وشهدت الجزائر عام 1988 وثيقة إعلان استقلال دولة فلسطين على جزء من أرض فلسطين التاريخية، خلال انعقاد الدورة الـ19 للمجلس الوطني الفلسطيني، وعلى إثره اعترفت 105 دول باستقلال فلسطين، ونشرت منظمة التحرير 70 سفيرًا فلسطينيًا في عدد من الدول المعترفة بالاستقلال.
تغير الأبجديات: من الكفاح إلى السلام!
خلال مؤتمر مدريد للسلام في نوفمبر/تشرين الثاني 1991، اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الذي يحمل في طياته اعترافًا ضمنيًا بـ”إسرائيل” بعد أن ظلت لسنوات تعارضه وتعتبره تفريطًا في الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.
وأسفر المؤتمر عن سلسلة مفاوضات امتدت حتى عام 1993، بتوقيع اتفاق أوسلو بين المنظمة والاحتلال الإسرائيلي، واعترفت فيه بحل الدولتين: دولة “إسرائيل” داخل الأراضي المحتلة عام 48، والدولة الفلسطينية على حدود 67، وعلى إثره غيرت منظمة التحرير الفلسطينية بصورة رسمية الجمل والعبارات الموجودة في ميثاقها الداعية إلى القضاء على “دولة إسرائيل” مقابل محاربة الإرهاب، ونبذت الكفاح المسلح من أبجدياتها، ودخلت المنظمة التي شكلت السلطة الفلسطينية في تنسيق أمني مع الاحتلال بدأت بموجبه بملاحقة الفدائيين والتصدي للعمليات الفدائية.
يعتبر تشكيل السلطة الفلسطينية بداية النهاية للدور الحقيقي لمنظمة التحرير الفلسطينية، إذ تداخلت المهام كثيرًا بين جسد المنظمة وجسد السلطة المشكل، ما تسبب في تهميش دورها أمام سيطرة حركة فتح عليها وتحكمها في القرار السياسي للمنظمة، فيما فشلت كل محاولات الإصلاح التي جرت بوساطات مصرية أو عربية لإقناع حماس والجهاد الإسلامي بالدخول في المنظمة وإعادة إحيائها حتى باتت القيادات الفلسطينية تصفها بـ”الصالون السياسي”.
ويمكن القول إن جسد المنظمة اليوم بات يحتاج إلى نسف كلي وإعادة بناء من جديد في ظل وجود فصائل فلسطينية صغيرة لا تحظى بقبول أو حضور جماهيري شعبي على حساب فصائل فلسطينية تمتلك عشرات آلاف العناصر عدا عن القواعد الشعبية.