في أواخر عام 1964، بدأت حركة القوميين العرب التي تأسست عام 1948 بتوجيه بوصلتها الحزبية من عمل سياسي إلى عمليات عسكرية، فرفعت شعار “فوق الصفر وتحت التوريط” أي أن عملياتها العسكرية ستكون محدودة دون جر الدول العربية لا سيما مصر وسوريا إلى حرب مع “إسرائيل” ليستا على استعداد لها.
وبعد الهزيمة الكبرى التي مني بها العرب في حرب حزيران عام 1967، باتت الحاجة إلى ظهور تنظيم كفاح مسلح منظم وواسع أكثر من سابقتها، خاصةً بعدما كشفته الحرب من ضعف التكتيك أو حتى الإرادة العربية للانتصار، وفي وقت أثبتت فيه الإحصاءات أن كفة الميزان العسكري رجحت للقوى العربية عُدة وعددًا مقارنة مع عدوتها “إسرائيل”.
ولادة مسلحة من رحم القومية العربية
بعد أن وضعت الحرب أوزارها، لم ترَ حركة القوميين العرب – فرع فلسطين في منظمة التحرير الفلسطينية – بتشكيلاتها آنذاك إطارًا يصلح لتوحيد جهود الفصائل الوطنية الفلسطينية، ولم تر مناخًا مُساعدًا لتهيئة أسباب العمل الثوري والانتصار، وما لبث العرب والفلسطينيون أن استفاقوا من خيبة هزيمة حزيران، حتى أعلنت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين انطلاقتها نهاية عام 1967، كامتداد للحراك العسكري المحدود الذي بدأته حركة القوميين العرب، وبقيادة أبو علي مصطفى وجورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي، وضمت حركة القوميين العرب الجبهة الشعبية في إطار واحد مع جبهة تحرير فلسطين وتنظيم أبطال العودة وعناصر مستقلة ومجموعة من الضباط الوحدويين الناصريين.
ومنذ تأسيسها، سعت الجبهة الشعبية بشكل مباشر إلى إسقاط أي حالة تعايش يسعى الاحتلال لفرضها سواء في الوسط الفلسطيني أم العربي الخارجي، وما يعنيه ذلك من استمرار إشعال الساحة الفلسطينية والعربية وإذكاء الروح الثورية وإبقائها نارًا متقدة لا تخمد، وانتهاءً بتحرير الأرض الفلسطينية من الاحتلال وعودة اللاجئين.
وإلى جانب هدفها الثوري الرئيسي، وتماشيًا مع مبادئ حركة القوميين العرب التي ولدت الجبهة من رحمها، حملت الجبهة أيديولوجية اشتراكيةً تسعى فيها إلى تطبيق مبادئ ماركس ولينين، إلا أن رؤيتها اليسارية هذه أحدثت خلافات داخلية بين أعضائها ما أدى إلى انشقاق الجبهة الديمقراطية عن الشعبية، وبالإضافة إلى ذلك، فقد وضع فكرها الماركسي “الشعبية” في اصطدامات أيديولوجية أحيانًا مع منتميي التيار الإسلامي في فلسطين، إلا أن هذه الصدامات الفكرية النظرية تغيب في حمّى الروح النضالية على أرض المعركة.
خطف طائرات وتبادل أسرى
ما بين خطف الطائرات وعمليات الأسر والتفجير، تنوعت العمليات الفدائية التي نفذتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فبعد عام واحد من تأسيسها استطاعت الجبهة الشعبية بقيادة ليلى خالد ويوسف الرضيع اختطاف طائرة إسرائيلية كانت متجهة من العاصمة الإيطالية روما إلى مدينة تل أبيب، وأجبروا الطائرة التي تقل على متنها أكثر من 100 راكب على الهبوط الاضطراري في أرض الجزائر.
وأطلقت الجبهة الشعبية سراح الركاب مقابل الإفراج عن 37 أسيرًا فلسطينيًا من ذوي الأحكام العالية، ومرة أخرى تعود الفدائية الفلسطينية ليلى خالد إلى الواجهة في محاولة لاختطاف طائرة إسرائيلية أخرى، إلا أن العملية باءت بالفشل واستشهد أحد منفذيها، بينما اعتقلت خالد قبل الإفراج عنها بموجب عملية ناجحة لاختطاف طائرة بريطانية.
عام 1978، وفي أثناء الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان في عملية الليطاني، تمكنت “الشعبية” من أسر الجندي الإسرائيلي أبراهام عمرام، وفاوضت عليه الاحتلال في صفقة تبادل أسرى عرفت لاحقًا باسم “النورس” بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، أطلقت فيها “الشعبية” سراح الجندي الإسرائيلي مقابل الإفراج عن 76 أسيرًا من مختلف الفصائل الفلسطينية.
“الشعبية” جرأة التفجيرات الفدائية
في تعليقه على إحدى عمليات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يقول أحد مؤسسيها الدكتور جورج حبش: “نريد من “إسرائيل” أن تعرف بأننا قادرون على الرد على كل هجوم وحشي يتعرض له شعبنا، وأننا لا نقاتل ضد الشعب اليهودي بل نستهدف إسرائيل كبقاء عسكري وسياسي، ونعمل من أجل تدمير “إسرائيل” عسكريًا، ولكننا سنرد على أي عمل وحشي إسرائيلي ضد المدنيين وضد عائلاتنا”.
ويذكر التاريخ النضالي جيدًا، اقتحام طفلين فلسطينيين من أعضاء الجبهة الشعبية لم تتجاوز أعمارهم الـ13 فندق “الامباسدور” وتوجههم مباشرة إلى غرفة الحاكم العسكري عام 1968، وتفجير حقيبة ناسفة فيها، ويصفها الشاهدون آنذاك كواحدة من أجرأ العمليات التي كان الفلسطينيون متعطشين لها بعد الخذلان والانكسار الذي أحدثته هزيمة حزيران 67.
ولا ينسى مستوطنو القدس “ليلة القنابل” عام 1968 حين أمطرت “الشعبية” المدينة بعشرات القنابل على مساحات واسعة من المدينة المحتلة، ما أدى إلى وقوع عشرات الإصابات في صفوف المستوطنين الإسرائيليين، وفي سعيها لمحاربة “إسرائيل” اقتصاديًا، هاجمت قوة بحرية تتبع “الشعبية” ناقلة نفط إسرائيلية محملة بـ65 آلف طن من النفط متجهة إلى ميناء إيلات، ليجري ضخ هذا الزيت إلى عسقلان ولاحقًا إلى أوروبا الغربية.
حينما زغرد كاتم الصوت
في 17 من أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، يستذكر الفلسطينيون بأهازيجهم وفرحهم، عملية اغتيال وزير السياحة الإسرائيلي رحبعام زئيفي في فندق “حياة ريجنسي” بالقدس المحتلة، بثلاث رصاصات في رأسه أطلقها عناصر خلية تتبع للجبهة الشعبية بواسطة مسدس مزود بكاتم الصوت، ردًا على اغتيال الأمين العام للجبهة الشعبية أبو علي مصطفى، في حدث هز أركان كيان الاحتلال الإسرائيلي عام 2001، لا سيما أن الفندق لا يبعد إلا بضعة مئات من الأمتار عن قيادة الشرطة الإسرائيلية.
وعن العملية، يقول خَلفُ أبو علي مصطفى، الأمين العام للجبهة الشعبية أحمد سعدات: “لن نكون ندًا للأعداء ولن نستحق احترام الشهداء، ولن نحترم احترام شعبنا بشهدائه وقادته وشيوخه وأطفاله ونسائه، إذا لم يكن شعارنا، العين بالعين والسن بالسن والرأس بالرأس، فعهدًا لنا يا رفيقنا أبو علي، عهدًا لك يا معلمنا، يا رمزنا يا عنوان عزتنا، ألا يكون شعارنا أقلّ من الرأس بالرأس”.
“الشعبية” معركة الوعي
لم يقتصر عمل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على الميدان السياسي والعسكري فحسب، بل خاضت معركة وعي سعت فيها إلى تقديم الأجندة الوطنية والثوابت النضالية الفكرية، ولعل أبرز محاربيها في هذا المجال الأديب الفلسطيني وعضو مكتب الجبهة الشعبية السياسي غسان كنفاني.
كنفاني ومن خلال تأسيسه لمجلة “الهدف” سعى إلى رفد الثورة والنضال الفلسطيني وإتاحة منبر للفدائيين والمتحمسين للقضية الفلسطينية إلى نشر أفكارهم ومناقشتها وإيجاد السبل والخطط الثورية الفاعلة في محاربة الاحتلال الإسرائيلي، وانتقاد كل مسميات ومحاولات التعايش مع المحتل والتطبيع معه والخيانة والعمالة له على أنقاض الدماء الفلسطينية.
وبعد مرور أكثر من نصف قرن على تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تعرضت خلالها الشعبية لسلسلة تحولات في رؤيتها ومسارها، واندمجت فيه إلى الساحة السياسية والفكرية والمقاومة المسلحة، ما زالت الجبهة الشعبية حاضرة في المقاومة المسلحة المنظمة في قطاع غزة عبر كتائب أبو علي مصطفى، إلى جانب حراك فردي لأبنائها في الضفة الغربية وسط ملاحقة قوات الاحتلال لأي عملية فدائية بالتنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية.