يعيدُ الفلسطينيون النظر كثيرًا في جدوى الوسائل المتّبعة في مقاومتهم للاحتلال الإسرائيلي، منذ أن أعلن دولته على أراضيهم وشرّدهم إلى الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر، وبقية دول العالم عام 1948، حيث تتراوح الخيارات التقليدية ما بين السلاح والاستسلام لسياسات اتفاقية أوسلو وما نتج عنها من ممارسات تضيقية وتميعيية لحقوق الفلسطينيين، ولكن مع ظهور وسائل مختلفة للمقاومة الشعبية المسلحة التي تنوعت ما بين الحجر والمقلاع والبالونات الحارقة والإرباك الليلي، فيبدو أن الجواب هنا واضح: المقاومة المسلحة جدوى مستمرة.
القوة لاسترداد ما أُخذ بالقوة
يمكن استخلاص رؤية شريحة واسعة من الفلسطينيين من عبارة “ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلّا بالقوة”، على قاعدة أن المسار التفاوضي منذ أن سلكته منظمة التحرير وحركة فتح، بداية من مؤتمرَي مدريد الأول والثاني وانتهاءً باتفاقية أوسلو، لم يجلب الكثير للشعب الفلسطيني، إذ يرى أصحاب هذه الرؤية أن الاحتلال قد تمدّدَ، ونسفَ كل الاتفاقيات وحرمَ الفلسطينيين من أبسط حقوقهم، ودمّر حتى المكتسبات التي قدّمتها الاتفاقية كالمطار ومنع إقامة الميناء، وفصل غزة عن الضفة الغربية والقدس المحتلتَين، بالتوازي مع سلب أراضي الضفة المحتلة حتى بات أكثر من 87% من أراضيها تحت السيطرة الإسرائيلية، تحت حُجَج وذرائع مختلفة.
وعدم التزام الاحتلال بالشروط والاتفاقيات الموقّعة مع السلطة، واجهها ضعف فلسطيني رسمي يتمثّل في التنسيق الأمني للسلطة وعرقلة أي عمل مقاوِم، حيث يشكّل التنسيق الأمني بشكله الحالي واقعًا يصعب معه تنفيذ أي عمل مقاوم ضد الاحتلال وجنوده ومستوطنيه، نتيجة لسرعة اعتقال منفّذي العمليات وحتى الوصول إليهم وتحديد هوياتهم فيما لو انسحبوا من المكان.
تحدث الاحتلال الإسرائيلي عن ذلك كثيرًا، حتى إن الرئيس الفلسطيني محمود عباس نفسه وصف في أكثر من مرة هذا التنسيق بـ”المقدّس”، رغم وجود شريحة لا تقلّ عن 60% من الشارع الفلسطيني تعارضه.
باتت عمليات “الكارلو” هي السمة الأبرز لغالبية العمليات المنفَّذة في الضفة الغربية والقدس المحتلتَين، أمام ضعف وجود الأسلحة نظرًا إلى عمليات التنسيق الأمني وصعوبة الحصول على الأسلحة المتطوِّرة.
العمليات الفردية النوعية
نتيجة لهذه المعطيات، يتمسك الشعب الفلسطيني بالمقاومة المسلحة حتى في واقع الضفة الغربية المعقّد منذ عقود، فعلى سبيل المثال لا الحصر، سبق أن نفّذَ بعض من شبابها عمليات قتل لجنود الاحتلال باستخدام الحجر، مثلما فعل الفلسطيني نظمي أبو بكر من سكّان يعبد قضاء جنين بالضفة، الذي كان يبلغ من العمر 49 عامًا واعتقل بسبب ذلك في 12 مايو/ أيار 2020.
وفي الضفة الغربية المحتلة، حيث يشهد التنسيق الأمني ريعان شبابه، يبرز هنا دور عمليات “الكارلو”، حينما أقدم الشاب أشرف نعالوة على تنفيذ عملية قتلَ خلالها 3 مستوطنين قبل 3 أعوام تقريبًا، قبل أن ينسحب من مكان تنفيذ عمليته ويظلّ مطارَدًا لنحو شهر حتى اغتاله الاحتلال بعد محاصرته.
و”الكارلو” هو سلاح رشّاش أوروبي المنشأ، قُلِّد في مصر عام 1956، وأطلق عليه اسم “بور سعيد” قبل أن يطوِّر الفلسطينيون نسختهم الخاصة التي استخدموها في مواجهة الاحتلال منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
وباتت عمليات “الكارلو” هي السمة الأبرز لغالبية العمليات المنفَّذة في الضفة الغربية والقدس المحتلتَين، أمام ضعف وجود الأسلحة نظرًا إلى عمليات التنسيق الأمني وصعوبة الحصول على الأسلحة المتطوِّرة ومصادرتها، وعمليات الاعتقالات والمطاردة اليومية من قبل أجهزة أمن السلطة وحتى الاحتلال.
إلى جانب “الكارلو”، فإن البدائل التي ابتُدعَت في أعقاب هبّة عام 2015، التي أُطلق عليها حينها “انتفاضة القدس”، شهدت تفعيلًا لأدوات كانت مستخدَمة إبّان الانتفاضة الأولى مثل عمليات الطعن باستخدام السكاكين، وعمليات الدعس باستخدام السيارات والشاحنات.
وشكّل تفعيل هذه الأدوات صدمة في أروقة صنّاع القرار لدى الاحتلال والسلطة، ما استدعى تشديدًا أكثر من قبل الأجهزة الأمنية لمواجهتها، كما تحدّث عباس في مقابلة حينما قال: “الأمن الفلسطيني يفتّش حقائب الطلاب لمنع وجود السكاكين”.
ويتّضح من تفعيل هذه الوسائل على بدائيتها، وعدم دقّتها في تحقيق الأضرار كثيرًا في صفوف جنود الاحتلال ومستوطنيه، مدى تشبُّث الفلسطينيين بالمقاومة المسلحة، وتعلُّقهم بمقولة “ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلّا بالقوة”، كون الخيارات الأخرى لم تحقِّق لهم أي نتائج.
بدائل وأدوات جديدة
وبالإشارة إلى وسائل أخرى، فقد شكّل انطلاق مسيرات العودة مصدرًا لاستخدام وسيلة كانت غريبة في بداية الأمر، حينما تمَّ استخدام الطائرات الورقية الحارقة لاستهداف الأراضي الزراعية القريبة من الشريط الفاصل بين قطاع غزة المحاصر والأراضي المحتلة عام 1948.
وتطورت هذه الوسائل إلى أن تحوّلت لاستخدام بالونات متفجِّرة، قادرة على إشعال الحارق وإحداث أصوات انفجارات مشابهة لأصوات القنابل، وتحوُّلَ التعامُل الإسرائيلي معها في بعض الأحيان لمطالبة الوسطاء بالضغط على الفصائل الفلسطينية لوقفها أو تجميدها، مقابل تقديم تنفيذ تسهيلات حياتية وإنسانية لصالح أكثر من مليونَي نسمة يعيشون في القطاع الذي لا تزيد مساحته عن 365 كيلومتر مربّع.
بتتالي الوقت يتّضح أن جميع الوسائل المستخدمة من قبل المقاومة ذات جدوى بطابعَيها الشعبي والعسكري.
ومن هنا، إن جميع ما سبق يؤكّد أن الوسائل الشعبية تشكل رافعة للعمل العسكري المسلَّح للمقاومة الفلسطينية، التي تطورت كثيرًا على مدار العقود الثلاثة الأخيرة، خصوصًا مع تأسيس الإسلاميين للفصائل والأحزاب والأذرع العسكرية المختلفة في قطاع غزة المحاصر.
القوة العسكرية
أما بالحديث عسكريًّا، فقد فتدرّجت المقاومة ما بين العمل المسلح الجماعي والفردي، بالقيام بعمليات الفدائية باستخدام المسدسات كما جرى بعد الانتفاضة الأولى، ثم الانتقال إلى مرحلة العمليات الاستشهادية المفخخة التي كانت تستهدِف العمق المحتل عام 1948 بين الجنود والمستوطنين.
وفي أعقاب انتفاضة الأقصى عام 2000، انتقلت المقاومة إلى مرحلة أخرى من التطور تمثّلت في خوض معارك “حرب المدن والشوارع”، ومواجهة الاجتياحات الإسرائيلية بالأسلحة الرشاشة، ثم شكّل ظهور الصواريخ المحلية عام 2001 تحوُّلًا دراماتيكيًّا راكمَت عليه المقاومة لاحقًا الكثير.
فمن مسافات لا تتجاوز الـ 4 إلى 7 كيلومترات فقط، وبطُرُق إطلاق بدائية كانت تعرِّض مطلقي الصواريخ إلى الاستهداف المباشر، أصبحت الصواريخ تستهدف كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة وعلى مسافة 250 كيلومترًا مربّعًا وأكثر، جعلت من الاحتلال يهرول نحو الوسطاء لطلب الهدوء ووقف استهداف تل أبيب.
وأصبح استهداف تل أبيب كشربة الماء كما تحدثت قيادة فصائل المقاومة، حتى إن الاحتلال والوسطاء باتوا يعتقدون أن فصائل المقاومة بواقعها الحالي قادرة على رسم المعادلات وتغيير شكل الصراع، وسط مخاوف من أن تمتلكَ المقاومة مزيدًا من التطور في ساحات أخرى داخل الضفة الغربية والقدس المحتلتَين، وحتى الداخل المحتل عام 1948.
وبتتالي الوقت يتّضح أن جميع الوسائل المستخدَمة من قبل المقاومة ذات جدوى بطابعَيها الشعبي والعسكري، على حساب مسارات المفاوضات السلمية والمسار الذي سلكته فصائل منظمة التحرير، التي اتّضح أنها غير قادرة على تقديم شيء، حتى إن الإسرائيليين باتوا لا يتحدثون عن المفاوضات في الوقت الذي يلحُّ الرئيس عباس كثيرًا على سلوك هذا المسار رغم توقّفه منذ صعود نتنياهو.