في تقرير أخير لمجلة “فورين بوليسي”، قام الكاتب “كيث جونسون” بتعقب آثار التحولات الاقتصادية العالمية وبوادر الكساد على اقتصادات الدول الخليجية التي يعتمد اقتصادها على إنتاج النفط بالأساس، وكيف أن هذه التحولات تمثل خطرًا ليس بالقليل على النظام المصري نظرًا لصعوبة استكمال المساعدات الخليجية، وحاول من خلال توقع هذه الآثار أن يستكشف ما سيترتب على هذه التغيرات بشكل غير مباشر من تغير في السياسات الداخلية والخارجية لهذه الدول، ومن خلال نظرة أكثر عمقًا استطاع أن يقدم تصورًا عن آثار التغير في هذه السياسات على عدد من دول المنطقة العربية (مصر وتونس والمغرب والأردن تحديدًا) لما تمثله هذه الدول من ضابط للدور الخليجي والسعودي – الإماراتي بالذات في المنطقة، ومن الواضح أن آثار تقليص الإنفاق للحد من آثار الكساد ستضع العديد من الدول سواء الخليجية أو المعتمدة عليها اقتصاديًا أمام عدد محدود للغاية من الاختيارات الصعبة.
يبدو أن الانخفاضات المتكررة لسعر النفط في الفترة الأخيرة ستتحول إلى واقع بعيد المدى، فوفقًا لتقارير عدد من البنوك الاستثمارية الضخمة كجولدمان ساكس فإن متوسط سعر النفط للعام القادم لن يزيد عن الوضع الحالي المنخفض أصلاً، فالاقتصاد العالمي المتدهور لن يسمح لسعر برميل النفط بالزيادة عن 80 دولار أمريكي ما لم تقرر دول أوبيك مجتمعة تخفيض المعروض بالسوق بتقليل الإنتاج، وبالتالي يظهر أن انخفاض الأسعار في الأشهر الأربعة الأخيرة لم يكن مجرد تغير سعر بل دلالة على تشبع السوق.
ومن الواضح أن هذه ليست بالأخبار الجيدة للدول المنتجة للنفط، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف ستستطيع دول الخليج التأقلم مع الانخفاض طويل الأمد لسعر النفط خصوصًا مع أخذ التزاماتها نحو شعوبها فيما يخص دعم الطاقة والبذخ الاجتماعي والتزاماتها نحو ما تدعمه من حكومات الدول الأفقر في المنطقة مثل مصر والأردن في الاعتبار.
فبينما ضمنت دول الخليج (السعودية والكويت تحديدًا) الاستقرار السياسي الداخلي عن طريق البذخ في الإنفاق على شعوبها وتقديم الدعم الاقتصادي والاجتماعي بكافة الأشكال الممكنة وليس في صورة دعم الطاقة أو المحروقات فقط، فقد حاولت تلك الدول ضمان الاستقرار الإقليمي ومنع توغل أي قوى تختلف معها في المنطقة عن طريق دعم حكومات موالية لها في دول الجوار كمصر والأردن والمغرب تحديدًا، وهذا كفيل بجعل الحالة الاقتصادية لدول الخليج مجال اهتمام أساسي لعواصم كالرباط والقاهرة وعمان.
فبالرغم من تمتع دول الخليج بمقدار هائل من احتياطي النقد الأجنبي يقارب الاثنين ونصف تريليون دولار أمريكي؛ إلا أن حالة الكساد المتزايد في اقتصاد المنطقة لا تعني سوى أنه من الواجب أخذ احتياطات أكثر حذرًا فيما يخص الإنفاق الداخلي والخارجي، فعلى حد قول وزيري المالية الكويتي والعماني فإن صور الدعم الحالية “مسرفة” وأن تقليص المصروفات “لا بد منه” في القريب، وقد حذر صندوق النقد الدولي بالفعل من أن حتى الدول ذات الاحتياطي النقدي الضخم كالسعودية ستقع فريسة لعجز في موازناتها في أقل من عامين، وأن تقلص أسعار النفط قادر على إنقاص الفائض النقدي السنوي لدول الخليج ككل حوالي 175 مليون دولار.
وعلى الصعيد الإقليمي فإن تكرار أو التوسع في المساعدات البالغة 20 مليار دولار التي قدمتها السعودية والإمارات بالتشارك لنظام الانقلاب المصري لن يكون خيارًا سهلاً، فعلى الرغم من أن هذه المساعدات قد سمحت للتصنيف الائتماني لمصر بالانتقال من خانة السلبي إلى خانة المستقر وفقًا لتقرير مؤسسة موودي الأخير نتيجة لتقليص دعم الطاقة وسياسات أكثر حدة فيما يخص فرض وجمع الضرائب، إلا أن النتائج الاجتماعية لهذه السياسات لا تبشر باستقرار بعيد المدى بأي شكل من الأشكال.
هنا يتضح أن الدول الخليجية الكبرى موضوعة بين شقي رحى؛ فمن الواضح أنهم يعلمون تمامًا أن مصر ذات وضع أكثر أهمية بكثير من أن تُترك فريسة للتدهور الاقتصادي، ومن الواضح أيضًا أن فكرة وصول نظام ذي توجه إسلامي للحكم نتيجة للغضب الشعبي لم تكن مقبولة أصلاً؛ وبالتالي فإن خيار إيقاف الدعم الخليجي لمصر قبل أن تصل إلى مرحلة من الثبات غير وارد، وتقليص النفقات قد أصبح ضرورة لا مفر منها، والضرورات بشكل عام وفيما يتعلق بالسياسة والاقتصاد الدوليين تأخذ شكل أفعال قهرية وقرارات خطيرة غير متوقعة؛ ولذلك يصبح فرضًا على الإدارة المصرية أن تقلق وأن تعيد التفكير فيما تفترضه من دعم غير محدود من الشركاء الخليجيين، وأن تبحث عن بدائل اقتصادية واجتماعية داخلية تمثل شبكة أمان لها، وبالتالي يصبح الوصول لحالة من التوافق والهدوء السياسي داخل مصر فرضًا لا اختيارًا، وتصبح سياسة حرق الأرض وتجاهل الخصوم وكأنهم غير موجودين من الأساس انتحارًا محققًا.