تخيم حالة من الغموض والترقب على الشارع التونسي في أعقاب القرارات المفاجئة التي أعلنها الرئيس قيس سعيد، مساء أمس الأحد 25 من يوليو/تموز الحاليّ، التي وصفها سياسيون وقانونيون بأنها انقلاب مكتمل الأركان على الدستور والنظام السياسي في البلاد.
وكان قيس الذي ظهر محاطًا بعدد من القيادات العسكرية والأمنية، وعبر كلمة نقلها التليفزيون الرسمي، قد أعلن تجميد عمل البرلمان وتعليق حصانة كل النواب وإقالة رئيس الوزراء هشام المشيشي، بذريعة الاحتجاجات العنيفة التي شهدتها عدة مدن الساعات الماضية.
وإن كان الحدث تونسيًا من الدرجة الاولى إلا أن صداه جاب أركان الوطن العربي بأكمله، فتباينت الرؤى والمواقف بشأن هذا التحرك الذي يتنافى مع أبجديات الدستور ويضرب بمكتسبات ثورة 2011 عرض الحائط، فيما تخوف البعض من تكرار السيناريو المصري 2013 حين أطاح وزير الدفاع – آنذاك – عبد الفتاح السيسي (رئيس الجمهورية الحاليّ) بالرئيس المنتخب محمد مرسي، بدعوى الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في أعقاب تظاهرات 30 من يونيو/حزيران.
ظلت تونس منذ انطلاق قطار الربيع العربي هي الإجابة عن كل التساؤلات ومحطة التحرك الأولى، وبقيت بصيص الأمل المضيء داخل نفق اليأس الحالك، ولذا لم تسلم من المؤامرات والمخططات التي لم تتوقف لتركيعها وإدخالها حظيرة الخنوع عبر العودة للوراء ووأد تجربتها الثورية التي باتت ملهمة لكل الشعوب العربية الساعية للتخلص من أنظمة الحكم الديكتاتورية الجاثمة على صدورها.. فهل تستفيد تونس من التجربة المصرية لتجنب الوقوع في نفس الفخ مرة أخرى؟
ما أشبه الليلة بالبارحة
في ليلة صيفية كتلك الليلة قبل 8 سنوات، وتحديدًا مساء الـ3 من يوليو/تموز 2013، اجتمع وزير الدفاع المصري مع عدد من القيادات الأمنية والدينية والسياسية، وبعض الرموز المنسوبة للتيار المدني، معلنًا ذات القرارات التي أعلنها الرئيس التونسي، بجانب تعطيل العمل بالدستور.
كانت الحجة حينها إنقاذ البلاد من حالة الفوضى التي أوشكت أن تقبل عليها في ظل التظاهرات المنددة بحكم مرسي والإخوان في ميدان التحرير، في مقابل أخرى داعمة للشرعية والرئيس المنتخب والدولة المدنية ومكتسبات ثورة يناير/كانون الثاني في رابعة العدوية.
الخطاب العاطفي الذي استخدمه السيسي وقتها نجح في دغدغة مشاعر الكثير من التيارات السياسية، الأمر هنا لا يتعلق فقط بالليبراليين واليساريين والأقباط، كونهم الأكثر كرهًا لتجربة الإخوان، لكنه تجاوز ذلك إلى استمالة بعض التيارات الإسلامية كذلك وفي المقدمة منهم السلفيون وممثلهم السياسي حزب النور الذي كان يحلم بخلافة الجماعة في الحكم.
كان الشعار الأبرز الذي خرج المصريون من أجله في ذلك اليوم، هو التخلص من الإخوان وإجراء انتخابات مبكرة تأتي بنظام مدني، تناغم هذا الشعار مع التصريحات الصادرة عن السيسي بأنه لا يطمح في الحكم وأن المؤسسة العسكرية ليس لها أي أطماع سياسية وأنها ستقف على الحياد وتكتفي بدورها في حماية حدود البلاد.
وما إن استتب الأمر وحصل وزير الدفاع وقتها على الحاضنة الشعبية والسياسية له بالقوة، ونجح في تمرير مخططه، حتى استولت المؤسسة العسكرية مرة أخرى على الحكم وكل مفاصل السلطة، مختتمة إياها بترشح السيسي للرئاسة، ليكتب بيده وبمساعدة بعض المشاركين في يناير، شهادة وفاة الثورة مؤقتًا ويطيح بمكتسباتها في مياه البحر المالحة.
الدعم الخارجي.. كلمة السر
ما كان للسيسي – كما أنه لم يكن لسعيد – أن يقوم بما فعل دون دعم إقليمي، وضوء أخضر حصل عليه لتجنيب أي ردة فعل أو تداعيات محتملة، لا سيما ما يتعلق بالهزة الاقتصادية والأمنية المتوقعة، فكان عراب الثورة المضادة في المنطقة، الإمارات، هي الحاضر الأقوى في المشهد.
فرض أبناء زايد طوقًا اقتصاديًا وشعبيًا على الثورة من خلال بعض الكيانات والتيارات التي تم استحداثها لإحداث حالة من الارتباك وفقدان الثقة والتشكيك في مكتسبات الثورة ورجالها، ومحاولة تشويه كل جهد للحفاظ عليها، وفتحت لذلك خزائنها بلا أي سقوف محددة، فكانت الأموال تهطل على جبهة الإنقاذ وحركة تمرد والإعلام المضاد هطولًا لم تشهده في تاريخها.
وعلى صعيد آخر وظفت أبو ظبي نفوذها السياسي والاقتصادي والإعلامي لدعم نظام ما بعد الـ3 من يوليو/تموز، كان القضاء على الثورة ووأدها من جذورها الهدف الأسمى بعيدًا عن الشخوص التي تدير المشهد بعد ذلك، واستطاعت تحقيق هذا الهدف بصورة كبيرة.
المشهد التونسي لم يختلف كثيرًا عن نظيره المصري، فالتوغل الخارجي لا سيما الإماراتي الفرنسي في مفاصل الدولة لم يتوقف منذ 2011 وحتى اليوم، ورغم الهزائم التي تلقاها أبناء زايد على أيدي رموز الثورة التونسية في العديد من المعارك السابقة، فإن ذلك لم يقلل من إصرار الدولة الخليجية على القضاء على المحطة الأولى للربيع العربي بأي ثمن.
يبدو أن محور الشر والثورات المضادة يوم فشل في تدبير إنقلاب عن طريق الجيش يحاول ممارسته عن طريق الرئاسة. #تونس تعيش لحظة مفصلية، فإما إفشال الانقلاب، أو اتخاذ المسار المصري بكل جرائمه وكوارثه#قيس_سعيد
— د. عبدالله العودة (@aalodah) July 25, 2021
في 2017 تم كشف “خطة إماراتية” لحشر الإسلام السياسي في الزاوية وبسط نفوذ أبناء زايد في تونس، وهو ما أظهرته وثيقة مسربة على الإنترنت بعنوان “الإستراتيجية الإماراتية المقترحة تجاه تونس” منسوبة إلى مركز الإمارات للسياسات.
الوثيقة التي احتوت على 7 صفحات تضمنت شرحًا وافيًا للمشهد السياسي التونسي بتفاصيله كافة، وخطة تشير إلى وجود رغبة شديدة في التدخل بشؤون البلاد سعيًا إلى إضعاف نفوذ حركة النهضة وتهميش دور بعض القوى الداعمة للثورة ومنها قطر، مقابل خلق أطراف موالية للإمارات.
وكما زرعت الإمارات حركات التمرد وجبهات الثورات المضادة والقنوات الإعلامية التي حملت على عاتقها تشويه الإسلاميين وثورة يناير في مصر، فعلت المخطط ذاته في تونس، فجندت العديد من الشخصيات لتنفيذ أجندتها هنالك على رأسهم الرجل الثاني في حزب نداء تونس محسن مرزوق، رجل الأعمال سليم شيبوب صهر الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي (يقيم في الإمارات حاليًّا)، هذا بجانب بعض النواب وأبرزهم عبير موسى.
هل يقع التونسيون في الفخ المصري؟
أثار انقلاب سعيد مخاوف البعض من احتمالية تكرار السيناريو المصري في ظل تشابه الأجواء، الأمر الذي قد يضع الشارع التونسي في موقف لا يحسد عليه، فالفشل الواضح في إدارة الدولة خلال السنوات الماضية الذي كان نتاجه العديد من الاحتجاجات الشعبية المنددة هل يقود إلى الإطاحة بالتجربة الديمقراطية برمتها؟
يدفع المصريون اليوم ثمن ما حدث في الـ3 من يوليو/تموز 2013، إذ أجهضت التجربة المدنية التي لم تستمر سوى عام واحد فقط، وأعاد العسكر فرض السيطرة الكاملة على المشهد وإن كان بصورة أعمق وأكثر قوة، وتم الزج بأبناء الثورة والمعارضين لحكم الجنرالات في السجون، فيما ظلت النسبة الكبرى مشتتة بين دولة وأخرى هربًا من بطش العسكر.
لم يتوقع المشاركون في تظاهرات 30 من يونيو/حزيران 2013 أن الأمور ستصل إلى ما وصلت إليه، إذ كان حلم السلطة واعتلاء الحكم هو الدافع الأبرز لمشاركة الكثير من الرموز السياسية والدينية، التي شاركت في ثورة يناير وأطاحت بنظام حسني مبارك، لكنهم فوجئوا بعد ذلك بتسليم الدولة من بابها إلى المؤسسة العسكرية.
حين خرج المصريون تنديدًا بحكم الإخوان بعد فشلهم في التعامل مع العديد من الملفات الحياتية، – بصرف النظر عن أسباب هذا الفشل والقوى التي شاركت فيه، سواء من الداخل أم الخارج -، كان هدفهم الإطاحة بحكم الإسلاميين في المقام الأول، بدعوى إقامة حكم مدني، لكن اكتشفوا بعد ذلك أنهم كانوا جسرًا كبيرًا لعودة الجنرالات للحكم مرة أخرى والقضاء على آخر قوة سياسية من الممكن أن تواجه هذا المخطط.
كراهية الإخوان – أيًا كانت الأسباب – والرغبة في الانتقام من التجربة الإسلامية في الحكم، كانت الوقود الذي استخدمته الثورة المضادة لتحقيق هدفها الرئيسي في قتل التجربة برمتها، وقد كان ما خُطط له، ليستيقظ المصريون بعد ذلك على كابوس بات من الصعب الاستفاقة منه في الوقت الحاليّ.
المادة 80 من دستور #تونس تعطي الرئيس حق تجميع السلطات بيده بحال وجود خطر ضخم يهدد كيان الوطن وأمن واستقلال البلاد.. أحداث الشغب التي وقعت لا تصل بحال لخطر يهدد استقلال البلاد وعليه فاستيلاء #قيس_سعيد على السلطة وتجميد البرلمان إنقلاب من الدولة العميقة وسيكون هو نفسه أول ضحاياه pic.twitter.com/uH9cggobQJ
— Mahmoud Refaat (@DrMahmoudRefaat) July 25, 2021
الفشل في الحكم لا يعني مطلقًا الانقلاب على الدستور وتمكين الثورة المضادة من المشهد والقضاء على مكتسبات الربيع العربي، ولعل في المشهد التركي النموذج الأبرز للخطوط الحمراء التي تضعها الشعوب ومؤسسات الدولة للحفاظ على مدنيتها وتجربتها الديمقراطية.
فحين أرادت بعض الوحدات والكيانات العسكرية والسياسية الانقلاب على التجربة الديمقراطية من خلال التخطيط لسيطرة العسكر على الحكم، هب الشعب التركي عن بكرة أبيه، معارضة وحكومة، أحزاب ونقابات، للزود عن ديمقراطيته المدنية، رغم الخلافات الحادة حينها بين التيارات السياسية التي توحدت من أجل غاية أسمى وهدف أعلى.
التونسيون اليوم في مفترق طرق، أيًا كان الخلاف بشأن سياسة الحكم في البلاد وقدرة حزب النهضة على إدارة المشهد، فالوسائل الدستورية للتصدي لهذا الفشل متعددة ومتاحة، حتى إن كانت بحاجة إلى وقت، لكن وأد التجربة برمتها سيعيد تونس للوراء، حيث عهد زين العابدين بن علي، وربما أسوأ من ذلك.
الزود عن دستور البلاد والتصدي لمخطط الانقلاب ليس معناه دعم للنهضة او الاصطفاف معها في خندق المواجهة، لكنه انتصار لمدنية الدولة وديمقراطيتها التي أصبحت أيقونة للكثير من شعوب المنطقة، فهل يستفيد الشعب التونسي من دروس الشقيقة المصرية أم يقع في نفس الفخ مرة أخرى؟ الساعات القادمة قد تتكفل بالإجابة.