مع كل هبّة داخلية ينتفضها الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة، احتجاجًا على سياسات السلطة الفلسطينية ضد حرية الرأي والتعبير، وملاحقة المقاومين، وضد الاعتقال السياسي؛ تواجه السلطة الفلسطينية غضب الشارع بالقمع والاعتداء والاعتقالات السياسية.
وقابل كل هتاف برحيل النظام القائم واللجوء إلى الانتخابات، موجة اعتداءات تشنّها العناصر الأمنية على المتظاهرين، كان آخرها المظاهرات المستمرة أسبوعيًّا في رام الله احتجاجًا على اغتيال الناشط الفلسطيني المعارض نزار بنات، الذي اشتهر بمقاطع مصوّرة ينتقد فيها سياسات السلطة، وأشهرها قبيل اغتياله حين انتقد السلطة في قضية اللقاحات الفاسدة التي اشترتها من “إسرائيل”.
عناصر السلطة الفلسطينية بلباس مدني يقمعون المحتجين في رام الله على اغتيال الناشط نزار بنات.
لم يكن اعتداء السلطة تجاه الأصوات المنتقدة سواء باعتقال أو اغتيال الناشطين المعارضين، أو قمع المتظاهرين المحتجّين، بسياسة جديدة في أبجديات تعاملها مع ريح التغيير، بل قائمًا منذ قدوم السلطة عام 1994، وتفاقمَ مع الانقسام الفلسطيني عام 2007، وأصبح آخذًا بالازدياد في أعقاب زيادة الوعي الفلسطيني الشاهد على وقائع تعاون السلطة مع الاحتلال، وسياساتها الديكتاتورية ضد الفلسطينيين، وتفشّي الفساد في أروقة مؤسساتها العامة والقضائية.
القمع وسيلة الدفاع عن اللاشرعية
تجاوز الشباب الفلسطيني من مواليد عام 1990 الثلاثين من أعمارهم، إلا أنهم لم يحظوا -ولو مرة واحدة- بفرصة المشاركة في الحياة السياسية والعملية الانتخابية، فلم يشهد الفلسطينيون أية انتخابات تشريعية أو رئاسية منذ عام 2006، حين فازت حماس بالانتخابات التشريعية، والانقسام السياسي الداخلي الحاصل في أعقابها بعد رفض حركة فتح لنتائج الانتخابات.
الانتخابات التشريعية الأخيرة التي شهدها الفلسطينيون عام 2006.
في حديثه لـ”نون بوست”، يعزي الكاتب والمحلل السياسي ساري عرابي لجوءَ السلطة لإجراءاتها القمعية في مواجهة أي حركة احتجاجية، إلى سعيها في حماية نفسها وحماية النخبة الحاكمة الحالية، “بمعنى أنها تسعى إلى استيعاب الحركة الاحتجاجية وقمعها في وقت مبكّر، قبل أن تتحول إلى كتلة حرجة، بحيث ينضم إليها المزيد من الجماهير، ويصبح من الصعب على السلطة مستقبلًا استيعاب أو حصار أو إنهاء أو تفكيك الحركة الاحتجاجية”.
في الأثناء، كشفت الحرب الأخيرة في قطاع غزة المحاصر “سيف القدس”، عن حجم الفجوة الكبير بين دوافع القوتَين في الضفة الغربية المحتلة الرامية إلى حماية “إسرائيل”، وقطاع غزة المحاصر الضاغط على الزناد ضد الاحتلال، وما أعقبها من ملاحقة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية للمتظاهرين المؤيدين للمقاومين في غزة واعتقالهم.
وبحسب عرابي، إن وظيفة السلطة الفلسطينية تتطلب نوعًا من القمع، كون وظيفتها أمنية في المقام الأول، ولذلك تلجأ إلى رقابة وحصار أي حركة احتجاجية قد تؤدي إلى الإخلال بوظيفة السلطة.
وعلى الرغم من خصوصية فلسطين كدولة محتلة، إلا أنها لم تكن بمعزل عن طبيعة المنظومة السياسية العربية، التي تتّسم بالديكتاتورية وغياب تداول السلطات، “السلطة هي نظام رسمي عربي، وبالتالي هي عندما جاءت إلى الأرض المحتلة، جاءت بسياسات الأنظمة السياسية العربية، أنظمة غير ديمقراطية، وتعتمد على تكميم الأفواه ومحاصرتها وما شابه”، يقول عرابي.
السلطة تبدو مرتاحة: ما رهانها؟
رغم وجود رفض شعبي كبير يطوف في أروقة الساحة الداخلية الفلسطينية، حول السلطة وإجراءاتها القمعية وفسادها المستشري في جذورها، إلا إنها لم تحرّك ساكنًا في سياساتها، ولم تنظر إلى هذا الرفض بعين الجدّية، ويستمر أصحاب المناصب في استغلالهم للمناصب، وتستمر السلطة في تأجيل الانتخابات تحت حُجَج يمكن العمل على حلها وطنيًّا، فعلى ماذا تستند السلطة في الاستمرار بشكلها الحالي؟
صورة من المظاهرات الأخيرة في مدينة رام الله – يوليو/ تموز 2021.
بينما جاءت السلطة عام 1994 بحياكة الأيادي الغربية لألف باء وظيفتها، المتمركزة في حماية الاحتلال الإسرائيلي، يرى المحلِّل السياسي ساري عرابي أن السلطة تراهنُ على أهميتها للقوى الخارجية، إذ إن الجميع -ومنهم الاحتلال- مهتمّ بالاستقرار هذه الفترة في فلسطين المحتلة وعدم الدخول في فوضى، وبذلك تراهن على احتياج العالم لها وعلى استمرار وظيفتها التي قامت لأجلها، وكذلك قدرتها الأمنية في تفكيك الاحتجاجات بوقت مبكّر.
وخلال الأعوام الماضية، ومنذ توقيع اتفاقية أوسلو، عملت السلطة إلى جانب الاحتلال في كيّ الوعي الفلسطيني، والسعي إلى حرف بوصلته من النضال ضد الاحتلال إلى كسب لقمة عيشه، وبذلك، بحسب عرابي، فإن وجود السلطة يوفِّر حركة اقتصادية في بلد تعتمد على رواتب السلطة، وتحالفها مع رأس المال، وتراهن على الهدوء والأمن بحيث يكون هناك إمكانية إلى إدخال العمالة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948.
من جانبها ترى عضو الملتقى الوطني الديمقراطي، نور عودة، أن بعض الأوساط الداخلية في السلطة تراهن على غياب قدرة تغيير المعادلة على الأرض، “وأن الأحداث الأخيرة هي زوبعة في فنجان وستمرُّ حتى لو كانت زوبعة بسيطة، وبالتالي سيستمر تكميم الأفواه، ويصبح هناك محاولات لتطييب الخواطر”.
الفراغ السياسي: السلطة مستمرة!
منذ أحداث الانقسام الفلسطيني عام 2007، التي أعقبت فوز حماس بالانتخابات التشريعية، ورفض حركة فتح لنتائج هذه الانتخابات، تفرّد كلا الطرفَين بالضفة الغربية لحركة فتح وقطاع غزة لحركة حماس.
ورغم محاولات عديدة لإنهاء هذا الانقسام واستعادة وحدة الصف الفلسطيني، إلا إن المراقب للوضع في السياسة الفلسطينية يبصر انعدام الأمل بشأن إعادة الوحدة، في ظل تنافر كُلّي بين أهداف كلا الحزبَين ورؤيتهما، وأن الحزبَين يسعيان، على الأقل إن لم تنجح جهود التقارُب، إلى إبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه.
في حديثها مع “نون بوست”، تقرأ عودة الوضع السياسي الحالي بعدم وجود رفض فصائلي للنظام القائم، “ولو كان هناك رفض حقيقي لاختلفت الصورة والديناميكية، حقيقيةً ساحتنا تعاني من الترهُّل على كل المستويات، هناك فصائل أصبحت شبحًا بوجود وهمي وصوري واسمي، وهم موجودون كضرورات السلطة لخلق صورة التعددية”.
وتستطرد عودة: “الأزمة ليست فقط في السلطة، بل في المنظومة السياسية الفاقدة توازنها والتي لا يوجد فيها أي لاعبين سياسيين مختلفين، فيها أسماء لفصائل دون وجود فعل سياسي حقيقي، وأصبحت مجرد ديكور للمنظومة بشكل عام، وهذا بالمناسبة ينطبق على السلطة كما ينطبق على قطاع غزة”.
وفي ظل غياب تداول السلطات، وتنامي الشعور الوهمي بامتلاك الحقيقة ومعرفة المصلحة العامة دونًا عن باقي أطراف المجتمع، ومحاولة المحافظة على السلطة واحتكارها، يصبح القمع وتكميم الأفواه أمرًا سهلًا تمارسه السلطات، وقد أُرجيت الانتخابات إلى أجلٍ غير مسمّى، وأصبح الشعب مصدر السلطات محرومًا من ممارسة سلطاته وحقوقه.