على مرأى عدسة الكاميرا عام 1993، تصافح رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، إسحق رابين، معلنَين بداية حقبة جديدة من العلاقات الفلسطينية-الإسرائيلية الرسمية، وفق ما يُعرف رسميًّا باسم اتفاق “إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي”.
ويأتي توقيع اتفاقية أوسلو لـ”ضمان السلام الفلسطيني الإسرائيلي” من خلال إقامة سلطة حكم ذاتي فلسطينية في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر، لفترة انتقالية لا تتعدّى الـ 5 سنوات، تنتهي بتسوية دائمة بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين” على مبدأ حلّ الدولتين: دولة فلسطين على حدود عام 1967، أي الضفة الغربية وقطاع غزة، ودولة “إسرائيل” على حدود عام 1948.
في بنود الاتفاق، أدانت المنظمة “استخدام “الإرهاب” وأعمال العنف الأخرى، وستقوم بتعديل بنود الميثاق الوطني للتماشي مع هذا التغيير، كما سوف تأخذ على عاتقها إلزام كل عناصر أفراد منظمة التحرير بها ومنع انتهاك هذه الحالة وضبط المنتهكين”، ما يعدّ بمنزلة القضاء الفعلي على الانتفاضة الفلسطينية الأولى أو انتفاضة الحجارة المندلعة منذ عام 1987، وإنكار المقاومة الفلسطينية التي أذاقت الاحتلال أشد الهزائم والضربات.
واستكمالًا لاتفاقية أوسلو، وقّعت السلطة الفلسطينية و”إسرائيل” اتفاق طابا أو ما يُعرَف باسم “اتفاقية أوسلو 2” عام 1995، وفيها بدأت تتبلور فكرة التنسيق الأمني بين الطرفَين، والتي نصّت من ضمن بنودها على أنه “باستثناء سلاح وعتاد وأجهزة الشرطة الفلسطينية في الملحق الأول وتلك الخاصة بالقوات العسكرية الإسرائيلية، لا يمكن لأي منظمة أو مجموعة أو أفراد في الضفة الغربية وقطاع غزة أن يصنع أو يبيع أو يحوز أو يملك أو يورد أو يحضر سلاح أو عتاد ومتفجرات أو ملح البارود أو أي أجهزة مرتبطة بذلك”.
ولم يلقَ اتفاقا أوسلو الأول والثاني ترحيبًا بين الأوساط الشعبية، حيث أنكر معظم الفلسطينيين، أفرادًا وفصائل، خطوة منظمة التحرير الفلسطينية ممثِّلة الشعب الفلسطيني، لما يعنيه الاتفاق من اعتراف بـ”إسرائيل”، أي هضم الحق الفلسطيني في الأرض المحتلة، وما يترتّب عليه من تعاون أمني بين الاحتلال والسلطة، أي أن بندقية المقاومة سيلاحقها ابن الدار قبل مُحتلّه.
دم المقاومين: قربان التوقيع
بطبيعة الحال، لم يكن الشعب الفلسطيني ليقبل بالاحتلال، ولو قبل بذلك المستوى السياسي الرسمي، إلّا إن المقاومة الشعبية الفردية استمرت، والتي تبنّتها الأجنحة العسكرية للفصائل، وبدأت مدن الداخل المحتل ونقاط التماسّ حيث توجد الحواجز ونقاط التفتيش الإسرائيلية، والمستوطنات التي بنتها “إسرائيل” على امتداد الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ بتذوُّق طعم الرفض الفلسطيني لاتفاقية أوسلو.
وبات العالم يستيقظ على عمليات إطلاق نار، وعمليات استشهادية في ملاهٍ ونوادٍ إسرائيلية، كما رصدت الكاميرات ذاتها التي وثّقت حميمية اللقاء بين عرفات ورابين “طيرانَ سقف الباص”، في إشارة إلى العمليات الاستشهادية التي نفّذتها كتائب القسّام، كما وصفها أحد مؤسِّسي حركة حماس الشهيد عبد العزيز الرنتيسي.
وفي ظلِّ تصاعد العمليات الفدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي، بدأت منظمة التحرير الفلسطينية، وتعبيرًا عن حسن نيّتها بالالتزام بنصوص اتفاق أوسلو، في توظيف كامل مخابراتها وعملائها الميدانيين للإيقاع بالمقاومين الفلسطينيين، ورصد تحرُّكاتهم، وجمع المعلومات، وتقديمها على طبق من ذهب للمخابرات الإسرائيلية، حتى تحيك الأخيرة كمائنها لاعتقال أو اغتيال الفدائي الفلسطيني.
وفي منتصف التسعينيات، برزت العديد من الأسماء لمقاومين ساهمت السلطة الفلسطينية، ممثَّلةً بمنظمة التحرير، في تسليمهم للاحتلال الإسرائيلي، مثل الشهيد محيي الدين الشريف، أحد القادة القسّاميين، الذي نجا من محاولة اغتيال إسرائيلية، حتى اغتالته يد الأمن الوقائي الفلسطيني بعد تعذيب في سجونها أسفر عن بتر ساقه، في محاولة لسحب اعترافات عن المقاومين الآخرين، قبل أن تضعه الأجهزة الأمنية في سيارة مفخخة وتفجِّرها في مدينة رام الله المحتلة عام 1998.
وأُضيفت صفحة أخرى من صفحات تسليم الدم الفلسطيني إلى الاحتلال بأيادي التنسيق الأمني، إذ يذكر الفلسطينيون جيّدًا القائدَين في كتائب القسام الشقيقَين الشهيدَين عماد وعادل عوض الله، اللذين نشطا بشكل خاص في سلسلة عمليات “الثأر المقدس” ردًّا على اغتيال المهندس يحيى عياش عام 1996، وأصبحا بذلك مطلوبَين لدى كل من الاحتلال الإسرائيلي والأمن الفلسطيني، وعملت المخابرات الفلسطينية على مداهمة منزلهما عدة مرات، ومراقبته، والتحقيق مع كل من يزوره.
وحتى عامَين كاملَين استطاع الشقيقان متابعة نضالهما بعيدًا عن أعين الأمن الوقائي الفلسطيني والشاباك الإسرائيلي، قبل أن يعتقلَ الأمن الوقائي عماد، الذي يقول في رسالة كتبها عقب نجاحه من “الفرار” من سجون السلطة: “أمضيت 4 أشهر في عدد من السجون، لاقيت فيها من التعذيب ما لا يتحمله بشر، من شبْح متواصل وضرب على الرأس وتجريد من الملابس ونتف للحية ولشعر الرأس، حتى كدت أن أفقد حياتي في إحدى المرات”، وفي شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 1998 استطاع الاحتلال الإسرائيلي اغتيال عماد وعادل عوض الله في مدينة الخليل المحتلة.
ومع اندلاع الانتفاضة الثانية أو انتفاضة الأقصى عام 2000، تراجعت حدّة التنسيق الأمني بشكل كبير، خاصة بعدما أظهرت ممارسات الاحتلال نقضه لكامل البنود التي أبرمها مع السلطة الفلسطينية في اتفاقية أوسلو، وازدياد حدّة المستوطنات، وقصف المقرّات الأمنية إبّان الانتفاضة.
ولعلّ ظهور كتائب شهداء الاقصى كذراع عسكرية لحركة فتح، مع تصاعُد أصوات الثورة في قيادات الحركة، قد أسهم بشكل فريد في تراجع التعاون الاستخباراتي وملاحقة المقاومين بين السلطة الفلسطينية والاحتلال، خاصة إن كتائب شهداء الأقصى قد أحدثت الضربات الموجعة في عمق الكيان الإسرائيلي.
التنسيق: إحباط العمل المقاوم
بعد وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عام 2004، وتولي محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية وقيادة حركة فتح، عاد استئناف الاتصالات بين السلطة والاحتلال، وأبرمت السلطة اتفاقًا عام 2005 بينها وبين إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، وحكومة رئيس وزراء الاحتلال حينها أرئيل شارون، لتشكيل فريق التنسيق الأمني الأميركي بقيادة الجنرال كيث دايتون، للعمل على تجهيز القوات الأمنية الفلسطينية والإشراف على التنسيق الأمني بين الطرفَين.
ولم يقتصر التنسيق الأمني على ما بعد وقوع العمليات الفدائية فحسب، وملاحقة المقاومين، بل عملت السلطة منذ قدومها على إحباط أي عمل مقاوِم، وتتبُّع الشباب الفلسطيني ومراقبته، واعتقال كل من تستلهبه الروح الثورية لتلبية النضال ضد الاحتلال.
ولعلّ هذا ينسجم مع ما قامت به حركة فتح خلال أحداث الانقسام الفلسطيني عام 2007، وبعدها حين قامت بإغلاق المساجد في الضفة الغربية المحتلة، أحد أهم المعاقل الأساسية لتخريج المقاومين الفدائيين.
وبينما كان الشارع الفلسطيني ملتهبًا عام 2015 و2016 فيما عُرف بهبّة القدس، تابعت السلطة الفلسطينية مهمتها في تفريغ الضفة من العمليات الفدائية ضد الاحتلال، وفي مقابلة إعلامية حينها، قال رئيس المخابرات العامة للسلطة الفلسطينية ماجد فرج، إن الأجهزة الأمنية الفلسطينية قد أحبطت أكثر من 200 خطة لعمليات فدائية، إضافة إلى مصادرتها العديد من الأسلحة واعتقال نحو 100 فلسطيني في محاولة لمنع وقوع العمليات.
وفي الـ 5 سنوات الأخيرة، ساهمت السلطة في اغتيال المثقف المشتبك باسل الأعرج بعد أن لاحقته هو ورفاقه واعتقلتهم لعدة شهور، قبل أن تفسح المجال لقوات الاحتلال لاغتياله عام 2017، ومؤخّرًا في شهر مايو/ أيار المنصرم، شاركت الأجهزة الأمنية في البحث عن منتصر شلبي، منفِّذ عملية إطلاق نار على حاجز زعترة قرب مدينة نابلس المحتلة، ما أسفر عن مقتل مستوطن وإصابة آخرين، إذ داهمت منزله بحثًا عنه، وعملت على البحث عن السيارة التي استخدمها في عمليته قبل أن تجدها، ما أدى إلى محاصرة قوات الاحتلال لشلبي واعتقاله.
في الأثناء، بينما يمرّ 17 عامًا على تولّي عباس رئاسة السلطة الفلسطينية، شهدَ التنسيق الأمني مراحل من الجذب والشد، خاصة بعد عام 2015، حينما بدأت السلطة الفلسطينية ربط التعاون الأمني بأموال المقاصة -الضرائب الفلسطينية- التي تجبيها “إسرائيل” من سكّان الضفة الغربية المحتلة، قبل أن تعيدها إليها في إطار مراقبة أموال السلطة.
وقد أعلنت السلطة أكثر من مرة عن وقف التنسيق الأمني كردٍّ على رفض “إسرائيل” تقديم أموال المقاصة لها، إلا إن هذه التصريحات بوقف التنسيق لم تأخذ مسارها الجدّي، في ظل تخوُّف السلطة الفلسطينية من نشاط العمل المقاوِم في الضفة الغربية المحتلة، واستنساخ تجربة المقاومة في قطاع غزة، ما سيشكّل خطرًا حقيقيًّا على وجودها الفعلي.