تفرض أصداء الانقلاب الذي قام به الرئيس التونسي قيس سعيد على دستور البلاد ومؤسسات الدولة، مساء الأحد الـ25 من يوليو/تموز الحاليّ، نفسها على الخريطة الاقتصادية التي تعاني من ترهل غير مسبوق في تاريخها، وسط مخاوف من اشتعال الموقف وتهاوي الوضع بصورة تضع مستقبل الملايين من الشعب التونسي على المحك.
الانهيار الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد خلال الآونة الأخيرة الذي كان مبرر الرئيس التونسي للقيام بما قام به، حسب تصريحاته، من المستبعد أن يتعافى في أعقاب الانقلاب، إذ إن حالة الفوضى التي تسبب فيها سعيد ربما تذهب بالواقع المعيشي للشعب التونسي إلى غياهب الغموض بعد تجميد البرلمان وإقالة الحكومة ما تسبب في حالة من الشلل التام في معظم أركان الدولة.
الارتدادات السريعة للأزمة السياسية التي أحدثها الرئيس الساعات الماضية جاءت سريعة من النفق الاقتصادي، وهو ما تعكسه مؤشرات البورصة وحركة الأسواق والسندات، هذا بخلاف أعباء الدين المتوقع أن تتفاقم خلال الأيام القادمة، فضلًا عن فقدان الثقة في السوق التونسية بعد تلك الهزة، ما قد ينجم عنه عزوف الاستثمارات الخارجية.. فهل ينقذ انقلاب سعيد الموقف أم يزيده تعقيدًا؟
البورصة وسوق المال.. التأثر السريع
ردة الفعل الأولى لقرارات الرئيس التونسي جاءت من البورصة وسوق المال، لكنها ردة الفعل السلبية، فقد هوت البورصة الرئيسية في تعاملات أمس الإثنين وفقدات أكثر من 1.09% من قيمتها، قبل الغلق النهائي، فيما سجلت السوق المالية هبوط أسهم 31 مؤسسة مدرجة، مقابل ارتفاع قيمة أسهم 6 مؤسسات فقط، إلى جانب استقرار أسهم 11 شركة مدرجة.
كما انخفض معدل إصدار السندات، التي ينتهي أجلها عامي 2027 و2024، إلى أدنى مستوى له منذ عام، متراجعًا بأكثر من 5 سنتات لكلّ منها، فيما هبطت السندات التي ينتهي أجلها في 2027 عند 86.57 سنت في الدولار، أما السندات المقومة بالدولار التي ينتهي أجلها في 2025 فتراجعت بمقدار 4.8 سنت، ليتداول عند 83.88 سنت في الدولار، وهو أدنى مستوى منذ 14 شهرًا، فيما هوت السندات المقومة باليورو لأجل 2024 بأكثر من 3 سنتات إلى 86.348 سنت في اليورو، قرب أدنى مستوى في تسعة أشهر، وفقًا لـ”تريدويب”.
ورغم أن هذا الهبوط ليس الأول من نوعه، إذ شهدت البلاد هبوطات مماثلة مع كل هزة سياسية كانت أو أمنية تتعرض لها تونس خلال السنوات الماضية، فإن الأمور هذه المرة تنذر بتصاعد المخاطر والمخاوف معًا، في ظل حالة الفوضى التي تعمقت بإجراءات الأحد الأسود.
وتعد البورصة وسوق المال المرآة العاكسة للوضع السياسي في البلاد، كونها المجال الأسرع والأكثر تأثرًا بأي هزات من أي نوع، وتحتاج إلى تطمينات سياسية لضمان الاستقرار واستمرار تدفق الأموال وإنعاش السيولة المالية في أعقاب دفع المستثمرين لضخ أموالهم دون قلق.
الديون الخارجية.. شبح النموذج اللبناني
الديون هي الأخرى ستشكل حجر عثرة يعمق الوضع الاقتصادي المترهل، فمن المقرر أن تسدد البلاد قرابة 500 مليون دولار لسداد دين خارجي في الـ5 من أغسطس/آب المقبل، أي بعد أسبوع تقريبًا من اليوم، هذا في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من أزمة احتياطي أجنبي كبيرة ربما لا تستطيع الوفاء بالقسط في موعده.
وكان آخر قسط سددته تونس الأسبوع الماضي وقدره 506 مليون دولار، وذلك بتدخل من البنك المركزي الذي اضطر للجوء إلى احتياطي البلاد من النقد الأجنبي، حيث سمح بتوفير ما قيمته 1.4 مليار دينار في شكل سندات قصيرة الأجل (13 أسبوعًا) لمواصلة تمويل الموازنة وتوفير السيولة اللازمة للبنوك.
هل يكون هذا القرض هو الحل؟ حتى لو سلمنا بصدق تصريحات المتحدث باسم الصندوق بشأن تقديم المساعدة لتونس في ظل أزمتها الراهنة، فإن المشكلة تكمن في شروط التمويل، والمتعلقة ببرنامج إصلاح اقتصادي قاسٍ على الشعب التونسي
يذكر أن البلاد بحاجة إلى سداد 4.5 مليار دولار هذا العام لخدمة الدين الذي يبلغ في مجملة أكثر من 40 مليار دولار، بنسبة تقترب من 118% من الناتج المحلي الإجمالي، هذا في الوقت الذي لم يتجاوز فيه الاحتياطي النقدي نحو 7.5 مليار دولار.
ويبلغ، نصيب كل مواطن تونسي من الديون الخارجية لبلاده قرابة (2.6 ألف دولار)، ومن المتوقع أن تبلغ نسبة المديونية وفق مشروع قانون المالية لعام 2021، نسبة 90% من الناتج المحلي الإجمالي، أي نحو 100 مليار دينار (30.3 مليار دولار) بحسب الإحصاءات الرسمية.
وكان محافظ البنك المركزي التونسي، مروان العباسي، في تصريح له أمام البرلمان في 21 من مايو/آيار الماضي قال: “الدولة مطالبة في فترة وجيزة بإيجاد الموارد المالية للإيفاء بتعهداتها الخارجية واستعادة نسق الاستهلاك والتصدير والاستثمار” مجددًا التأكيد على أن “الوضعية الاقتصادية لتونس صعبة جدًا، وأنه يجب مواجهة التحديات الكبيرة وإقرار هدنة سياسية”.
ومع الأزمة التي تسبب فيها انقلاب سعيد تتصاعد المخاوف بشأن عدم قدرة البلاد على الوفاء بالتزاماتها المتعلقة بسداد أقساط الدين الشهرية، ما قد يدخلها في حالة تعثر مالي، قد يصل إلى درجة الإفلاس، فيما توقع البعض الوصول إلى مرحلة الاقتصاد اللبناني، على الأقل خلال مرحلة الفوضى والغموض الحاليّة.
صندوق النقد الدولي.. هل يكون الحل؟
رغم تلك الأوضاع المتردية المتوقع تفاقمها مع تعقيد المشهد في أعقاب الانقلاب، ربما يذهب البعض إلى الحديث عن دعم خارجي ربما يعيد التوازن ويخفف وطأة وتداعيات الأزمة، وهو ما ألمح إليه المتحدث باسم صندوق النقد الدولي حين أشار إلى أن “الصندوق على استعداد لمواصلة مساعدة تونس في التغلب على تداعيات أزمة فيروس كورونا وتحقيق تعاف غني بالوظائف وإعادة مالية البلاد إلى مسار مستدام” بحسب وكالة رويترز.
وفي رده على أسئلة الوكالة الإخبارية قال المتحدث “نراقب عن كثب تطورات الوضع في تونس.. لا تزال تونس تواجه ضغوطًا اجتماعية واقتصادية غير عادية، منها تداعيات جائحة كوفيد-19 التي تسبب خسائر كبيرة في الأرواح، وتطلعات التونسيين إلى نمو أعلى وغني بالوظائف وشامل”.
الحديث عن قرض دولي ليس حديثًا جديدًا، فالحكومة التونسية المقالة برئاسة هشام المشيشي قطعت شوطًا كبيرًا في التفاوض مع الصندوق للحصول على قرض خلال عشر سنوات بقيمة 4 مليارات دولار (هو الرابع في غضون السنوات العشرة الأخيرة) كان من المتوقع أن تحصل عليه بنهاية الصيف الحاليّ.
وهنا السؤال: هل يكون هذا القرض هو الحل؟ حتى لو سلمنا بصدق تصريحات المتحدث باسم الصندوق بشأن تقديم المساعدة لتونس في ظل أزمتها الراهنة، فإن المشكلة تكمن في شروط التمويل، المتعلقة ببرنامج إصلاح اقتصادي قاسٍ على الشعب التونسي.
وتتمحور ملامح هذا البرنامج وفق ما نقلته وسائل الإعلام المختلفة في عدد من الشروط أهمها “تقليص دعم السلع الأساسية وتخفيض الإنفاق على الأجور في القطاع الحكومي وبيع أسهم وحصص الدولة في مؤسسات القطاع العام وإعادة هيكلة هذا الأخير”.
وبحسب الأجواء السابقة والحاليّة المتوقعة فإن الحكومة – أيًا كانت – ستجد معضلة كبيرة في تنفيذ هذا البرنامج وفرض تلك الشروط على التونسيين لا سيما أن أركان السلطة والاتحاد التونسي للشغل رفضتها سابقًا، فضلًا عن عدم تحمل الشارع لها في ظل وضعيته المعيشية المتدهورة.
وعليه فإن الرهان على القرض الدولي لحل مشاكل تونس الاقتصادية رهان خاسر، وفي حال الإصرار على الحصول عليه في ظل تلك الظروف الاستثنائية فإن الاحتقان الشعبي سيتصاعد بصورة ربما تذهب بالبلاد إلى آتون أزمة أكبر مما تعانيه البلاد في الوقت الراهن، فالشعب الذي لم يصبر على الخطوات الناعمة لعبور مأزقه الاقتصادي لم يتحمل أي إجراءات قاسية جديدة من شأنها أن تزيد وضعيته المزرية وفق البرنامج الإصلاحي المطلوب للحصول على القرض.
قيس سعيد.. جزء من المشكلة أم الحل؟
هناك شبه إجماع على أن تفاقم الأزمة الاقتصادية الراهنة كان أحد تداعيات الأزمة السياسية التي تعاني منها البلاد في السنوات العشرة الماضية، لا سيما بعدما وصل الخلاف بين مكونات الحكم خاصة الرئيس والبرلمان والحكومة إلى طريق مسدود، أوصل البلاد إلى حالة من الشلل كان لها ارتداداتها السلبية على الوضع الاقتصادي.
الرئيس التونسي برر انقلابه على مؤسسات الدولة بمحاولة إنقاذ الوضع الذي وصل إلى حالة لا يمكن السكوت عنها، منصبًا نفسه الإصلاحي المنقذ الذي يقود سفينة النجاة في هذا البحر المتلاطم الأمواج، متناسيًا أنه كان أحد أضلاع هذه الوضعية المتدنية بحكم منصبه على الأقل، كونه على رأس قمة الهرم السلطوي في البلاد.
الانقلاب الذي قاده الرئيس التونسي من شأنه أن يزيد تفاقم الوضع ويدخل البلاد نحو منزلق أشد خطورة مما هي عليه حاليًّا
ومن ثم فمن السذاجة الرهان على قيس سعيد كـ”حل للأزمة” كما يروج أنصاره، سواء داخل تونس من التيار العلماني واليساري أم من الخارج من عرابي الثورات المضادة، لأنه من الغباء السياسي أن يعفي رئيس الدولة نفسه من المسؤولية محملًا إياها لرئيس الحكومة أو البرلمان، وإن كان الوضع كذلك فهذا يسيئ إليه كونه غير قادر على إدارة المشهد والسيطرة عليه، وهو ما يعكس ضعف في الشخصية يجعل من المقامرة عليه مغامرة خاسرة.
الرئيس التونسي ومعه بقية أركان السلطة، من حكومة وحزب الأغلبية البرلمانية والنخب، مسؤولون مسؤولية مشتركة مباشرة عن الوضع المتدني الذي وصلت إليه البلاد، وإعفاء أي من تلك الأضلاع وإلقاء الكرة في ملعب آخرين، قراءة غير دقيقة للمشهد تجعل من المستقبل أكثر خطورة.
حتى إن كان قيس يراهن على دعم خارجي من بعض الدول الداعمة له، فإن ذلك سيكون له ارتداداته السلبية، كونه يرسخ فكرة المؤامرة الخارجية التي يحاول الرئيس نفيها بين الحين والآخر (رغم تعدد مؤشراتها ووضوح ملامحها والتحذيرات المتتالية منها) وهو ما سيضعه في مواجهة مباشرة مع الشارع والأحزاب والكتل الشعبية في آن واحد.
وفي الأخير فإن الانقلاب الذي قاده الرئيس التونسي من شأنه أن يزيد تفاقم الوضع ويدخل البلاد نحو منزلق أشد خطورة مما هي عليه حاليًّا، وفي ظل حالة الهشاشة التي يعاني منها الاقتصاد الوطني فإن أي هزة في الوقت الراهن سيكون لها ارتداداتها الكارثية.. فهل يقود سعيد بلاده إلى الحالة اللبنانية من حيث يريد أن ينقلها إلى الأجواء الأوروبية؟