أزالت زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لواشنطن، الستار عن ملامح الجولة الرابعة والأخيرة للحوار الاستراتيجي العراقي الأميركي، والذي كان قد بدأ العام الماضي، من أجل وضع تصور واضح لطبيعة القوات الأميركية المتواجدة في العراق.
وخلال المؤتمر الصحفي الذي جمع الرئيس الأميركي جو بايدن مع الكاظمي، أوضح بايدن أن قواته القتالية ستنسحب من العراق نهاية العام الجاري، وإن الولايات المتحدة ملتزمة بتقديم المساعدات الأمنية والاستخباراتية للعراق، ومساعدته على النهوض بواقعه الاقتصادي والصحي، إلى جانب الاستمرار بمهمة تدريب وتطوير القوات العراقية.
تُدرك إدارة بايدن أن الحصول على التزامات مهمة وواسعة من حكومة الكاظمي، قد تشكّل مدخلًا لدور أميركي أكثر فاعلية في الساحة العراقية، خصوصًا الالتزامات المتعلِّقة بسلامة قواتها غير القتالية التي ستبقى في العراق، وتأمين المصالح الأميركية من أي تهديدات مستقبلية قد تصدر عن إيران وحلفائها.
والأكثر من ذلك كله، تُدرك إدارة بايدن أهمية الضغط على العراق في إيجاد بديل لموارد الطاقة التي تحتاج إليها بدلًا من إيران، إذ إن استمرار استيراد العراق للطاقة من إيران حجّم كثيرًا فاعلية سياسة الضغط الأميركية حيال إيران، وهو ما استغلته إيران وتحاول الإبقاء عليه خلال الفترة المقبلة.
والواقع أن العراق هو الآخر يتطلّع إلى تحقيق العديد من الحاجات والمصالح الاستراتيجية في الفترة المقبلة؛ فحكومة الكاظمي بحاجة إلى الحصول على التزامات استراتيجية من الولايات المتحدة، لمواجهة تحديات حقيقية في المرحلة المقبلة، أبرزها معالجة الاقتصاد المتهالِك، وإبعاد شبح عودة تنظيم “داعش”، وكبح جماح الفصائل المسلحة، وتحييد العراق عن آثار الصراع الأميركي الإيراني.
يحتاج العراق إلى استراتيجية جديدة لبناء قواته العسكرية، بما يكفي لمواجهة التحديات الأمنية.
فهناك اليوم العديد من التحديات التي تقف في وجه عملية إنجاح مخرجات الجولة الرابعة للحوار الاستراتيجي، بعضها نابع من البيئتَين الداخليتَين العراقية والأميركية، وبعضها الآخر إقليمي.
إذ أشارت المصادر إلى أن لقاء بايدن مع الكاظمي استمرَّ لمدة ساعة بعيدًا عن وسائل الإعلام، وتطرّق لتحديات مهمة في العراق، أهمها تلك القادمة من إيران وحلفائها.
فرغم رسائل الترحيب التي صدرت من بعض قيادات الفصائل المسلحة، إلا إن ذلك لا يعني نهاية التصعيد، إذ ما زالت الجولة السابعة من مفاوضات فيينا بين إيران والقوى الدولية في طيّ المجهول، فضلًا عن إن الرئيس الإيراني المنتخَب إبراهيم رئيسي سيتسلّم مقاليد السلطة الأسبوع المقبل، وهذا ما يشير إلى أن لإيران أكثر من سبب لإفشال هذه المخرجات في حالة لم تسير مفاوضات فيينا كما تريد.
أين تكمن مشكلة العراق الاستراتيجية؟
يحتاج العراق إلى استراتيجية جديدة لبناء قواته العسكرية، بما يكفي لمواجهة التحديات الأمنية النابعة من تنظيم “داعش”، ولحصر السلاح بيد الدولة، ولتأمين حدوده مع سوريا وإيران، ومن ثم إن الحوار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة يمكن أن يشكل مدخلًا لإعادة تقييم العلاقات الأمنية بين العراق والولايات المتحدة، بحيث تؤدّي الولايات المتحدة دورًا حاسمًا في إعادة بناء قدراته العسكرية والأمنية التي استُنزفت خلال الحرب ضد “داعش”.
ووفق التقديرات الأميركية، تحتاج القوات العسكرية العراقية إلى عمليات إعادة تدريب وتأهيل لمدة تتراوح ما بين 3 إلى 5 سنوات على الأقل، لتكون قادرة على القيام بمهامها الأمنية، فضلًا عن أن العراق يحتاج إلى إعادة بناء منظومته التسليحية، وإعادة تشغيل وصيانة العديد من القواعد العسكرية.
ينبغي على حكومة الكاظمي بذل مزيد من الجهود في إطار ضبط حركة الفصائل المرتبطة بإيران، بالشكل الذي يُعيد للعراق صورة الدولة القادرة على فرض سلطانها القانوني
وبالإضافة إلى كل ما تقدم، لا يمتلك العراق أسلحة دفاع جوي أو منظومات صواريخ متطوِّرة، أو نظام إنذار ومراقبة جوّي، أو قدرات أرضية للدفاع الجوي، وهي قدرات عسكرية مهمة للتعامل مع أي تهديدات عسكرية خارجية، كما تحتاج المؤسسة العسكرية العراقية إلى تحقيق المزيد من التكامل الوظيفي على مستوى العمل العسكري، فعلى الأرض توجد اليوم 3 قوات عسكرية رئيسية، هي الجيش العراقي والحشد الشعبي والبيشمركة الكردية، وحتى اللحظة لم تُظهِر هذه القوات التكامل الوظيفي في العمل الأمني الرسمي.
ورغم أن الجولة الرابعة للحوار الاستراتيجي وضعَت أُسُسًا حقيقية لعلاقات استراتيجية متوازنة بين العراق والولايات المتحدة، إلا إن العراق سيظل مطالَبًا بتحمُّل المسؤولية الأساسية عن إصلاح عمليته السياسية واقتصاده المتأزِّم ووضعه الأمني الهشّ، ويتعيّن عليه أن يبني خياراته السياسية بعيدًا عن بقاء أو رحيل القوات الأميركية، لأن الفصائل المسلحة ومن بعدها إيران، ستحاول البناء استراتيجيًّا على مخرجات هذا الحوار.
كما ينبغي على حكومة الكاظمي بذل مزيد من الجهود في إطار ضبط حركة الفصائل المرتبطة بإيران، بالشكل الذي يُعيد للعراق صورة الدولة القادرة على فرض سلطانها القانوني على جميع التراب الوطني، وذلك عبر العديد من الإجراءات التي ينبغي أن تُقْدِم عليها الحكومة العراقية، وبالشكل الذي يقلِّل من المخاوف الأميركية في هذا الإطار، خصوصًا أن الفصائل المسلحة ستفقد حيّزًا كبيرًا من “خطاب المقاومة” الموجّه للداخل بعد خروج القوات القتالية الأميركية من العراق، وبالتأكيد ستبحث عن خطاب جديد يحفظ سلاحها ونفوذها.