تسير كُرة اللهيب المتدحرِجة في الشارع الإيراني بصورة متسارعة، تحرق في طريقها الكثير من مساعي التبريد والتهدئة، بعدما تجاوزت الاحتجاجات الشعبية المستمرة لليوم الثالث عشر على التوالي خطوطها الحمراء المتوقعة، منحدرة من نقطة الانطلاق الأولى، خوزستان (جنوب غرب البلاد)، إلى العاصمة طهران ومحيطها.
وزخرت مواقع التواصل الاجتماعي بعشرات المقاطع المصوَّرة لتظاهرات حاشدة في عدة مناطق، أبرزها في محافظات أذربيجان الشرقية، وخراسان الشمالية، ولرستان، وأصفهان، تضامنًا مع المتظاهرين في خوزستان، فيما فشلت محاولات السلطات فضّها بالقوة.
التظاهرات التي خرجت بداية الأمر من جنوب البلاد تنديدًا بشحّ المياه، تعززت بموجات متلاحقة من المتضامنين من بقية المحافظات، لا سيما بعد سقوط 8 قتلى على أيدي قوات الأمن بحسب إحصاء منظمة العفو الدولية، فيما ردّد المتظاهرون هتافات ضد المرشد الأعلى علي خامنئي، في دلالة تعكس أن الأمر تجاوز أزمة المياه والكهرباء إلى ما هو أكبر من ذلك.
الوصول للعاصمة
اتّسعت رقعة التظاهرات في البلاد لتصل أمس الاثنين إلى قلب طهران، حيث شارك المئات في مسيرات احتجاجية مندِّدة بالوضع الاقتصادي المترهِّل، وغياب شبه تام للمرافق العامة، فيما حمّلَ الغاضبون الحكومة والنظام مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع.
ومن شارعي وليعصر وجمهوري، في وسط القلب التجاري والسياسي بالعاصمة، رفع المتظاهرون هتافات مدوية ضد المرشد، مردّدين “الموت للديكتاتور” بجانب أخرى تطالِب بتنحّي رأس المؤسَّسة الحاكمة وإبعاد رجال الدين عن المشهد السياسي برمّته.
الهتافات التي ردّدها المتظاهرون ورقعة الاحتجاجات التي تتسع يومًا تلو الآخر تعكس حالة الاستياء العام إزاء السلطة التي فشلت في التعاطي مع الملفات الحياتية للمواطنين، الأمر الذي زاد من تفاقُم الأوضاع وتردّي الحالة المعيشية، ما دفع بالملايين من الإيرانيين إلى مستنقعات الفقر المدقع.
وبدأت السلطات الإيرانية مطلع يوليو/ تموز الجاري قطع الكهرباء في طهران وبعض المدن الكبرى بجدول زمني محدَّد، بدعوى زيادة الطلب بسبب ارتفاع درجات الحرارة، فضلًا عن تراجع معدلات الأمطار هذا العام مقارنة بالأعوام السابقة، وهو ما كان له أثره على مضاعفة الضغط على المحطات الكهربائية التي اضطرت لتقليل ساعات العمل حماية لها من التعطُّل التام.
خوزستان.. شرارة الانطلاق
من جنوب غرب البلاد، حيث خوزستان الغنية بالنفط، كانت شرارة انطلاق موجة الاحتجاجات الأخيرة في 5 يوليو/ تموز الجاري، حين تعرّض سكان المدينة لأزمة مياه خانقة، أثارت هلعهم من مواجهة خطر الموت عطشًا، محمّلين السلطات مسؤولية الأزمة.
نائب الرئيس الإيراني إسحاق جهانجيري، توجّه الجمعة الماضية إلى المحافظة الجنوبية -بناءً على تعليمات من المرشد الأعلى- لمقابلة زعماء العشائر هناك، في محاولة لتهدئة الأجواء وطمأنة المواطنين بحلحلة المشكلة في أقرب وقت، آملًا في وقف موجة الاحتجاجات المتصاعدة التي تجاوزت نطاق السلمية.
لكن يبدو أن اللقاء لم يجنِ حصاده المأمول، حيث نشرت وكالة “فارس” الإيرانية مقطع فيديو يوثِّق الاحتجاج الساخن الذي شهده لقاء نائب الرئيس بزعماء العشائر، وغضب الكثير منهم بسبب أداء الحكومة السلبي وفشلها في التوصُّل إلى حلول جذرية سريعة، رغم مرور أكثر من 10 أيام على اندلاع الأزمة.
اتهمت الأمم المتحدة الحكومة الإيرانية بالإهمال في مواجهة “وضع كارثي”، معتبرةً أن “إطلاق النار على الناس وتوقيفهم لن يؤدّيا إلا إلى زيادة الغضب واليأس”.
وحاول جهانجيري خلال رحلته التي استمرت يومَين، زار خلالها بعض المناطق التي تشهد أزمة بيئية، منها منطقة الهور العظيم، بجانب تفقُّده حالة السدود في المحافظة، وعلى رأسها سد كرخة؛ تقييم الأوضاع على أرض الواقع بهدف تقديم معالجة سريعة لها، حيث التقى مع عدد من الخبراء والنُّخب في تلك المناطق والاستماع إلى آرائهم لإنقاذ الوضع قبل المزيد من التفاقُم.
وتُعتبَر خوزستان، تلك المدينة الحيوية المطلّة على الخليج، والتي تقطنها أقلية من العرب السنّة، تعاني من التهميش السلطوي، بينما هي إحدى أغنى محافظات البلاد والبالغ عددها 31 مدينة، كما إنها واحدة من قلاع إنتاج النفط في إيران، غير أنها تعرضت خلال الأعوام الماضية لموجات حرّ شديدة وعواصف رملية موسمية، أدّت إلى جفاف كبير في سهولها ما تسبَّب في شحِّ المياه بأوديتها.
تنديد حقوقي
تعرضت السلطات الإيرانية لانتقادات حقوقية حادة، على المستوى الدولي والإقليمي معًا، لا سيما بعد الولوج إلى مستنقع العنف والمواجهات المباشرة بين المتظاهرين ورجال الأمن، التي أسفرت عن سقوط قتلى وأضعافهم من الجرحى والمصابين، وسط إصرار رسمي على المضي قدمًا في دحر الاحتجاجات.
الأمم المتحدة، وعلى لسان المفوضة السامية لحقوق الإنسان بالمنظمة ميشيل باشليه، قالت في بيان لها الجمعة الماضية، إنه “على الحكومة التركيز على تأثير الأزمة الرهيبة لندرة المياه في حياة سكان الأحواز، وصحتهم وازدهارهم، وعلى احتجاجات المواطنين اليائسين بعد سنوات من الإهمال”.
واتّهمت المفوضية الحكومة الإيرانية بالإهمال في مواجهة “وضع كارثي”، معتبرة أن “إطلاق النار على الناس وتوقيفهم لن يؤدّيا إلا إلى زيادة الغضب واليأس”، موضحة أن المصابين رفضوا الذهاب إلى المستشفى خوفًا من توقيفهم، مذكّرة بـ 4 حالات وفاة في صفوف المتظاهرين، بالإضافة إلى شرطي، لكنها لفتَت إلى أن معلومات غير مؤكدة تشير إلى عدد أكبر من الضحايا.
وفي بيان له، طالب “مجمع مدافعي حقوق الإنسان”، الذي ترأسه الناشطة شيرين عبادي، الأمم المتحدة بالتدخل لوقف العنف ضد المحتجّين المطالبين بحق المياه والأنهار، وكانت العديد من المنظمات الحقوقية المحلية والإقليمية قد اتّهمت طهران خلال الأيام الماضية بالاستخدام غير القانوني للقوة المفرطة في مناهضتها للاحتجاجات، سواء في الحراك المشتعل في خوزستان أو المنتقل إلى العاصمة والمدن القريبة منها، محذِّرة من تداعيات استخدام تلك القوة وما قد ينجم عنها من تسخينٍ للأجواء المشتعلة بصورة يصعب السيطرة عليها.
يسعى المرشد وحاشيته إلى كسب المزيد من الوقت عبر تسكين الشارع بالبُعد التآمري الخارجي تارة، والإسراع لحلِّ الأزمة تارة أخرى، على أمل تطويق رقعة الاحتجاجات، تجنُّبًا لمزيد من التصعيد ربما يُدخِل البلاد في أتون العنف مرة أخرى.
هل تنجح المسكّنات؟
تضع الموجة الراهنة من الاحتجاجات وما سبقها من موجات أخرى بعضها كان أشد عنفًا، سلطة المرشد الإيراني في زاوية ضيقة للغاية، لا سيما بعدما استأثر المتشدِّدون بالملعب دون غيرهم، بعد الإطاحة بالإصلاحيين من كافة أركان الدولة وجهاتها السيادية خلال الانتخابات التي جرت مؤخرًا.
وتضاف أزمة الشحّ المائي إلى قائمة طويلة من الأزمات التي فشلت السلطات في علاجها، على رأسها انقطاع التيار الكهربائي، وارتفاع الأسعار والخدمات، وزيادة معدلات البطالة، والتضخُّم وتراجع الاحتياطي النقدي، وتفاقم أعباء الدولة والمواطن على حد سواء، وهي الأزمات التي تتحمّل العقوبات الخارجية المفروضة على البلاد النصيب الأكبر منها.
المرشد علي خامنئي، في محاولة للهروب من المأزق الحالي، ألمحَ إلى وجود أصابع خارجية تفاقِمُ المشهد جنوبًا، داعيًا سكّان خوزستان إلى عدم توفير “ذريعة” لأعداء إيران، على حد قوله، مشدِّدًا في الوقت ذاته على أنه لا يمكن “لومهم” لإبداء انزعاجهم من هذه “المشكلة”.
وجّه خامنئي رسالة لسكان المناطق الجنوبية، قال فيها إنه “على الناس أيضًا أن ينتبهوا إلى أن العدو يريد الاستفادة من كل شيء صغير ضد البلاد والثورة الإسلامية، وضد المصالح العامة للناس”، مشيرًا إلى أنه “خلال الأيام السبعة أو الثمانية الماضية كان أحد هواجسنا قضية خوزستان والمياه ومشكلات الناس هناك”.
وأضاف: “إنه لأمر مؤلم حقًّا أن يرى المرء أن محافظة خوزستان، مع هؤلاء الناس الأوفياء وهذه الإمكانات والموارد الطبيعية والمصانع الكثيرة الموجودة في تلك المحافظة، يصلُ فيها وضع الناس إلى نقطة تجعلهم منزعجين ومستائين”، مشدِّدًا على أنه “الآن وقد أعرب الناس عن انزعاجهم لا يمكن لومهم”، معتبرًا أن “مشكلة المياه ليست صغيرة خاصة في ذلك المناخ القاسي لخوزستان”، وذلك وفق بيان نشره موقعه الإلكتروني.
يسعى المرشد وحاشيته إلى كسب المزيد من الوقت عبر تسكين الشارع بالبُعد التآمري الخارجي تارة، والإسراع لحلِّ الأزمة تارة أخرى، على أمل تطويق رقعة الاحتجاجات، تجنُّبًا لمزيد من التصعيد ربما يُدخِل البلاد في أتون العنف مرة أخرى، وهي المعركة التي يتجنّب خامنئي الدخول فيها -قدر الإمكان- في هذا الوقت الحرج.
وتعاني السلطة الإيرانية من ضغوط داخلية وخارجية شديدة الوطأة، أرهقت قدراتها في إدارة المشهد، في ظلِّ فشل ذريع وغياب الخبرة السياسية القادرة على التعاطي مع التطورات والمستجدّات الأخيرة، ما أفقدها الكثير من أدوات التعامُل مع مثل هذه الاحتجاجات والأزمات.
وتمثِّلُ الأيام القادمة ساحة اختبار صعبة أمام الرئيس الإيراني الجديد وحكومته الأصولية، ما بين التعاطي بحنكة مع تلك الاحتجاجات التي يَخشى من تداعيات تصاعدها على مستقبله السياسي (مستغلًّا في ذلك علاقات بلاده الجيّدة مع بعض القوى المناهضة لأميركا مثل روسيا والصين)، أو الانخراط في مواجهات دامية لوأدها بأي طريقة، ما قد يقود البلاد إلى منزلق خطير.